السيمر / الثلاثاء 27 . 09 . 2016
احمد الشرقاوي / مصر
إن من قتل الشهيد ناهض حتر.. إنما أنهى الحياة من جسده، لكنه حرر روحه لتحلق في العلياء بجوار ربها، وسقى بدمه الطاهر بذور أفكاره لتونع ثورة من أجل الحرية في قلوب شرفاء الأردن ولو بعد حين..
هذه المرة لن أدين وأشجب واستنكر ما فعله قاتل الشهيد ناهض حتر، بالرغم من أننا ننتمي إلى نفس المعسكر، وبالرغم من أن لا أحد منا في مأمن من غدر الوحش، لأن ناهض حتر لم يكن الأول ولن يكون الأخير بالتأكيد، ولأن من اختار الجهاد بالكلمة في معسكر المقاومة هو كمن اختار القتال بالبندقية لا فرق، فكلاهما مستهدف وكلاهما طالب شهادة..
وهذا فخر لنا يجعل لوجودنا معنى ويضفي على حياتنا طعم العزة، فيزيد من حماستنا وإصرارنا على التحدي والمواجهة، لإيماننا أن ما نقوم به ينبع من إرادتنا الحرة بوازع الضمير الذي لا يباع ولا يشترى، لأن من يسعى في مصلحة الأمة لا ينتظر جزاءا إلا من رب الناس، في حين أن من يسعى في خرابها يقوم بذلك إرضاءا لـ”رب الدواعش”.. وبفضل هذه العقيدة الجميلة، يتحول القلم بين أصابعنا إلى بندقية والكلمة إلى رصاصة تصيب هدفها بدقة..
ولأن الخوف هو أسرع طريق نحو الهزيمة.. فقد اختار من يحمل البندقة أو القلم في معسكرنا أن يتحول إلى مقاوم شرس يتحدى الموت ويقارع الشر بشجاعة، لأنه السبيل الوحيد لتحقيق الانتصار والطريق الأوحد للخلاص، أما الذين آثروا الصمت، فهم شركاء في الجريمة مثلهم مثل القاتل لا فرق..
وما عسى أن تنفع إدانة القاتل الذي هو بالمحصلة أداة وضيعة تنتمي لقاذورات البشر، ولا تعدو أن تكون مجرد ضحية لمنظومة إديولوجية ترعاها الأنظمة السياسية العميلة التي أوجدت بيئة التكفير النتنة خدمة لأهداف لم تعد خافية على أحد.. لأن الفكر المشرق الجميل لا يمكن أن ينمو ويتطور وينتج ويساهم في تنوير الناس إلاّ في فضاء سياسي نظيف يضمن حرية الرأي والتعبير ويحترم الاختلاف وينظم الخلاف بثقافة التسامح.
وإذا كان فينا اليوم من يحرص على تسمية الشر بـ”الدولة الإسلامية” مخافة أن يصل سكين الإرهاب إلى عنقه، فهناك من يُصرّ على تسمية “داعش” بالشر المطلق، ولا يهمه ما قد يحصل له جراء ذلك، لأنه بذلك، يكون قد قبل أن يعلن موقفه الواضح الصريح من هذه المنظومة السياسية والإديولوجية المتوحشة دون مواربة، لإيمانه أنها ليست منظومة إسلامية تستحق هذه الصفة، ولا هي بمنظومة سياسية تستحق أن تصبغ عليها شرعية مؤسساتية لا تملكها ولا تستحقها..
وبالتالي، فما فعله ناهض حتر من خلال نشر الكاريكاتير المثير للجدل، هو أنه تجاوز “داعش” الأداة وذهب رأسا ليتهم من يقف وراء هذا التنظيم المجرم، فسماه بـ”رب الدواعش”، وهي الرسالة التي فهمها جيدا العاهر الأردني “صانع الدواعش” أو “سيدهم” أو”ولي أمرهم” الذي حوّل الأردن إلى مفرخة للتكفير والإرهاب خدمة لأسياده في واشنطن وتل أبيب، وهو تعبير يتساوق مع ما تحتمله لغة العرب من مجاز كقولك مثلا “رب المصنع” أو “رب العمل” أو “رب البيت” وما شابه..
أما رب الناس فموضوع آخر لا علاقة له بهذا الوصف.. بل حتى من وجهة النظر الدينية الشرعية على افتراض صحة ما ذهب إليه المتطرفون من اتهام مغرض لتمسكهم بقشور الظاهر بدل لب الجوهر، فإن “ناقل الكفر ليس بكافر”، والكاريكاتير في هذه الحالة ليس من رسم الكاتب، بل نقله عن جهة أخرى ليحوله إلى رسالة يبعث بها بطريقة غير مباشرة إلى من صنع الوحش واحتضنه ورعاه ليسلطه على رقاب الأمة، انسجاما مع حروب أمريكا بالوكالة ضد الله ودينه وعباده الآمنين المسالمين، وقد أوضح الكاتب هذا الأمر في حينه واعتذر ممّن التبس عليه التعبير وذهب به الفهم مذاهب بعيدة غير صائبة.
وكان يفترض أن يكون توضيح واعتذار الكاتب كافيا لرفع الالتباس، لكن الحكومة الأردنية في شخص رئيس وزرائها ووزيرها في الداخلية، وبتعليمات من القصر الذي لا تفوته كبيرة ولا صغيرة، أصرّت على محاكمة الكاتب على رأي خاص ظاهره ديني وجوهره سياسي، لأنها رأت في المحاكمة تصفية حسابات سياسية مع المناضل الذي أحرجها في أكثر من مناسبة وموقف، وكان حري بها أن تحاكم أكثر من 200 متطرف نشروا تعليقات تحمل تحريضا صريحا على القتل ضد المناضل في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي جريمة لا تعفي الحكومة من أوجب واجباتها، ألا وهو ضمان الحق في الحياة لمواطنيها، لكنها فضلت إخراج الكاتب من السجن بكفالة ورفضت تمتيعه بالحماية، في إجراءات مشبوهة توشي بأنها هي من تقف وراء عملية الاغتيال السياسي بأسلوب عصابات المافيا..
والسبب هو أن ناهض حتر قرر السير على درب موسى عليه السلام حين توجّه للملك شخصيا بخطاب ناري ينزع عنه الشرعية، وهذا ما أثار جنون هُبـل القادم من زمن الجاهلية، فقرر الانتقام..
ومعلوم أنه في العالم العربي “ذات الجلالة” تعني “ذات الملك” لا “ذات الله”، وهي مُقدّمَة في التبجيل والتقديس الذي لا تستحقه إلا “الذات الإلهية” المنزهة، في ظاهرة توحي بأن النظام الرجعي العربي عاد بالأمة إلى زمن الفراعنة حين كان الملك هو الرب الذي يعبده الناس، وهو بذلك (أي النظام العربي) تجاوز تداعيات ثورة موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام الذين بعثهم الله ليحرروا الناس من عبودية الملوك والحكام، خصوصا “الملك الإله” الذي كان يقول لرعيته: (أنا ربكم الأعلى لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد)، ولينزعوا عنه شرعية الربوبية ويعيدوها إلى صاحبها الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله، وفي هذا قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: “ما من إنسان في هذا العالم إلاّ وفيه شيئ مما قاله فرعون”.
*** / ***
ولأن الجريمة هذه المرة هي سياسية بامتياز ولا علاقة لها بالدين من قريب أو بعيد، فمن يستحق الإدانة والشجب والاستنكار هو النظام الأردني الصهيوني العميل الذي يحارب الكلمة حين تصبح أقوى من الرصاصة فتصيب عقله وقلبه وتنغص عليه أمنه واستقراره وتهدد عرشه بالزوال، مخافة أن تهز بمعانيها الشجاعة الشعب بزلزال، ولا مشكلة في أن يفعل ذلك باسم الدفاع عن “الذات الإلهية” المفترى عليها ليعطي لجريمته السياسية غطاءا دينيا من باب التعمية والتضليل..
بدليل، أن من تحرك ضد ناهض حتر ليست مؤسسة القضاء من تلقاء نفسها، بل الدولة الأردنية بكافة أركانها، بعد أن فهم العاهر الأردني من رسالة ناهض حتر، أن المقصود ب”رب الدواعش” هو من قرر تبني الوحش لخلق نوع من توازن الرعب داخل المجتمع الأردني عملا بسياسة فرق تسد، وخدمة لمشروع تخريب الشرق الأوسط الذي لم يبقى منه كيان قائم على قدميه سوى إيران، وتركيا و”إسرائيل” إلى حين، والدور قادم على الأردن قبل مشيخات الخليج، لأن ضم “إسرائيل” للضفة الغربية كما طالب “النتن ياهو” من واشنطن هذا الأسبوع، سيحوّل الأردن إلى وطن بديل بحكم الضرورة.. لا مفرّ.
إن من اغتال ناهض حتر أيها السادة، حاول اغتيال الرمز الذي يتمثل في الكلمة التي قالها موسى لفرعون وكادت تودي بحياته لولا أن الله أيده بمعجزة خارقة غيرت مجرى الأمور، وهي ذات الكلمة التي جعلها الله حديث البدايات والنهايات ومنطلق الفهم والممارسات وأمر عباده بها في أول آية من أول سورة نزلت على محمد.. وللإشارة، فهي ذات الكلمة التي حين التزم بها المسلمون العظام، حوّلوا الإسلام إلى دين مُعولم، فنشروا أفكار أعلامه، وعلوم عباقرته، ومعارف رجاله العاشقين لله، وثقافة شعوبه المجاهدة والمنتجة والفاعلة في التاريخ والحضارة لقرون طوال ساهمت في إخراج البشرية من الظلمات إلى النور.
والمفارقة اليوم، أن الاغتيال السياسي تم باسم الله ودفاعا عن ذاته التي لا يعرف منها القاتل غير صورة مشوهة عن ‘هبل’ الذي ترسخ في عقله منذ عهد الجاهلية الأولى.. وهو ما يؤشر إلى أن المطلوب هو إجهاض أية محاولة لنهضة فكرية وعلمية وثقافية مفتاحها الكلمة وبوابتها حرية الرأي والتعبير وسلاح التفكير ضد التكفير، لتعود الأمة إلى سباتها العميق في ظلمات ليلها الطويل خوفا من أن تتأثر بالثورة والنهضة الإسلامية الإيرانية التي تخيف الغرب أكثر من أي خطر آخر في هذه الأرض.
لأن مصيبة التكفيريين الجدد، أنهم لا يكتفون فقط بإنكار الحقائق القرآنية لعدم إدراكها من جهلهم، بل وصل بهم الغباء والعمى المعرفي درجة جعلتهم يعبدون إلها لا يعرفونه حق المعرفة، فتصوروه على شاكلة طبيعتهم الحيوانية إلها متوحشا غاضبا مكفهرا لا هم له سوى القتل والذبح ورؤية الدماء تسيل أنهارا، إله على شاكلة غرائزهم البهيمية لا هدف لجهاد أتباعه في الدنيا والآخرة غير الغنيمة ومتعة النكاح..
لأن معرفة الله كما يقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله تمر أولا عبر معرفة الإنسان لنفسه، لقوله (من عرب نفسه فقد عرف ربه)، وبهذا المعنى، فالرب الذي يقاتل من أجله “الدواعش” هو أمريكا، كما تقاتل “النصرة” من أجل “إسرائيل”.. ولا علاقة لرب الناس الرحمن الرحيم بما يفعله المجرمون باسمه وهم لا يعرفونه لا ذاتا ولا موضوعا، لأنهم مسحورون فاقدين لنور العقل ورحمة الإيمان.
والنظام في الأردن مثله مثل بقية الأنظمة الاستبدادية العربية التي لا علاقة لها بالله ورسوله ودينه، لأنهم يصرون على تحويل الإسلام من رسالة محمدية برؤية إنسانية حضارية إلى عقيدة إديولوجية متطرفة ومغلقة، بممارسات عنصرية وبربرية، ليسود التصحر عقول الناس، ويعم الظلام قلوبهم، فتتحول الأوطان إلى خراب والمجتمعات إلى دواب لا تميّز بين الخير المحض والشر المطلق..
ثم يخرج علينا العاهر الأردني وحرمه ليلقنوننا دروسا في الاعتدال.. يقولون أن التكفيريين هم خوارج العصر.. لكن ما فائدة الدرس إذا كان مفهوم الخوارج في عرفهم يعني حرفيا “الخروج عن ولي الأمر”، أما الخروج عن الله ورسوله ودينه من خلال القتل والخراب الذي تمارسه جماعات الإسلام السياسي التي يدعمها الأردن في سورية مثلا، فلا تعتبر خروجا عن الله ما دام الذبح يتم باسمه، وصناعة الحرب تكون بمشيئته نصرة لدينه الذي يزعم التكفيريون أنهم يقاتلون من أجله بدعم من أمريكا و “السعودية” وتركيا وقطر و”إسرائيل”، ومع ذلك، وقف العرب شهود زور بصمتهم المشبوه أمام انتهاك “الدواعش” ومن يقف ورائهم لأقدس حق وهبه الله للإنسان، ألا وهو الحق في الحياة، فتحولوا بذلك إلى شهود زور سيسألون عن موقفهم هذا أمام الله يوم العرض.
أليس النظام الأردني هو من فتح معسكرات لتدريب التكفيريين على أرضه، وغرفة عمليات تضم مخابرات “إسرائيل” وأمريكا والأطلسي ودول التآمر العربي، وسمح لعشات الآلاف من المرتزقة المجرمين بعبور أراضيه نحو سورية بأسلحتهم الثقيلة والخفيفة مقابل حفنة من دولارات الزيت التي كان يقامر بها العاهر الأردني في كازينوهات مدينة الخطيئة ‘لاس فيغاس’ بولاية نيفادا؟..
وكان الإعلام الأردني المنافق يروج لمقولة أن النظام في عمان لا يدعم الإرهاب ولا يتدخل في الشأن السوري ويرفض اتهامات دمشق جملة وتفصيلا، لأنه وفق زعمه، من المستحيل مراقبة الحدود الوعرة بين الأردن وسورية، لكن عندما كان يحاول أحد المقاومين العبور من الأردن نحو فلسطين المحتلة ولو بسكين كان يعتقل على الفور حرسا على أمن “إسرائيل”.. فيا للفضيحة!..
*** / ***
هذه حرب حضارية ضروس أيها السادة، تداس فيها القيم الدينية والأخلاق المحمدية والمبادئ الإنسانية الكونية، وتدمر فيها الآثار ويمحق التاريخ وتسحق الثقافة وتمزق الهوية إلى أشلاء.. ولا فرق بين من اختار أن يخوضها بالحرف أو بالبندقية من الشرفاء على قلتهم.. لكن المصيبة تكمن في الفئة المسحورة التي اختارت التموضع في الضفة المعادية لمحور المقاومة من جهة، والشريحة الواسعة من الجهلة والأغبياء الذين آثروا الصمت السلبي بدعوى أن الأمور اختلطت عليه فلم يعودوا قادرين على التمييز بين الشر والخير من جهة ثانية، ومنهم فئة منافقة تشبه اليهود في موقفهم الذي يبررونه بالقول:”اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين” كما يكتب عديدهم بانتهازية خبيثة على مواقع التواصل الاجتماعي.
ناهض حتر أيها السادة كان مجرد ضحية، أما العنوان فكان المقاومة كهوية دينية وقومية وثقافية أرعبت الصهاينة وعملائهم بالانتصارات التي حققتها إن في ساحات القتال أو ساحات الفكر والإعلام، وقد رأينا الداعية التكفيري العريفي يصرخ في وجه النظام “السعودي” مؤخرا بالقول “لقد انتصر إعلام المقاومة علينا”، برغم الفارق بين الإمكانات المادية والمقدرات البشرية التي لا تقارن، وبرغم الحصار الإعلامي الخانق المضروب على وسائل إعلام محور المقاومة، والتضييق والمتابعات التي تتم من قبل المخابرات في حق المناضلين بالكلمة الحرة الشريفة، في وطن عربي سرق من أهله بليل، وتحول إلى أكبر معتقل لحرية الرأي والتعبير، وأصبح نهج التكفير بديلا عن ثقافة التفكير.
والأردن ليس استثناء في هذا الباب، فقد كان العاهر الأردني أول من تحدث عن الهلال الشيعي تحضيرا لحطب نار الفتنة المذهبية التي كانت أمريكا و”إسرائيل” و”السعودية” يسعون لإضرامها لوأد فكرة وحدة الأمة وحسم مصيرها، وحذر من الغزو الإيراني.. لكن ما ذنب الشيعة إذا كان الهلال الشيعي الذي تحدث عنه العاهر الأردني هو الجانب المنير من القمر المظلم كما ألمح إلى ذلك الرئيس نبيه بري ذات تعقيب في محاولة ذكية، معبرة، وذات دلالة بالغة لتوضيح حقيقة الصورة في الأرض كما هي في السماء من خلال لعبة النور والظلام؟..
أمتنا لا تحتاج لدروس العاهر الأردني وحرمه حول الخوارج، لأن شبابنا المتنور يعرف الفرق بين شريعة المقاومة دفاعا عن الحق المقدس في الحياة وشريعة صناعة الموت.. بين شريعة النضال من أجل الحرية والعيش بكرامة وشريعة الدواب التي كل همها المتعة والنكاح.. بين شريعة رب الناس التي تحث على المساواة والعدل الاجتماعي والاقتصادي وشريعة “رب الدواعش” التي تغسل للضحايا أدمغتهم وتنسيهم إنسانيتهم وتولد فيهم العنف والتوحش لتكريس الفقر والتفاوت الاجتماعي والقبول بالاستبداد والفساد بهاجس الخوف مقابل أن تعيش الرعية مستكينة كالأنعام في زريبة الراعي.
إن الحرية في مفهوم الشرفاء لا تعني الهروب من الواقع خوفا من التبعات، بل تعني حرفيا أن المواطن هو من يصنع حريته بقدر ما يصنع سلطته من خلال ممارسته لحقوقه داخل بيئته لكسر القيود التي يفرضها الإقطاع على حرية التفكير والتعبير.. وهذا هو أول الطريق نحو التغيير الذي قدم المناضل ناهض حتر دمه الزكي ثمنا له اليوم.
والحرية بهذا المعنى، ترفض وصاية الأنظمة الاستبدادية الرجعية على إيمان الناس وعقيدتهم المذهبية الإسلامية أو المسيحية، لأنها ضد أحادية الحقيقة وعقلية الاصطفاف مهما بلغ الاختلاف بين الناس في الرأي والاجتهاد، فكل إنسان حر في ما يعتقده ويراه، والحوار هو الأسلوب الوحيد للتقريب بين الناس بدل أسلوب حرب الإقصاء والإلغاء.
إن من يصادر حرية الناس هو من يدعو لتبني الأفكار الإديولوجية المُجترّة من ثقافة القبور بدل الانطلاق من الواقع لفهم خبايا النص المقدس، هذا الواقع الذي نعيشه ونتشارك تداعياته سويا ويؤثر في اجتماعنا وحياتنا ووجودنا سلبا أو إيجابا حسب طريقة تعاملنا معه بمنطق المعالجة أو الرفض، وبقدر تشبثنا بقيمنا وإصرارنا على تحويلها إلى ممارسات نبيلة على الأرض، بدل التمسك بشعارات فارغة عفى عنها الزمن وغير قابلة للتطبيق لأنها لا تعني ما تقوله..
لأنه إذا كان الإسلام هو دين العقل كما ندّعي، فعليا أن نبدأ بتصحيح معتقداتها المؤسسة على النقل أولا، ما دام الدين هو نص صامت نتعامل معه بعقولنا نحن لا بعقول الآباء والأجداد، وكل منا يأخذ منه ما يحتاجه لمواجهة واقعه وفق مستوى وعيه وإدراكه وما تقتضيه مصالحه ومصالح أمته، فننتج حلولا عملية لمشاكلنا بدل تعميق أزماتنا ومضاعفة مآزقنا من سوء فهمنا استنادا إلى دوافع عاطفية ى عقلانية تفرقنا بدل أن يكون العقل المنتج الفعّال هو الأداة المولدة للفهم الذي يجمعنا حول الثوابت كأمة.
هذا الهدف النبيل لا يمكن أن يتحقق في ظل المنظومة السياسية والإديولوجية العربية القائمة، لأن التفكير يحتاج إلى بيئة ملائمة ومنظومة سياسية داعمة ومجتمع منفتح ومتقبّل للتغيير، ما دام المطلوب منا اليوم وأكثر من أي وقت مضى هو العمل على أنسنة ديننا لإصلاح العلاقة مع الله والذات والأمة، وتقديم صورة مغايرة لإسلامنا للعالم الذي أصبح ينبذنا ويحتقرنا، صورة إسلام المحبة والخير من خلال العمل والممارسة، لا إسلاما متوحشا منافيا لطبيعة الرسالة القرآنية الإنسانية والأخلاق المحمدية النبيلة، وهذا يتطلب منا مراجعة فهمنا وإعادة تشكيل وعينا وتغيير الكثير من قناعاتنا الخاطئة.
ومفتاح التغيير كما أسلفنا يبدأ بـ “الكلمة”، ليكون لكل منا حرية التفكير والرأي والتعبير..
ولنتذكر دائما وأبدا، أنه من أجل “الكلمة” استشهد اليوم المناضل ناهض حتر كما استشهد كثيرون غيره من قبل.