السيمر / الثلاثاء 27 . 09 . 2016
سامي كليب / لبنان
لا يشبه مظهره الخارجي سوى الفوضى العارمة في شرقنا. ولا شبيه لصوته الجهوري الصادح، سوى أصوات أولئك المتمردين حتى الموت. لم يكن وسطيا ولا يحب الوسطيين. يجاهر بكره من يكره ويغالي بحب من يحب. قال إنه ضد الفكر الإسلامي السلفي والإخواني. ناصر المقاومة بزعامة «حزب الله». جذبته شخصية السيد حسن نصرالله. أراد أن تعود فلسطين. ناهض الكيان الإسرائيلي، لكنه لم يؤيد مطلقا دورا كبيرا للفلسطينيين في الأردن. أيد الرئيس بشار الأسد حتى في أوج اتهامات سوريا للأردن. هو ضد السياسة الأردنية في سوريا، لكنه ليس ضد الملك. لا بل لعله اعتقد يوما أن الحركة اليسارية الوطنية التي يفاخر بأنه أحد رجالها البارزين، قد تجد في التقارب مع العرش فرصة لمواجهة الإسلاميين وغيرهم.
حين طرح فكرة المسيحية المشرقية، عارضناه أنا ومجموعة من الزملاء في الشكل وأيدناه في بعض الجوهر. هو اعتقد أن المسيحيين ليسوا مجموعة إضافية في هذا الشرق أو فريقا طارئا، بل هم في صلبه وهم في درة تاجه وعليهم بالتالي أن يلعبوا دورا محوريا نهضويا كبيرا في دول المنطقة، من لبنان الى سوريا والأردن فالعراق وفلسطين، يؤسس لنهضة أوسع تشمل الجميع. نحن اعتقدنا أن من غير المناسب في عصر الفتن طرح مشرقية للمسيحيين وأخرى للمسلمين وأن من الأفضل توفير إطار جامع لكل مكونات هذا الشرق دون تمييز بين عربي وكردي وسرياني واشوري وكلداني، أو بين مسلم ومسيحي. لم نستطع إقناعه. راح يحاججنا بأن «المسيحية المشرقية» ليست حركة طائفية بل مشروع قومي. هو ليس من النوع الذي يقتنع بسهولة. عنيد في دفاعه عن فكرته، شرس في التعبير عنها، قاس في تهشيم الخصوم. لكنه في كل حالاته يستند الى عمق معرفي واطلاع موسوعي أثمر ما لا يقل عن 15 كتابا ومئات المقالات والدراسات والمشاريع السياسية.
هذا المثقف الضاج بالحياة، كان يتمتع بالمشاغبة والتمرد والمحاججة. لعلنا جميعا فوجئنا بخبر اغتياله إلا هو. كان يعرف أن مصيره الاغتيال. جاءته تهديدات كثيرة. الشيخ الذي زاره قبل يومين تلقى هو الآخر تهديداً بالاغتيال. ربما شعر بالقلق. ربما خاف. هذه مشاعر إنسانية طبيعية وسط الحرائق الكثيرة في هذا الشرق، لكنه لم يوح يوما بالخوف والقلق. كلما سألناه عن احتمال الاغتيال، كان يسوّي نظارتيه السميكتين، يمسح الجانب الأيسر من فمه، ويضحك…
رسائل الاغتيال
لنفترض الآن أن من اغتال ناهض حتر كان مستاءً فعلا من رسم كاريكاتوري ومن عبارة «رب الدواعش» على صفحة ناهض. لنفترض أنه لم يقرأ من كتب ناهض سوى تلك العبارة. هل كان سينفذ جريمته لو أن المستهدف ليس ناهض حتّر؟ نطرح هذا السؤال للأسباب الآتية:
أولا: إن ناهض حتر نفسه أوضح انه لم يقصد الإساءة الى الذات الإلهية بل الدفاع عنها وتسخيف الإرهابيين. ثم سحب ما كتبه بعدما تبين له أن ثمة من أساء فهمه. هو اعتذر من هؤلاء، وسلط الضوء على من يتعمد استغلال الأمر لتصفية حسابات.
ثانيا: جاء تنفيذ الاغتيال صبيحة الاحد، وهو يوم له رمزيته عند الطائفة المسيحية التي ينتمي اليها ناهض حتر. هل اختار القاتل هذا اليوم عمدا أم لأنه أول يوم المحاكمة؟ لماذا لم ينفذ الجريمة مثلا في يوم آخر وفي مكان أقل خطورة؟
ثالثاً: جاء الاغتيال على مدرج قصر العدل. كان الجميع يعرف أنه اليوم الأول من محاكمة «المتهم». يبدو أن القاتل تعمد أن يوقِّع الجريمة في وضح الصباح. أراد الإعلان عن هويته. اختار المكان الذي يحدث الضجة الأكبر. في هذا إذاً رسائل كثيرة ليس فقط للزميل المغدور بل أيضا للدولة الأردنية حيث جاء الاغتيال بمثابة التحذير الواضح.
رابعاً: كان القاتل ذو السوابق الأمنية والمظهر الخارجي الذي يشي بما جاء لأجله، موجودا قبل ساعة من الاغتيال في مكان الجريمة وفق معلومات موثوقة، فكيف حدث الخلل الأمني؟ هل ثمة من تواطأ وسهل الاغتيال؟ هذا مقلق في بلد مشهور بدقة استخباراته وحرفية رجال الأمن فيه. هنا الاغتيال أصاب أيضاً الأمن القومي للدولة الأردنية وهو جريمة ضدها أيضا.
خامساً: كان ناهض حتر مناهضا طبعا للسياسة الأردنية حيال سوريا والمقاومة، لكنه لم يكن على خصومة مع الملك الأردني أو العرش. حين جاء في إحدى المرات الى بيروت، كان يحدثنا بحماسة كبيرة عن احتمال عقد صفقة بين الحركة الوطنية والعرش لمواجهة الإسلاميين. نقل إلينا كثيرا من الحديث الذي جرى بينه وبين العاهل الاردني خلال أحد الاجتماعات الوطنية في القصر الملكي.
سادسا: ليس ناهض حتر عدواً جديداً للحركة الإسلامية بجناحيها السلفي والاخواني. فهو تخصص في الفكر السلفي. جاهر مرارا بموقفه المناهض بشدة للفكر السياسي الإسلامي في الأردن. هذا بالضبط ما يدفع الى الاعتقاد أن اغتياله لا يتعلق بما نُشر على صفحته فقط بل بكل اتجاهه السياسي واستراتيجيته التي كانت تدفعه لعقد لقاءات كثيرة مع المقاومة وحلفائها في لبنان ومع القيادة السورية ومسؤولين إيرانيين وصولا الى موسكو حيث التقينا صدفة قبل شهرين.
سابعا: إن عمليات اغتيال أو محاولة اغتيال كاتب بسبب مواقف دينية ليست جديدة ولا هي تقتصر على طرف واحد، وهي لم تكن ردة فعل عفوية بل بناءً على قراءة متأنية من قبل طرف غير المنفذ. حصل هذا مع نجيب محفوظ وفرج فودة وسلمان رشدي ومهدي عامل وغيرهم… ومن السذاجة اذاً اعتبار اغتيال ناهض ثمرة فعل فردي.
خلاصة الاغتيال
سار ناهض حتر عكس تيارات كثيرة من خلال تقاربه مع محور المقاومة وروسيا. زار دمشق مرارا في أوج الحرب حين كان عدد من حلفاء سوريا يترنحون خشية سقوط النظام. جاهر بالدفاع عن الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله. دافع مرارا عن اقترابه من ايران. كانت مقالته الأسبوعية في صحيفة «الأخبار» اللبنانية محضر اتهام أسبوعياً لكل من يناهض المقاومة ويقترب من المشروع الأطلسي. آمن بأن تدمير سوريا هو مشروع يتخطى النظام والمعارضة. نعت المعارضة السورية بكل النعوت. رأى أن انهيار سوريا هو انهيار ايضا للاردن ودول أخرى وانتشار لمشروع إسلامي سيزداد تطرفا.
ربما أخطأ ناهض حتر بنشر ما فُهم على أنه إساءة للذات الإلهية رغم أنه تراجع وأوضح وسحب ما كتبه واعتذر. لم يكن مضطرا لإثارة من يعرف أنهم قد يقتلونه لسبب عابر. لكن هل الاغتيال هو فعلا انتقام مما نشر، أم أنه عنوان لمرحلة مقبلة سيكون فيها الرصاص مقابل أي فكر مسيحي أو إسلامي مغاير؟
حين سُئل من طعن الكاتب المصري نجيب محفوظ عما اذا كان قد قرأ رواية «ولاد حارتنا» التي بسببها جاء يطعنه، قال: «لا». ولا شك بأن من اغتال الكاتب اللبناني الموسوعي سمير قصير لم يقرأ شيئاً من مؤلفاته بل حاكمه ونفّذ الحكم بناءً على موقفه السياسي.. هنا المصيبة الكبرى، فحين يصبح السيف مقابل الفكر ندرك كم أن الخطر يداهمنا في وطن عربي نهشت فيه الأمية 100 مليون نسمة ومعدل القراءة للفرد العربي لا يتخطى 6 دقائق سنوياً.
السفير اللبنانية