الرئيسية / مقالات / الأمير عبد القادر كما يراه الضابط الدنماركي

الأمير عبد القادر كما يراه الضابط الدنماركي

السيمر / السبت 08 . 10 . 2016

moiamer_habar_45345

معمر حبار / الجزائر

يمكن النظر إلى الأمير عبد القادر رحمة الله عليه من خلال زوايا متعددة، ومن شخصيات جزائرية وعربية وأجنبية. والكتاب الذي بين أيدينا للضابط الدنماركي، في انتظار أن يتفقد صاحب الأسطر أوراقه المتبقية والتي دون فيها من ملاحظات وما نقله من الكتاب وعن الضابط الدنماركي..
Adolph Vilhelm Dinesen ” Abd el – Kader et les relations entre les Francais et les Arabes en Afrique du Nord “, danois aux éditions, Copenhague 1840, 158 pages.
أولا: ملاحظات عامة عن الكاتب والكتاب.. وصف الأمير عبد القادر في التمهيد الذي نقله زميله الدنماركي وختم بها كتابه في صفحة13.. ” إذا إستأنفت الحرب، ستدرك فرنسا أن قوة عبد القادر أكثر من أي وقت مضى “..
وقال عن الأمير عبد القادر في التمهيد للكتاب، صفحة 17.. “بفضل الميزات والمواهب العديدة التي يملكها عبد القادر، إستطاع أن يستفيد من الظروف لصالحه، وقرر أن يكوّن دولة. إستطاع بذلك أن يضع أسس السعادة، والخير، والقوة لشعبه، دون أن يقطع الأواصر بالماضي، ولا أن يتخلى عن تقاليده ” .
ودائما في التمهيد المخصص للكتاب الذي ألفه في جوان 1839 ، يقول.. ” الغرض من الكتاب هو الفهم الواسع لعبد القادر، معتمدين في ذلك على تحليل الوسائل، وسياسة فرنسا وحملاتها العسكرية في إفريقيا الشمالية، باعتباري شاهدا على أحداث 1837، والتي كانت مهمة للجزائر، وتمكنني من إبداء الرأي حول الشعب ووضعيته “. والتمهيد عبر صفحات 11-16، من طرف الأستاذ الدنماركي كلوس كرستان بيدرسان.
الكاتب هو أدولف فيلهام دينسان ، وهو ضابط دنماركي إنضم كمتطوع إلى الجيش الفرنسي المحتل للجزائر سنة 1837. وشهد الكاتب معاهدة التافنة بين الأمير عبد القادر والجنرال بيجو في 1 جويلية 1837، ومن هنا كان إعجابه بالأمير. وتم تأليف الكتاب سنتي 1838-1839. وكان عمر الأمير عبد القادر 29 سنة حين إلتقى به الكاتب الدنماركي. أي الأمير كان في كامل قوته، ثم إنه أبرم معاهدة مع الجيش الفرنسي المحتل والقوي يومها، وبقيادة الجنرال الفرنسي.وإعترف الكاتب أن إنقطاعات إعترضت تحرير الكتاب، وكان جد متواضعا، حين ناشد القارىء بأنه يعتمد على حسن نيته، مبديا إعترافه بالفجوات التي يعاني منها في مجال الأدب.

وتم نشر الكتاب من طرف مؤسسة الأمير عبد القادر
يصف طبيعة الجزائر في صفحة 21، فيقول.. من الناحية السياسية والاستراتيجية، التضاريس أو الهيكل العظمي للجزائر غير مساعد للمجتاح المحتل. السلسلة الجبلية المتوازية تكوّن كما من الحصون الطبيعية بحيث يصعب إختراقها للوصول إلى قلب الجزائر . ويكفي أنه المنطقة الغربية تضم 100.000 شجرة زيتون . يتساءل القارىء المتتبع.. وكيف إستطاعت فرنسا المحتلة أن تخترق هذه الحصون الطبيعية المنيعة لمدة 132 سنة .
ثانيا: الأمير ليس بحاجة لأسطورة.. ويروي الكاتب أسطورة عن الأمير عبد القادر في صفحة 3 ، فيقول.. حين ذهب العجوز محي الدين إلى مكة مع إبنه الوحيد عبد القادر، وحين كان في نزهة، إلتقى بفقير عجوز سلمه 3 تفاحات. واحدة له، والثانية للإبن، والثالثة للسلطان، وحين سأله الأب عن السلطان، أجاب الفقير: “ذلك الذي تركته في البيت حين ذهبت للنزهة “. بالنسبة لأتباع عبد القادر، هذه الحكاية الصغيرة ساهمت في تعزيز سلطانه. وبعدها ذكر أحد الشيوخ، أن الملك جبريل ظهر له وأمره أن يعلن أن الإرادة الإلهية أمرته أن يحكم عبد القادر العرب.
يقول القارىء المتتبع على إثرها .. الأمير عبد القادر رحمة الله عليه، شخص عادي ولا داعي لتضخيمه بالخرافات والأساطير التي نقلها الكاتب الدنماركي عن شيوخ جزائريين. فهو ورث القيادة عن جدارة، وخاض معارك عن بطولة، واستسلم في أواخر أيامه عن إختلال في توازن القوة لصالح فرنسا، وخيانة من حوله. ومثل هذه الخرافات هي التي ساهمت في إحتلال فرنسا للجزائر طيلة 132 سنة من الاستدمار والاحتلال، والنهب والسطو . ونظل نقرأ عن محاسن وفضائل الأمير، وننتقده إن صدرت منه سلوكات تسىء لمساره العلمي والعسكري، ولو قيلت في حقه ألف خرافة.
ثالثا: حقد فرنسي .. الغربيين والفرنسيين الذين قرأت لهم لحد الآن، سواء كانوا قادة عسكريين محتلين أو رجال فكر يبررون للاستدمار، أو فنيين يسعون لنهب ثروات الجزائر باسم العلم والاكتشافات، لا يستعملون في كتاباتهم إسم الجزائر والجزائريين. ويركزون بشكل متعمد ، ومتكرر ، وملفت للنظر مصطلح .. العرب والقبايل.
ويرى في صفحة 24، أن كل المدن الجزائرية التي احتلتها فرنسا، شهدت انخفاظا معتبرا في عدد السكان إثر الاحتلال، وأصيبت الصناعة بالفقر .
وجاء في صفحة 30 .. حيثما دخل الفرنسيون إفريقيا، تزول الغابات، وتجفف الينابيع، ويهجّر السكان ويحولونها إلى صحراء. الفرنسيون يحسنون الغزو، لكن لا يحسنون الرعاية والصيانة.
رابعا: من أخطاء الأمير.. وعن علاقة الأمير بالجنرال الفرنسي المحتل ديميشال، جاء في صفحة 49.. بعث الجنرال الفرنسي دمشال رسالة إلى الأمير عبد القادر، فرد عليه الأمير برسالة طويلة وكانت الأولى من نوعها بتاريخ 30 أكتوبر 1833. ومما جاء في صدر الرسالة .. “.. من الحاج عبد القادر محي الدين قائد المجاهدين المؤمنين الأوفياء إلى الجنرال دميشال – حفظ الله أسلحتك – حاكم وهران .. ”
وعليه يقول صاحب الأسطر.. للمجاملة والدبلوماسية أعراف وحدود لا يمكن التسامح معها حين يكون العدو رابض على الرقاب والتراب. ألا ترى معي كيف تم التعامل مع مرسي وهو الحاكم يومها لمصر حين إستعمل عبارة “عزيزي بيريز “، مما إضطره إلى تقديم العذر والتبرير، والقول أنها أستنسخت من الرسائل السابقة التي كانت في عهد مبارك. وكان ذلك خطأ دبلوماسيا ما كان له أن يقع فيه، ولم تستطع التبريرات السياسة محو تلك الهفوة .
خامسا: العوامل التي ساهمت في هزيمة الأمير.. يمكن الوقوف على بعض النقاط التي ساهمت وأسرعت في هزيمة الأمير عبد القادر رحمة الله عليه، والتي يمكن حصرها في النقاط التالية..
1.إنعدام الخبرة العسكرية لدى الأمير، فصاحب الكتاب يطلق عليه دوما لقب الأمير الشاب.
2.إفتقار الأمير للإمكانات العسكرية التي كان يملكها الجيش الفرنسي المحتل
3.الخيانة التي صدرت من بقايا الأتراك الذين حاربوه ، وضيّقوا عليه، ومنعوه من دخول الولايات التي كانوا يحكمونها، خاصة في غرب الجزائر
4.الخيانة المحلية التي صدرت من بعض رؤساء القبائل الجزائرية، بسبب الحقد الدفين على الأمير، والغيرة الواضحة إثر توقيعه المعاهدة مع الجنرال دمشال.
5.كان الأمير مفرطا في ثقته في الجنرال دمشال، والجنرالات التي تعامل معها، وما كان له أن يقع في ذلك الإفراط.
6.لم يكن الأمير يملك الخطة العسكرية المعاصرة ليواجه بها جيشا معاصرا منظما كالجيش الفرنسي المحتل، فقد كان يعتمد على مكر مفر، والتي لا يمكن أن يواجه بها جيشا منظما.
7.لم يحسن الأمير إستغلال نقطة ضعف الجيش الفرنسي، ألا وهي العتاد الثقيل الذي كان يرهق الجيش والجندي الفرنسي، وكان يعيقه كثيرا في التحرك والالتفاف والمناورة.
8.لم تكن له أرضا ثابتة ينطلق منها ويعود إليها، فكان دائم الحركة بسبب الضغط الفرنسي، أو خيانة بقايا الأتراك، أو خيانة بعض رؤساء القبائل الجزائريين.
9.القراءة المتأنية للكتاب ولغاية صفحة 80، يتضح أن هدف الأمير لم يكن واضحا. هل كان لأجل تثبيت الإمارة؟. أم لأجل تحرير منطقة معينة من الجزائر؟. أم تقاسم السلطة مع الفرنسي المغتصب؟.
10.ذكر الضابط الدنماركي أن محيط الأمير كانوا من الحمقى، حتى أن الأمير كان يتدخل في الشؤون اليومية الدقيقة، ما أفقده التركيز على الشؤون الكبرى.
11.أبدى الأمير ليونة مفرطة تجاه الجنرال دمشال، فقد كان يمتثل لتعاليمه ويعود إليه في عدة قضايا، ويبالغ أحيانا في إكرام ضباطه.
12.لم يستطع الأمير إقناع رؤساء القبائل بالإنضمام إليه. ويبقى السؤال لماذا، وهو الذي أوتي الخطابة وحسن البيان؟.
13.لم يستطع الأمير إستغلال الخلاف بين جنرالات فرنسا حول كيفية التعامل معه، بل أذهب أبعد من ذلك وأقول.. لم يرد أن يستغل الخلاف بينهم .
14.واضح جدا أن الجنرال دمشال ومن جاء من بعده، كانوا يبحثون عن ربح الوقت في تعاملهم مع الأمير، وانتصروا عليه فيما يخص ربحهم للوقت، فقضوا عليه بعدما تأكدوا أن الوقت لصالحهم.
15.الجنرال دمشال هو الذي دعم الأمير بالسلاح والبارود لمحاربة رؤساء القبائل الذين حاربوا الأمير. ويبقى السؤال مطروحا، لماذا هذه الإعانة الفرنسية للأمير وهو العدو المغتصب؟. ولماذا يستعين بالفرنسي لضرب الجزائري ولو كان خائنا؟.
16.كانت فرنسا تشجع الأمير الشجاع، الأمير الفارس، لأنه لا يخون، ولا يكذب، ولا يغدر، ويعيد لها أسراها، ويقضي على التمرد الذي يريحها، ويكرم ضيوفها، ويقف عند الحدود التي إتفقا عليها . لكنها تحارب الأمير العسكري حين يريد أن يتحكم في الأرض، وتحارب الأمير حين يريد أن يستقل ببعض القرارات السيادية كالتحكم في ميناء أرزيو. وتحاربه حين يريد أن يكون له جيشا منظما. وهذا هو الأمير في نظر الفرنسيين.
17.يصف الضابط الدنماركي محيط الأمير بالحمقى الذين كانوا يحيطون بالأمير جعلوه يتدخل في أدق التفاصيل ..
سادسا: الضابط الدنماركي الصادق.. وأنا أتعمد قراءة كتب الأساتذة والرحالة الغربيين من مختلف الجنسيات في جملة من التخصصات، ومنهم كتاب الضابط الدنماركي وهو يتحدث عن الأمير عبد القادر، إستوقفتني الملاحظات التالية ..
1.لايطيلون في المقدمة ولا الخاتمة، ويتجهون مباشرة إلى الموضوع.
2.لايستعملون الألقاب إلا نادرا وما تطلبه المقام.
3.ينتقدون الصديق، والحبيب، ومن أطلقوا عليه اللقب العالي .
4.يدافعون عن العدو حين يتطلب المقام ذلك، ولو بإشارة خفيفة صغيرة.
5.يمتازون بدقة الوصف البعيد عن العاطفة. فهو يصف الشخصية أو الوضع كما هو وكأنك تعيشه وتراه، والصدق في الوصف هو الذي مكنهم من إتخاذ القرارات السليمة لأنها تعتمد على الوصف الصادق الدقيق، ومن هنا كان تفوق الحضارة الغربية .
6.يصف بدقة متناهية كل ما يراه ومهما ظهر لغيره أنه صغير تافه كأدوات المنزل، والحرث، والملبس، والمأكل. والدقة في الوصف مكنتهم من المعرفة الجيدة للمجتمع الذي حاولوا دراسته أو السيطرة عليه.
7.لايشتمون ، ولا يكفرون، ولا يفسقون من خالفهم الرأي. فهم إما يعرضون رأي المخالف ويناقشونه بهدوء، ويأخذون منه مايرونه يستوجب الأخذ، أو لايذكرونه.
8.لايدعون أنهم أهل الحق والحقيقة، ويقولون دوما : هذا رأينا في هذه اللحظة، ووفق ما أتيح لنا من مراجع وظروف مكنتنا من الوصول للحقيقة المعروضة بين يدي القارىء.
9.لايستصغرون القارىء، ويطلبون منه الرأي والنصح ، والنقد.
10.لايبالغون حين يتحدثون عن خسائر العدو، ولا يخفون خسائرهم. تجدهم يذكرون أن هناك 10 قتلى في صفوف العدو و100 قتيل في صفوهم. وأن العدو أسر 30 جندي، وأسرنا 4 جنود. وقس على ذلك باقي الخسائر المادية والبشرية .
سابعا: وصف دقيق للأمير.. الضابط الدنماركي في كتابه باللغة الفرنسية عن الأمير عبد القادر ، تراه يدافع عنه حين يستوجب المقام الدفاع عنه، ويتعرض لسلبيات الأمير حين يتطلب المقام ذلك.. وقد ذكر خصالا وفضائل للأمير عبد القادر، وهو المتطوع في الجيش الفرنسي المحتل ، ولم أقف على تلك الخصال عند الجزائريين والعرب. فهم يذكرون العدو بما فيه. وحضراتني منذ قليل نقطة بالغة الأهمية، تعزز ما ذهبت إليه ، سأضيفها الآن في النقطة العاشرة، طالعها من فضلك .
تحدث الضابط الدنماركي في الصفحات الأولى من الكتاب ، وهو يصف جيش الأمير عبد القادر، من خلال السلبيات والإيجابيات، ومما جاء في تلك الصفحات، أن..
الجيش كان يضم من يحملون السكاكين ليقطعوا رؤوس أعدائهم. وقد تعمدت في البداية أن لا أنقل هذه الصورة. لكن في صفحة 89 يذكر أن العرب ويقصد بها جيش الأمير الذي يضم القبائل الجزائرية، كادوا يقضون نهائيا على الجيش الفرنسي المحتل في معركة المقطع التي كانت لصالح الأمير، ومن حسن الحظ أن المعارك هدأت و “العرب كانوا منشغلين بنهب السيارات وقطع رؤوس الجرحى “. وهذه المهلة سمحت للفرنسيين الفارين بإعادة التجمع فوق تلة معزولة والبدء في قصف العدو (الجزائر).
وجاء في صفحة 90 ، هذه الليلة العنيفة التي خسر فيها الفرنسيون 300 جندي وأكثر من 200 جريح، وضياع كمية كبيرة من العتاد. و17 رجل تم أسرهم من طرف العرب، وباستثناء هؤلاء ، تم قطع جميع الرؤوس التي سقطت بين أيدي العرب، بما فيهم الجرحى.
ودائما في صفحة 90 يصف خسائر الجيش الفرنسي المحتل في معركة المقطع التي إنتصر فيها الأمير عبد القادر، فقال ..” هذه الليلة العنيفة التي خسر فيها الفرنسيون 300 جندي وأكثر من 200 جريح، وضياع كمية كبيرة من العتاد. و17 رجل تم أسرهم من طرف العرب ” . ولم يتحدث عن خسائر الأمير ، وكان باستطاعته أن يبالغ في خسائر الأمير، ولم يفعل ذلك.
يصف الأمير عبد القادر رحمة الله عليه من الناحية العسكرية ، والدينية ، والاجتماعية ، والشخصية ويذكر مناقبه ، وفضائله، وخصاله، وفروسيته ، وتمسكه بدينه التي أعجب أيما إعجاب. ويذكر في نفس الوقت أخطاءه، وتخلفه الكبير من ناحية العتاد العسكري، وضعف خططه العسكرية، وسقوطه من الفرس لولا صهره الذي أنقذه، وكاد العدو أن يلقي عليه القبض لولا سرعة فرسه، وسلبيات حداثة سنه، وبعض الجرائم التي إرتكبها جيشه حين قطع رؤوس جرحى العدو الفرنسي ولم يترك منهم أحدا، بل إن أفراد جيشه يحملون معهم خناجر بالإضافة إلى ما يحمله الجندي، خصيصا لقطع رؤوس الجرحى. هذا وصف غربي أعجب بالأمير فوصف الإيجابيات والسلبيات . فما ذا تقول في وصف الأمير أيها الجزائري والعربي ؟.
والضابط الدنماركي قال بأن جيش الأمير يحتوي على من يقطعون الرؤوس، ولم يقل أبدا أن ذلك كان بأمر الأمير وبدعم منه. ويبدو لي من خلال القراءة، أن القبائل التي كانت تنضم للأمير هي التي كانت تفعل ذلك، ولم يكن للأمير سيطرة عليها. وصاحب الكتاب ذكر أيضا أن الفرنسيين والقبائل الجزائرية الخائنة، كانت تقطع الرؤوس. فالضابط الدنماركي وصف حالة رآها رأي العين، ولم يتهم الأمير بذاته.
الضابط الدنماركي عسكري بطبعه، ووصف بعض خطط الأمير رحمة الله عليه بالضعف مقابل جيش فرنسي منظم لايضيره في شيء، خاصة إذا أضيف لها أن الأمير لم يكن يسيطر على الأرض ، والخونة من رؤساء القبائل وبقايا الأتراك ، فأفسدوا خططه . والنجاح الذي ذكره الضابط كان نجاحا مؤقتا، سرعان ما تدور عليه الدوائر.
ذكر الضابط الدنماركي، أن الأمير كان يكرم أسرى العدو الفرنسي، بل خاض حروبا مع بعض رؤساء القبائل الجزائرية لإطلاق سراح الأسرى الفرنسيين .
إمتاز الضابط الدنماركي بالوصف الصادق الدقيق. فالرجل لا يكذب، ولا يبالغ، ولا يخفي، ولا يحقد على الأمير وهو المعجب به وبخصاله . لكنه إمتاز على غيره من الكتاب، بكونه يحسن إختيار الجملة، والعبارة، والهيئة التي يريد عمدا وصفها. فالمسألة ليست في الوصف الصادق، إنما لماذا تعمّد وصف حالة بعينها دون غيرها، لكن دائما بصدق وإخلاص.
والضابط دنماركي إكتشف الجزائر سنة 1837، كمتطوع لدى الجيش الفرنسي المحتل. وتعرف على الأمير عبد القادر رحمة الله عليه ، وحضر معاهدة التافنة في 1 جويلية 1837. أعجب بالأمير الشاب إعجابا لا مثيل له، وأحبه حبا شديدا، ودافع عنه بقوة، ولم يهاجم الأمير أبدا، ولم يستهزىء به أبدا، ولم يكذب عليه طيلة الكتاب وطيلة المدة التي عرف فيها الأمير. ونقل بصدق إعجاب جنرالات فرنسا بالأمير. ولم يبالغ في خسائر الأمير العسكرية، بل دافع عن الأمير فيما يتعلق بالخسائر المادية والبشرية، وكذّب أرقام العدو الفرنسي المبالغ فيها جدا، وذكر الخسائر المعقولة وذكرها عبر الكتاب. وبما أنه ضابط عسكري، فقد أعطى صورة ميدانية لتلك الفترة ولغاية 1840. ولو أعلم أنه كذب في نقطو واحدة لذكرتها ولانتقدته، لكنه لم يذكر ذلك أبدا .
الضابط الدنماركي معجب كثيرا بالأمير عبد القادر، وإفتخر بالخصال التي تفرد بها الأمير عن غيره . ولم ألاحظ – لحد الآن – حقدا، ولا بغضا، ولا كرها. لكنه وصف ماعايش وما رأى، وكان دقيقا في الوصف، وقارن بين المجتمعين، والجيشين . بل تراه يتأسف كثيرا للخسائر التي ألحقت بالأمير، والفرص التي لم يستطع أن يغتنمها.
ثامنا: الخيانة التي تعرض لها الأمير .. جاء في صفحة 31 ..إحتلت فرنسا ميناء وهران في 14 ديسمبر 1830 ، واحتلت وهران في 4 جانفي 1831، دون مقاومة تذكر.
المارشال كلوزال الذي خلف المارشال بورمو، نصّب الخليفة التونسي الامير احمد على وهران، والذي استعان بـ 200 إلى 300 تركي الذين تركهم الباي السابث. وعلى أن يقدم لفرنسا ضريبة مليون فرنك، وفي المقابل ظهرت أطماع الملك المغربي عبد الرحمن في الاستيلاء على تلمسان.
جاء في صفحة 31 .. الخليفة التونسي يبعث بتقرير لسيدة كلوزال، يخبره انه باستحالة حكم وهران.
الخونة من رؤساء القبائل الجزائرية.. عارضوا الأمير وحاربوه وانفصلوا عنه بحجة أنه أقام معاهدات مع الكفار. وفي الخفاء كانوا يهرولون للكفار لكي يكونوا بديلا عن الأمير، وأكثر طاعة وانصياعا، وحاربوه في سبيل طاعة الكفار، وانتصروا في بعض المعارك، فاستغلت فرنسا هذا الوضع، وأشعلت النيران بين الإخوة، وهددت هذا بذاك، ولم ينل رضاها أحد، وفي الأخير أطاحت بالأمير والعبد الخائن.
وأنا أنهي قراءة كتاب فأجد الأمير عبد القادر رحمة الله عليه في كل مرة يهدي حصانا عربيا أصيلا للمبعوثين الفرنسيين، بمناسبة وفي غير مناسبة، وهم الذين يحاربونه ويطاردونه إلى الصحراء ، ويفرضون عليه شروطهم، ويحددون مكان إقامته. حتى أني أقول بمرارة .. ماكان لك أيها الأمير الأصيل أن تهدي الأصيل للدخيل .
لا نقول أن الأمير إتخذ قرارات عشوائية، فظروف الحرب تفرض على المرء ما لا يطيق ويحب. هناك نقطة غامضة بشأن علاقة الأمير عبد القادر رحمة الله عليه مع جنرالات فرنسا، وقد ظهر ذلك في بنود معاهدة تافنة ، التي فهمها كل طرف حسب مفهومه الخاص. فالأمير لم يتخذ قرارات عشوائية بل كانت مدروسة، لكن التفوق الفرنسي المادي، وخيانة الأتراك ورؤساء القبائل العربية أفسدت قراراته. بالإضافة إلى صغر سنه وقلة تجربته العسكرية والسياسية خاصة، فقد كان ذلك واضحا في خططه وقراراته.

اترك تعليقاً