السيمر / الاثنين 10 . 10 . 2016
أحمد الشرقاوي/ مصر
ما حدث في يمن عروبتنا اليوم لا يحتاج لوصف، فالصورة كانت أصدق تعبير عن عجزنا ومدى كفرنا بعروبتنا وتخلينا عن مسؤولياتنا الدينية والأخلاقية كما لم يحدث في تاريخنا من قبل.. كما وأن ما يحصل في عراقنا وشامنا وفي كل ربوع أوطاننا لا يحتاج لتذكير، لأنه منسوخ في ذاكرة صمتنا كجرائم حرب بدماء الأبرياء التي تحولت إلى عار يلطخ جبين تاريخنا الذي لم يكتب بعد في انتظار آخر فصل في فصول الإبادة..
وبالرغم من أن المصيبة عظيمة والمسؤولية أعظم، لا أحد منا يرفع الصوت ليتساءل عن مسؤولياتنا تجاه أمتنا ومستقبل أبنائنا.. حكامنا يذبحونا كالخراف، يسجنوننا كالجرذان، يجلدوننا كالعبيد، يقتلعوننا من أرضنا كالأشجار، نعيش في أوطاننا غرباء بلا جذور ولا انتماء، ومع ذلك نخاف أن نرفع سيوفنا لنعلنها حربا مقدسة ضد الطغاة عملاء الاستعمار الذي لا زال يعربد في أوطاننا ويعبث بقيمنا وتاريخنا وثقافتنا باسم الحداثة..
حتى مثقفونا أصبحوا عملاء إلا من رحم الله، لا شغل لهم سوى تسمية الأشياء بغير أسمائها وتمجيد الحاكم والتسبيح بحمده ومناقبه في المنابر الإعلامية، يمارسون علينا العهر السياسي ويعاملوننا كأغبياء بلا وعي ولا ذاكرة..
أما فقهائنا فيتعاملون معنا كجهلة معتقلين في سجون الشريعة التي كتب نصوصها كهنة يزيد بن معاوية، والتي بفضلها حنطوا تجربة الطاغية لتظل أنموذجا يحتذى به في الظلم المفروض علينا كما لو كان قدرا أبد الدهر.. وها نحن نسمع اليوم فقهاء الجهل يبتهلون إلى الله من منبر المسجد الحرام ليمحق يمننا ويسحقن شامنا ويشتت شمل عراقنا وينصر علينا مغول العصر، لا لذنب اقترفناه سوى أننا قررنا استعادة حريتنا وكرامتنا وشرعيتنا المسروقة بالمقاومة..
منذ كربلاء ويزيد لا يزال يحكمنا، جاثم كالقدر فوق رؤوسنا، حوّل أوطاننا إلى دار حرب كي يرضى عنه الشيطان، فهجرت الأفراح أيامنا وتحولت ليالينا إلى أحزان سوداء.. فلماذا لا نختزل التاريخ ونرفع عن أمتنا المعاناة، وبدل أن نقاتل “إسرائيل” نعتقل يزيد أولا ونشنقه على الركن اليماني من الكعبة؟.. لأن تحرير مقدساتنا في الحجاز مُقدّم على تحرير مقدساتنا في فلسطين كما يقول صحيح الدين.
كل معاجم بلاغتنا لن تغير من هذا الواقع الرديء الذي نعيشه اليوم شيئا، بعد أن أصبحت الكلمات صامتة كالأصنام.. ولم يعد استنطاقها يهز مشاعرنا بعد أن مات فينا الإحساس، في زمن ضاعت فيه أمة العرب حين أضاعت أخلاقها وتنازلت عن كرامتها وأصبحت كالدواب تعيش بلا ضمير وبلا معنى..
*** / ***
أقل ما يمكن أن يقال عمّا حصل في صنعاء، أنها بحق جريمة شرف ألحقت العار بكل العرب.. فلا ترفعوا الصوت، لا تنتقدوا، لا تدينوا.. لأن الجريمة من النوع الذي لا تنفع معه الإدانة.. لا تبحثوا عبثا عن الفاعل لأنه من النوع المحصّن بقدسية الجلالة، جلالة الدولار الذي تركع له الحكومات في بلاد الحضارة، ويتحول معه الكاتب في عالمنا العربي إلى منافق يتاجر بالحرف ويصنع لنا أصناما من زخرف القول، يتحول القلم في يده إلى سيف والمداد إلى خمر والفكر إلى عاهرة يستبيحها طويل العمر في زمن اندثرت فيه الأخلاق وماتت الثقافة..
سقط التاريخ حين سقطت الهوية، وأصبحت الشعوب مجرد رعية مدجنة في مزرعة السلطان.. ما عاد شهدائنا كما كانوا يحملون أسماء الفرسان، بل أصبحوا مجرد أرقام يدفنون بلا أكفان في مقابر جماعية.. وما قيمة الأسماء حين تضيع الأوطان وتصبح المدن العتيقة مجرد خراب تنعق على أطلالها الغربان..
أنهارنا ارتوت حتى الثمالة من دماء المستضعفين ودموع الثكالى، ونحن قاعدون وراء شاشات حواسبنا نبحث عن الجنس في غوغل، وعن شخصيتنا المكبوتة في مواقع التواصل الافتراضية لنحررها من القمع والقهر.. ما الفرق بين من يهرب من واقعه بشرب الخمر أو تعاطي المخدرات، ومن يهرب من واقعه ليبحث عن واقع آخر افتراضي في فيسبوك أو تويتر أوغيره؟.. لا فرق حين يصبح الوجود كالعدم سواء؟..
فقهائنا أصبحوا خبراء في السياسة ولجيواستراتيجيا، يفتون لحلف الناتو في شؤون الحرب، ومثقفونا تحولوا إلى فقهاء في الدين يشرعون القتل باسم صاحب الجلالة.. ومع ذلك لم ندرك بعد أن الله غاضب علينا بعد أن لم يعد للكلمة من معنى ولم تعد السماء تمطر رحمة.. ماتت العروبة فينا وسرق الإسلام منا فسقطت الهوية وأصبحت الأوطان مدافن جماعية بلا شواهد ولا أسماء..
حتى الكتابة القديمة ما عادت تحيينا، بعد أن حولوها إلى صناعة بلا لون ولا رائحة ولا طعم، غير لون الزيت ورائحة الغاز وطعم الموت..
لم يعد تقمّص دور الضحية ينفع، هذه عقدة نفسية لن ينجح العرب في توظيفها لتبرير عجزهم كما فعل اليهود.. لأن الفرق بين الإثنين، يكمن في أن العرب برغم كثرتهم فرطوا في هويتهم الدينية والقومية، فلم يعد لوجودهم من معنى ولا لحياتهم من قيمة.. في حين أن اليهود برغم قلتهم صنعوا لأنفسهم هوية مركبة من معادلة دينية وقومية، ووظفوا المجازر التي ارتكبت في حقهم في أوروبا لإشعار الآخر بالذنب، فنجحوا في استدرار عطف ودعم العالم.
والسؤال هو: – هل تحول العربي إلى يهودي جبان؟.. وإلا كيف نفسر ظاهرة الخوف من الموت والتشبث بالحياة برغم عيش الذل والمهانة؟..
أإلى هذا الحد انسلخنا عن فطرتنا الإنسانية وأضعنا إيماننا بالله؟.. فكيف يكون الله معنا ونحن نرفض أن نساعد أنفسنا لنعيش الحياة الكريمة التي ارتضاها لنا؟..
ما قيمة الدين إذا لم يتحول إلى إحساس بقدسية الروح التي تحوّل الإنسان إلى كائن خالد لا يموت، كائن شجاع يتحدى الموت لأنه يدرك أن الموت ليس النهاية بل فقط البداية لحياة المجد والخلود؟..
ما معنى أن يحيا الإنسان إذا لم تكن لحياته على هذه الأرض من قيمة ومعنى؟..
السر أيها السادة يكمن في المعنى.. لأن من ليس لحياته معنى، خير له أن ينتحر من أن يعيش كالحيوان همه الوحيد في الدنيا أن يلبي غرائزه البدائية، يأكل ويتناكح إلى أن يحين موعد الذبح.. هذا هو حال العرب اليوم، نقولها من غير أسف.
*** / ***
لم يستفد العرب من دروس التاريخ، ولا من سنن القرآن، ولم يتعلموا من تجارب أجدادهم الذين أدانت لهم الدنيا حين سلكوا طريق الجهاد وسبل المجاهدة.. وفي كل مرة تحدث كارثة يشحذون أقلامهم ويرفعون أصواتهم بالشجب والاستنكار والإدانة.. ثم ينصرفون كل إلى حال سبيله في انتظار كارثة جديدة، مجزرة أخرى، مصيبة عظيمة تالية تحل بهم.. وهكذا إلى أن يرحمهم الله بالموت، فينصرفون كعابرين في كلام عابر على رأي محمود درويش رحمه الله.
يشكون مصابهم إلى الجامعة العربية التي كانت ولا تزال مجرد أداة للاستعمار، ويرفعون تظلمهم إلى مجلس الأمن الذي تحول إلى مجرد ملحقة تابعة للخارجية الأمريكية، وأقصى ما يستطيع فعله أمينه العام المنتهية ولايته هو التعبير عن القلق، في انتظار أن يتسلم الأمين العام الجديد منصبه ليعبر من جهته عن الأسف.. ثم ماذا بعد؟..
لا جديد تحت الشمس، سنظل نعيش كالبعير، وسيظل زمننا زمن حقير، وسيبقى حكامنا يسرقون إرادتنا، يكسرون أقلامنا، يقتلون أحلامنا، ينكحون بناتنا ويذبحون أبنائنا، يحرقون أوطاننا، ويمزقون أجسادنا بالحديد والنار.. ثم يشربون أنخاب الانتصار وهم يعدّون ريع النفط في بورصة القيم بالدولار..
لو كان يرجى خيرا من هذه المنظمات الوضيعة لما ظلت قراراتها حبيسة الأدراج لعشرات السنين لا تطبق في فلسطين.. ولما تحولت في العصر الحديث إلى مؤسسات عميلة تشرعن الحروب وتستبيح عذرية الدول وشرف الشعوب بقرارات رسمية تنتهك القانون الدولي الذي قامت أساسا لحمايته من أجل أن يسود الأمن والسلام العالم.
يقولون أن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.. لكنهم ومنذ نكبة فلسطين لم يرفعوا دعوة واحدة ضد اليهود في محكمة الجنايات الدولية.. والسبب، أنهم اختاروا نهج السلام على نهج المقاومة.. وها هي “إسرائيل” وبعد أن أوهمتهم برغبتها في السلام واستنفذت منهم ورقة الزعيم قتلت ياسر عرفات، ثم ها هي ترمي بمحمود عباس إلى مزبلة التاريخ كمنديل ورقي مستعمل، وتقرر ضم الضفة الغربية بعد أن حولت صراع الفلسطينيين على الأرض إلى صراع بينهم على السلطة، وأصبح المواطن العربي لا يسأل عن تحرير فلسطين بل عن من يخلف عباس.. محمود دحلان أم ناصر القدوة؟..
والمصيبة أن “إسرائيل” كما أمريكا وأوروبا، أصبحوا مقتنعين أنه لم يعد للمفاوضات بشأن فلسطين من جدوى بعد أن أصبح العرب بلا قيمة ولا معنى.. لم تعد “إسرائيل” هي العدو بعد أن استبدلها العرب بإيران وأحيوا عصر اليزيد حين حولوا الصراع إلى حرب دينية بين السنة والشيعة دفاعا عن نفوذ ‘آل سعود’ اليهود، وأصبحت أمريكا و”إسرائيل” من أهل السنة والجماعة، وأصبح بوتين زعيم شيعي سموه أبو علي، وأصبحنا اليوم على أعتاب حرب إقليمية وعالمية كبرى لن ينتصر فيها لا السني ولا الشيعي.. لأنها في الجوهر لعبة الشيطان..
مصيبة العرب أنهم لا يزالون ينتظرون الزعيم بالرغم من أن الزعيم الوحيد الذي بعثه الله لهم هو محمد بن عبد الله نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم، ليعلمهم أن قضية الأمة قضية جماعية، لا شيعية ولا سنية، لا شرقية ولا غربية، ولا يمكن أن يتحمل مسؤوليتها شخص واحد حتى لو ادعى أنه “خليفة”..
ومن سخرية الأقدار أن أمريكا عينت لهم “خليفة” كما كانوا يحلمون، فجاهد في دمهم بكل ما أوتي من وحشية، مارس الذبح وكل فنون القتل، سرق مقدراتهم وخرب أوطانهم وانتهك أعراضهم ومرغ كرامتهم في التراب، مزق مجتمعاتهم، ودمر تراثهم، وهدم معالم حضارتهم، وشوه دينهم وتاريخهم، وحول شبابهم إلى مرتزقة يعشقون جهاد النكاح والسكر بأنخاب الدماء.. ومع ذلك لا يزال فينا من يسمي “دولته” بـ “الإسلامية”.
أشبعونا ثقافة الاعتدال حتى الثمالة ولمّا نفهم بعد أن الاعتدال يعني الاستسلام، يعني أن لا نحتج، أن لا نرفع الصوت، أن نعتبر العجرفة تواضع، والطغيان عدل، والقتل قضاء، والفقر والجوع والجهل والمرض قدر لا يمكن تغييره لأنه مدوّن في أم الكتاب قبل أن يخلق الله الخلق.. هذا تزوير وتحوير وتجهيل وتضليل، لأن الله يحب المؤمن القوي الفاعل والمنتج على المؤمن الضعيف الخانع والمستهلك، بدليل أنه حين خلقنا سخر لنا ما في الكون كله لنكون سعداء في الدنيا والآخرة..
اسمحوا لي أيها السادة، أنا لست معتدلا وأكره هذه المفردة حد القرف.. لأن من تشبع بثقافة المقاومة لا يسعه إلا أن يدافع عن الحق ويطالب بالعدل، وينخرط في معارك أمته نصرة لقضاياها المشروعة..
من يؤمن بالمقاومة لا يسعه في هذه الظروف العصيبة إلى أن ينتقل من القول إلى الفعل المنتج والمؤثر، كأن يعلن النفير لمقاطعة بضائع أمريكا و”إسرائيل”.. ويشحذ الهمم لانتقاد “آل سعود’ وفضح خيانتهم وعمالتهم وظلمهم وفسادهم وإجرامهم في الإعلام.. وأن يدعو لمحاصرة مصالحهم في كل شبر من أرضنا العربية.. وأن يحرق زبالة ثقافتهم الوهابية على الأشهاد في كل الساحات الشعبية.. وأن يدعو الشرفاء ليحلقوا لحى كهنة الوهابية المزروعين بيننا كجراثيم بشرية، وتحويلها إلى مكانس ننظف بها شوارع مدننا في فصل الخريف.. وأن نبدأ الزحف المقدس لفتح مكة المكرمة، لكي نعيد لها كرامتها بشنق ‘آل سعود’ اليهود في الركن اليماني من الكعبة، انتصارا لدماء شهدائنا التي هي عند ربنا أقدس من بيته الحرام..
إنها الطريقة الوحيدة لنتصالح مع ربنا وديننا ونبينا وعروبتنا وتاريخنا، وننهي من واقع أمتنا عصر اليزيد إلى الأبد..
أما دون ذلك، فلننتظر الكارثة.
بانوراما الشرق الاوسط