السيمر / الاثنين 10 . 10 . 2016
محمد ضياء عيسى العقابي
أوقفت أمريكا جميع إتصالاتها مع روسيا بشأن سوريا إلا فيما يخص التنسيق الخاص بتفادي صدام قد يقع بين طائرات البلدين في الأجواء السورية. إدعت أمريكا أن السبب يعود الى عدم وفاء روسيا بالتزاماتها. وأعلنت أمريكا أيضاً أنها بصدد دراسة الخطوات اللاحقة؛ وكُلف مسؤولو جميع النشاطات من عسكرية الى سياسية الى اقتصادية وغيرها لبيان السبل المتاحة أمام إدارة أوباما لإتخاذها لمواجهة الموقف. مع ذلك إتصل وزير الخارجية الأمريكي بنظيره الروسي وتحدثا في الشأن السوري لمدة ساعة ونصف.
قبل إيقاف الإتصالات حصل إرتباك واضح في الموقف الأمريكي حول إتفاق وقف إطلا ق النار في حلب الذي أصرت أمريكا على إبقاءه سرياً. إذ يبدو أن وزارة الدفاع قد رفضته على عكس تأييد البيت الأبيض له؛ كما إن كيري وزير الخارجية في حديث له مع عدد غير قليل من المعارضة السورية (مما يشير الى أن حديث الوزير أُريد له الخروج الى العلن) قال بأن العسكر لم يؤيدوه للتدخل العسكري في سوريا، وقال بأن التواجد العسكري الروسي في سوريا جاء بناءً على طلب شرعي من حكومة شرعية ونصح المعارضين المشاركة في انتخابات عامة يشارك فيها الرئيس الأسد.
كانت أمريكا قبل ذلك، على لسان رئيسها، قد حذرت روسيا بصيغة “الناصح” لها إذ أعلنت أن قلبها “الحنيِّن” أنبأها أن ضرب روسيا للمعارضة السورية “المعتدلة” قد يثير التطرف داخل روسيا نفسها وتنشأ أعمال إرهابية هناك تستنزف الإقتصاد الروسي المنهك أصلاً. علماً أن تحديد المعارضة “المعتدلة” لتفادي ضربها قد تعذر على أمريكا تحديدها وتمييزها عن الإرهابيين منذ عام ولحد اللحظة، وذلك على “عظمة” عضلات أمريكا.
لم ينتظر المعتدلون أو الإرهابيون طويلاً حتى أمطروا السفارة الروسية في دمشق بوابل من الصواريخ وذلك لإثبات مصداقية “القلق والحنان” الأمريكيين.
لا يحتاج الموضوع الى خبير متخصص في الشؤون السياسية كي يفهم الرسائل المبطنة التي تريد أمريكا إيصالها الى روسيا ومفادها: إذا لن تركعي أمامنا فسوف نرسل لك الإرهابيين (كما أرسلوا داعش للعراق وسوريا). والرسالة الثانية التي تُستَشف من الصيغة الكلامية العلنية المهينة تقول: أيها الأمريكيون أيها الشعوب، لا تهابوا روسيا فهي ضعيفة ولا تجرؤ على مواجهتنا أو فعل شيء ضدنا مهما فعلنا.
كان هذا التحقير تتويجاً لموقف أمريكي متواصل منذ سنين يرمي الى إقناع الناس وخاصة الشعب الأمريكي بعدم الفزع إذا ما تشنجت العلاقات وتوترت مع روسيا وبلغت حد “شفا الهاوية” كما يحصل الآن. وبذلك يحصل الإمبرياليون على حرية التصرف بإستغفال الشعوب والعبث بمصائرها.
(لا أنسى ما صرح به مستشار مجلس النواب العراقي “المحلل الإستراتيجي” إبراهيم الصميدعي في ندوة قبل ست سنوات تقريباً، إذ قال بالحرف الواحد: “ما عادت روسيا ذات أهمية عسكرية فقد أضحت تستجدي التكنولوجيا من إسرائيل”.)
بتقديري، إن ضرب بعض مواقع داعش بدقة متناهية في سوريا بصواريخ بعيدة المدى إنطلقت من الأراضي الروسية وبعضها من البحر الأسود وأخرى من البحر الأبيض المتوسط كلها كانت تحمل رسائل الى أردوغان وشعبه والشعب الأمريكي وقطر وغيرهم ومفادها: إحذروا التضليل!!!
نعود الى التهديدات الأمريكية. أجابت روسيا بأن أمريكا لا تخيفنا. وقالت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية (ماريا زاخوروفا) إنه إذا جرى هجوم على الجيش السوري فإن الوضع في المنطقة بأسرها سيتزلزل. وعادت بعد أيام لتقول إن روسيا نشرت صواريخ لرد أي عدوان على الجيش السوري.
نقلاً عن صاحب صحيفة “الرأي اليوم” الإلكترونية السيد عبد الباري عطوان الذي تحدث في فضائية “الميادين” بتأريخ 5/10/2016 فإن أهم معهد للدراسات الإستراتيجية في ألمانيا وهو معهد (ديرن) قد ذكر بأن حلف الناتو يحضّر لشن حرب خاطفة على سوريا تستغرق بضعة أيام فقط تُضرب فيها جميع المطارات والقواعد العسكرية للجيش والمنشآت الإستراتيجية وتشمل إغتيال شخصيات سورية وتشترك في الهجوم 800 طائرة من 14 دولة وتقوم السعودية بتغطية النفقات المالية لهذا الهجوم الصاعق الحارق. لقد أكد المسؤولون الروس تلقيهم هكذا معلومات. وقالت (زخاروفا) إن روسيا حصلت على معلومات تفيد بعزم أمريكا ضرب سوريا بصواريخ مجنحة.
أعلن مجلس الدوما الروسي بأن روسيا ستدافع عن سوريا إذا ما هاجمها الأمريكيون وأعلنت روسيا يوم 6/10/2016 على لسان المتحدث العسكري إيغور باراشينكو بأنها لا تسمح باستهداف الجيش السوري لأنه سيهدد العسكريين الروس وأنها لا تسمح بإطاحة النظام السوري بالقوة وأن صواريخ (إس-400) و(إس-300) التي تغطي كافة الأجواء السورية وأبعد سوف تنطلق لضرب أي مهاجم وليس هناك من وقت أمامها كي تتبين مصدر الصاروخ المهاجم وذلك في حالة تعرض أي من قواتها في قاعدتي حميميم وطرطوس أو قواتها في أي مكان الى تهديد. أرسلت روسيا ثلاثة مدمرات الى المنطقة.
عند إندلاع الأزمة السورية، تكهن عديدون ومنهم هنري كيسينجر، وزير خارجية نيكسون، باحتمال نشوب حرب عالمية. وتكهن كيسنجر بفوز أمريكا وإسرائيل فيها.
إجمالاً، يشهد العالم الآن إقتراباً شديداً من نشوب حرب عالمية، ولم يشهد له مثيلاً في أحلك أيام الحرب الباردة كأيام أزمة الصواريخ الكوبية.
نعلم أن لا أحد يريد الحرب. ولكن السلام معلق بين جدية الموقف الروسي وألاعيب أمريكا التكتيكية. وبين هذين الموقفين قد تنشأ حرب بالخطأ وعن غير عمد. كيف؟
علينا أن نتذكر أن الحرب العالمية الأولى قد انطلقت بسبب شرارة أحدثها إغتيال أمير نمساوي في سراييفو وفي خضم أجواء متوترة كالتي تسود الآن.
ألم تقصف الطائرات الأمريكية القوات النظامية السورية في دير الزور “بالخطأ”؟ ألم تقصف الطائرات الأمريكية قوات الحشد الشعبي العراقي “بالخطأ”؟ وألم تقصف الحشد العشائري قبل أيام قرب الحويجة “بالخطأ” أيضاً؟
يمكن لإحدى هذه الأخطاء وغيرها أن تصبح الشرارة التي تؤجج حرباً عالمية.
القضية وما فيها، تشعر روسيا أن أمريكا تريد الهيمنة على العالم رضاءً أو عنوة. وتريد أمريكا أن تخضع روسيا لها رغم أن روسيا تمتلك مقومات الدولة العظمى ومقدرة تدميرية توازي القدرات الأمريكية لذا فهي لا تقبل بسيادة القطب الواحد في العالم، تلك السيادة التي نشأت بعد تفكك الإتحاد السوفييتي و”جاهدت” أمريكا في سبيل ديمومتها لتنفيذ مشروع عالمي أوسع سنأتي عليه. غير أن العراق، ومن منطلق مصالحه الوطنية والقومية والإسلامية، قد أجهض ذلك المشروع الحلم بالإمتناع عن إفتعال حرب على إيران لتوفير غطاء لضرب منشآتها النووية، وبالإمتناع عن الإنخراط في التآمر على سوريا وبإخراجه القوات الأمريكية الغازية من أراضيه على يد الحكومة التي قادها التحالف الوطني بقيادة إئتلاف دولة القانون وزعامة نوري المالكي، كما إن نهوض روسيا على يد الرئيس بوتين وبروز الصين الملفت وتأسيس (بريكس) وصمود الجمهورية الإسلامية في إيران وبروزها كقوة إقليمية وازنة وأخيراً ضعف أمريكا في العالم من حيث قدرتها الإنتاجية أو حصتها من الثراء العالمي كلها عوامل أسهمت في إجهاض الحلم الإمبريالي.
منذ أن أوقفت روسيا، بعد انتخاب الرئيس فلاديمير بوتين، السماحَ لممثلين من الحكومة الأمريكية بالمساهمة في صياغة الميزانية التقديرية السنوية للدولة الروسية، منذ أيام بوريس يليتسن، بدأ الأمريكيون يتحرشون بروسيا بدءاً بالتململ من إجراءات روسيا العملية ضد نشوء مجتمع المافيات والفساد.
لا أريد أن أطيل وأدخل بالتفاصيل في ما ترتب على الغضب الأمريكي من عدم إنصياع روسيا لمشيئتها كمسألة نصب صواريخ متوسطة المدى في كل من بولونيا وجيكيا القريبتين من الحدود الروسية بحجة التحوط من الصواريخ الإيرانية الأمر الذي سخر منه (ستيفن سكار) مدير برنامج “الكلام الصعب” في فضائية ألـ (بي.بي.سي.) البريطانية في حينه أي قبل سنين. ولا أريد الدخول في مسألة إفتعال أمريكا وعملائها لأزمة أوكرانيا ومساعدة الفاشست على القيام بانقلاب عسكري وتسليح حكمهم ومحاولة ضم أوكرانيا الى حلف الأطلسي الذي، بالمناسبة، إستمر وجوده للآن في حين أنه قد أُنشئ بذريعة درء الخطر الشيوعي والإتحاد السوفييتي وإنطلق قبل تشكيل حلف وارشو الذي ضمه والدول الإشتراكية في شرق أوربا والذي جرى حله طواعية قبل أكثر من ثلاثين عاماً. للعلم فإن هناك تفاهم جرى بين الناتو وروسيا قبل حل حلف وارشو يمنع إقتراب الحلف من الحدود الروسية أو ضم أي من الدول الإشتراكية السابقة إليه.
أقول إن روسيا تشعر، وهي على حق، أن أمريكا وحلف الناتو يخططون لتدمير قدراتها الأمنية ثم الإقتصادية ثم العسكرية بضمنها القدرات النووية والصاروخية بضخ إسلاميين إرهابيين الى الداخل الروسي وقد جاء التهديد المبطن الذي أطلقه أوباما مؤخراً خير مصداق لهذا الفهم. وقد رأت روسيا أحداث الشرق الأوسط وخاصة ما جرى ويجري في سوريا والعراق من هذا المنظار. إذ رأت في أحداث البلدين مؤامرة ذات أهداف متعددة منها إسقاط النظم في سوريا فالعراق فإيران وتفتيت البلدان العربية لتمكين إسرائيل من السيطرة على المنطقة بقفازات قذرة سعودية وقطرية وتركية وذلك لتسليمها شؤون الشرق الأوسط لتتفرغ هي، أمريكا، لمواجهة التحدي الأكبر في شرق آسيا وبحر الصين، ومنها أيضاً أن يتم تدريب إسلاميين متطرفين من الإتحاد الروسي والصين لضخهم لاحقاً الى هذين البلدين وغيرهما تباعاً حتى تحصل الهيمنة الشاملة على العالم.
قناعتي الشخصية المستمدة من متابعة الأوضاع السياسية العامة وخاصة العراقية والعربية والإسلامية تؤكد صحة ما ذهب اليه الروس. فاحتلال العراق عام 2003 جاء لتنفيذ مخطط وضعه المحافظون الجدد وهو تتويج لجميع السياسات اليمينية المتطرفة الرامية في التحليل الأخير الى الهيمنة على العالم من أجل معالجة أزمة الرأسمالية المتأصلة في طبيعة النظام وجوهره، وهو النظام الذي وصفه قداسة بابا الفاتيكان الحالي بـ”المتوحش” الذي يرسل الأسلحة بلمح البصر الى الدول الفقيرة ويماطل طويلاً في إرسال المساعدات الإنسانية لتلك الشعوب.
هذا بالطبع يأتي كنتيجة حتمية لنظام يملك فيه 1% من سكان العالم أكثر مما يملك 99% من السكان.
أقول ليس هناك من سبيلٍ للتغلب على متاعب ذلك النظام الرأسمالي المأزوم بطبيعته الا بالترقيعات وتصدير ازماته الى البلدان الأخرى وهذا ما يفسر جنوح أمريكا نحو العدوان من أجل الهيمنة. بالطبع ليس وارداً في قاموس الإحتكاريين الأنانيين التغلب على مشاكلهم الإقتصادية بإعتماد نظام عالمي يراعي العدالة وينفع الجميع ولا يضر بمصالح أحد كما أثبت نجاعة هكذا نظام لفيف من علماء كلفتهم الأمم المتحدة في سبعينات القرن الماضي لوضع دراسة بهذا الصدد؛ كما أثبت ذلك الفيلسوف البريطاني اللورد برتراند رسل، رئيس مؤسسة رسل للسلام، في كتابه “هل للإنسان مستقبل؟”
إجمالاً هناك خطر داهم لحصول صدام نووي شامل مدمر للعالم لا يبقي ولا يذر ناجم عن تصادم مصالح أمريكا وروسيا. فلنتفحص شرعية كل منهما كي ننضَمَّ الى أبناء البشرية الذين يرفعون أصواتهم منادينً بضمان حقهم في الحياة داعين القوى العظمى وخاصة أمريكا الى التصرف بمسؤولية.
روسيا تدافع عن وجودها وهي مهددة تهديداً جدياً لم يعد خافياً على أحد. إن الدفاع عن الوجود يعني الحياة أو الموت لأنه ما من شعب مستعد للعيش بذلٍّ وعبودية. لذا فالتحدي يُرغم صاحبه على الذهاب الى أبعد المديات قد لا يدركها المتغطرسون وقد يقترفون الخطأ المميت. وهنا يكمن جانب من الخطورة.
من جانب آخر فإن أمريكا تعلم أن النظام الذي تفرضه على العالم هو نظام جائر ولكنها تعتقد أنه يكمن في طبيعة الحياة ولا بد من صيانته بوسائل “ذكية”. والوسائل التي إنتهجتها أمريكا لهذه الغاية بالنسبة للدول الضعيفة فكانت التدخل العسكري المباشر كما حصل في الفيتنام، أو إستخدام العملاء كما يفعل اليمين الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني وكما يفعل حكام السعودية في اليمن، أو إستخدام الإرهاب كالقاعدة وطالبان والنصرة وداعش و”المعارضة المعتدلة” في كوبا وسوريا والعراق وفنزويلا.
هذا مع الضعفاء عسكرياً، أما وسيلة التعامل مع دولة عظمى أخرى تتصدى لسياسات أمريكا كالإتحاد السوفييتي بالأمس وروسيا اليوم والصين فهي، وسيلة التعامل، “شفا الهاوية” التي إبتدعها وزير الخارجية الأسبق (جون فوستر دالاس) في خمسينات القرن الماضي أيام الحرب الباردة وأثناء رئاسة الرئيس آيزنهاور؛ وقد كتب دالاس مقالاً عنها في مجلة (لايف) الأمريكية. الوسيلة في جوهرها إبتزازية ومفادها أن يتدافع مع خصمه على شفا هاوية الى أن يجبره على الإستسلام مخافة أن يقع فيها، أي في الهاوية. رداً على سؤال له كيف يضمن ألا يقعا سوية في الهاوية، أجاب: “هنا تكمن الحذاقة”.
ربما كانت هذه الممارسة صالحة ونجحت في فرض مساومات مع السوفييت؛ ولكن على الأمريكيين أن يفقهوا أن ذلك النجاح ما كان ليحصل لولا أن السوفييت كانوا حريصين على السلم العالمي بقدر عالٍ جداً بفعل إيديولوجيتهم، وهو إفتراض لا يصلح مع رأسماليين سواءً كانوا “متوحشين” أو “مبتدئين”.