السيمر / الثلاثاء 11 . 10 . 2016
الباحث الإيراني الدکتور محمد حسین یحیائي
ترجمة عادل حبه
الجزء الأول
إن الأسس الذهنية والفكرية لأردوغان وفريقه تتناغم مع تلك التي يحملها فتح الله گولن وتنظيماته الواسعة. ولذا علينا أن لا نبحث في اختلافاتهما في إطار رؤيتهما وتفسيراتهما، بل البحث في خلافاتهما حول تقسيم الغنائم وحصة كل منهما ومدى استفادتهما من الريوع الكبيرة التي تراكمت في الآونة الأخيرة في جيوب أردوغان وفريقه.
إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تمر بأيام مصيرية. فالحرب والخراب والعنف يجري منذ سنوات بسبب استفحال نشاط الرجعية الظلامية في المنطقة وحماتها من اللاعبين في مصير العالم الذين يتذرعوا بالديمقراطية من ناحية، ومن ناحية أخرى نشر الآمال القديمة للرجعية، وتحميل ذلك على الشعوب المظلومة في منطقه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتتخذ هذه المساعي أبعاداً واسعة يوماً بعد يوم، مما يوفر الفرصة للأنظمة الاستبدادية كي تجذر الافكار الرجعية المغلفة بالإيمان الديني والمذهبي وبالاستفادة من كل الأساليب والوسائل من مواجهة المناضلين من أجل الحرية والديمقراطية الذين قدموا الضحايا تلو الضحايا من أجل تحقيق أهدافهم. وهكذا وضع الرجعيون أيديهم ببعض من أجل تجفيف براعم الحداثة والمؤسسات الديمقراطية بأساليب متنوعة، باللجوء إلى العنف أحياناً أو باللجوء إلى اللعب السياسية أو التوسل بالتقاليد القديمة والأفكار الرجعية من أجل تعبئة الجماهير الطامحة إلى تحسين ظروف عيشها، وتوريطها بحروب حديثة وإبعادها عن جادة التنوير والتضامن بينها.
هذا الصراع بين بلدان المنطقة له ماض تاريخي وهو موروث من الامبراطوريات المنهارة، ويرى البعض من هؤلاء الورثة أنه قد آن الأوان كي يلعبوا بمصير شعوب المنطقة، وهو ما نشاهده الآن. إن تركية وايران هما من ضمن الدول التي تتشابه كثيراً في المناحي الثقافية والاجتماعية والتاريخية واللتان تورطتا في هذه العملية واصبحتا تواجهان بعضها البعض، فالتقاليد والحداثة أصبحتا أداة لعداوة لا رحمة فيها وتستمر بدون توقف. وهكذا أصبح ما يجري في تركية جزءاً من هذا الصراع القديم الذي يمكنه أن يؤثر على تغييرات في المصير السياسي للمنطقة.
سلكت تركية مسار أسلمة الحياة السياسية والاجتماعية في المجتمع بعد عقد من الثبات السياسي والنمو الاقتصادي الليبرالي الذي قاده حزب العدالة والتنمية اليميني والإسلاموي. هذا المسار أدى إلى شيوع الفساد الاقتصادي والسياسي والريوع الذي طال أرفع المناصب السياسية والاقتصادية. في البداية بدأ هذا العهد، وفي عام 2009، الشروع بالمباحثات السلمية مع الأكراد التي أدت إلى شيوع الأمن ووقف العنف في المنطقة. ولكن من جهة أخرى بادر الحكم إلى حماية المجاميع المتطرفة في سوريا، واقترن ذلك بالعمل المشترك في الخفاء مع داعش وبطرق وأساليب متنوعة بهدف الضغط من أجل إزاحة بشار الأسد، مما أدى إلى توتر علاقات تركية مع روسيا وايران اللاعبين الآخرين في المنطقة. وضمن هذه الأحداث، توترت العلاقة مع روسيا بعد اسقاط الطائرة الروسية بذريعة تجاوزها على الحدود التركية مما ألحق أضراراً وصدمات لا يمكن جبرانها بالاقتصاد التركي. وبالاقتران مع ذلك، شاعت موجة من الهجمات الانتحارية والتفجيرات وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في مركز القرار السياسي ( انقرة) وفي مركز النشاط الاقتصادي والثقافي (اصطنبول). ونتيجة لذلك تراجع النمو الاقتصادي إلى ما دون 4%، وفقدت الليرة التركية 30% من قيمتها. ووجد بعض العسكريين في ظل استمرار الأزمة أن الفرصة أصبحت سانحة من أجل تحقيق حلمهم في الاستيلاء على السلطة. وقام بعض الضباط من ذوي الرتب العالية وقادة سابقون في القوات المسلحة بالاستفادة من قاعدة انجرليك بقصف بعض المراكز الأمنية والبرلمان، وقام آخرون بالسيطرة على المطار واستقروا في يعض أحياء اصطنبول. وأذاع الانقلابيون في الساعات الأخيرة من يوم 15 تموز من الراديو والتلفزيون بياناً موقعاً بأس “لجنة السلم الأهلي”، هرع على أثره الشعب التركي إلى الشوارع من منطلقات ودوافع مختلفة وهم يستذكرون الذكريات المُرة عن الانقلابات العسكرية السابقة. وخلال فترة وجيزة، انتهت هذه اللعبة الساذجة بعد أن ذهب ضحيتها قرابة 300 قتيل. ووجهت المصادر السياسية التركية، وخاصة رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء بن علي يلدريم ووزير العدل بكر بوزداغ، منذ الساعات الأولى أصابع الاتهام إلى فتح الله گولن رجل الدين المخضرم وشريك أردوغان في الفكر والأهداف، والذي يعيش منذ سنوات طوال في ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة. وقامت السلطات التركية باعتقال الآلاف من أنصاره في قيادة الجيش والقوات المسلحة وفي السلطة القضائية والمؤسسات الأمنية والتعليمية والجامعات. وتم اعتقال الكثير من موظفي الدولة والدوائر الخاصة وشبكات التواصل الاجتماعي والصحافة والقنوات التلفزيونية وشبكات الراديو والمرافق التجارية والانتاجية وطردوا من أعمالهم. وأعلنت حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر قابلة للتمديد، وهي تدابير أشبه بانقلاب عسكري إلى حد بعيد. وهكذا تمهد الطريق لحكومة اردوغان وفريقه التنفيذي من أجل ممارسة كل التدابير اللاقانونية والاستبدادية والظلم والتعسف.
إن الأسس الفكرية والذهنية لقيادة “آك پارتي” ( حزب العدالة والتنمية) وخاصة اردوغان وفريقه و فتح الله گولن متشابهة ومتناظرة وتسعى إلى هدف واحد. فكلا الطرفين من الأنصار المتحمسين لـ “سعيد نورسي” مؤسس مكتب النور “نورچي”، مما أدى إلى زيادة الميل عند اردوغان صوب الأخوان المسلمين. لذا فإن أساس الاختلاف لا يكمن في الرؤى والتفسير المختلف، بل حول تقسيم الغنائم والأسهم والاستفادة من الريع الضخم الذي كدّسه اردوغان وفريقه. ففي سنوات النمو الاقتصادي، كدّس اردوغان رساميل ضخمة من الخصخصة الواسعة والتلاعب بالأراضي في المدن والتوسع في الصناعة وجذب الرساميل الأجنبية مما وفر له الطريق للوصول إلى مصادر مالية ضخمة لم تكن بعيد عن أنظار گولن.
يعتقد گولن إن نشاطه الدائم من أجل إحياء وتفسير رسالة النور لسعيد نورسي في ظروف تركية المعقدة هي التي مهدت الأرضية لاردوغان للوصول إلى سدة الحكم وتربية الكادر اللازم لتحقيق هذا الهدف. وأعتبر گولن أنه يتمتع بسلطة معنوية قادرة على ضعضعة المكانة السياسية لاردوغان وفريقه، خاصة وإن حملة جرت لتطهير الجيش من الكماليين وإبعاد العلمانيين عن المراكز العلمية والثقافية والمؤسسات المدنية. كما تعرضت الحركة العمالية والمثقفين وبأساليب مختلفة إلى التهميش أو القمع في مقابل تنامي القدرة السياسية والاقتصادية للأسلامويين الذين نشروا المساجد في المؤسسات التعليمية والحكومية، وراحوا يسعون إلى غسل أدمغة الشباب بشكل محموم. ولذا أصبح الصمت غير جائز وغدت الظروف مناسبة لاستعراض العضلات واستخدام القوة. وشرع گولن بعرض عضلاته في أواخر عام 2013 عند قيامه بفضح الفساد المالي لأفراد عائلة اردوغان وبعض المقربين له في الحكومة، واتخذ هذا الفضح أبعاداً أوسع. ومما ساعد گولن في نشاطه هو امتلاكه قنوات تلفزيونية عديدة ومراكز تعليمية وصحافة وكوادر مهنية متمرسة علاوة على إمكانياته المالية لتحقيق أهدافه.
الجزء الثاني
في الجزءالأول تمت الإشارة إلى الأسس الذهنية والفكرية لرجب طيب اردوغان و فتح الله گولن التي تبلورت بشكل متماثل، فكلاهما يسعيان إلى تطبيق الشريعة والأحكام الإسلامية في المجتمع التركي الذي مارس لسنوات طوال التجربة العلمانية وثبت ذلك في القانون الأساسي التركي. ولذا فإن ما وضع هذين الشخصيتين مقابل بعضهم البعض هو تقاسم السلطة والاستفادة من الريوع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تركية الحالية التي تعرضت لعدة سنوات على يدهم إلى أدوات ثقافية واجتماعية لفرض النزعة الإسلاموية. في هذا القسم سنتطرق إلى عملية تبلور المنظومة الفكرية التبليغ الاجتماعي ونشر الإسلام السياسي في تركية والنتائج السياسة والاجتماعية لعهذا المسعى في المجتمع التركي.
في نهاية الحرب العالمية الأولى، جرت تغييرات مهمة في الجغرافية السياسية وفي أسلوب حيات الشعوب والعلاقات الدولية في المنطقة. فقد تلاشت الامبراطورية العثمانية المترامية الأطراف والتي عاشت أمواج التقليد والحداثة وتخلفت عن منافسيها في الغرب. وبرزت من رحم هذه الامبرطورية عدة بلدان صغيرة وقعت تحت انتداب الدول المنتصرة في الحرب وهما بريطانيا وفرنسا. وفي هذا الإطار، تخلت الولايات المتحدة عن أصولها السابقة في سياسة الانزواء ووجدت لها حضوراً في المنطقة. وبالاقتران مع هذه التطورات، حدثت ثورة اكتوبر في روسيا التي ألهبت الحركات والانتفاضات الشعبية المطالبة بالاستقلال والنضال ضد الأفكار الظلامية والعتيقة في تلك الفترة، وجرت موجة من الحداثة والتخلي عن الأفكار البالية والخرافية القديمة التي اتخت أبعاداً أوسع فأوسع مع مرور الأيام. ونتيجة لذلك، قامت على أنقاض ما تبقى من الأمبراطورية العثمانية جمهورية فتية جديدة بزعامة مصطفى كمال أتاتورك (وفي ذات الوقت تولى رضا شاه في إيران سدة الحكم). إن الجمهورية الجديدة التركية لم تعلن فقط أنها لم تعد ترفع راية الإسلام أو ممثلة له في العالم، بل منعت بشدة تدخل الدين في شؤون الدولة والسياسة. وعمدت أحياناً إلى استخدام العنف والقمع لمنع تدخل المؤسسة الدينية في السياسة وفي حياة الشعب. ونتيجة لذلك، وجدت المؤسسات الدينية إن مكانتها الاقتصادية والاجتماعية في خطر، فعمدت إلى النشاط السري وقامت بإعادة تنظيم نفسها ضمن ظروف الواقع الجديد. وفي السنوات الأخيرة من القرن العشرين، شرع عدد من المجاميع الإسلامية في مناطق مختلفة من العالم مثل مصر وشبه الحزيرة الهندية وتركيا بإعلان موجوديتها، ولكنها لم تكن قادرة على تحقيق أهدافها.
في بلدين مهمين هما إيران وتركية على سبيل المثال، لوحظ تنامي تيارات وطنية وقومية إلى جانب حركات شبيهة بالحداثة مستفيدة من قدرة الدولة من ناحية، ومن ناحية أخرى تنامي الحركات المعادية للاستعمار والحركات اليسارية في دول أخرى في المنطقة مما أصبحت مانعاً بوجه تنامي قدرة الحركات الاسلاموية التي تسعى إلى السلطة السياسية. إن الحركات الإسلاموية كانت قلقة جداً من تغيير البنية الاجتماعية وانتشار الثقافة وانتشار نمط الحياة الغربية في المنطقة. ولذا عمدت هذه الحركات، بذريعة مواجهة الهجوم الثقافي واتساع نمط الحياة الغربية، إلى إعادة النظر أحياناً بإفكارها العتيقة والبحث عن قوالب جديدة بحيث تستطيع الحفاظ على قواعدها القديمة التي تتعرض إلى الانهيار، ولجأت في بعض الأحيان إلى العصيان المحلي. وفي هذا الإطار وضع حسن البنا في عام 1928 الأساس لحركة الأخوان المسلمين في مصر، وما لبث أن امتد نشاطها إلى لبنان وفلسطين وسوريا والسودان واليمن والكويت. وفي الوقت نفسه، قام مولانا مودودي في شبه القارة الهندية بتأسيس ” الجماعة الاسلامية”. وبالرغم من الفاصلة الجغرافية بين التنظيمين، إلاّ أنهما يشتركان في وجهات نظرهما الفكرية والذهنية. فكلاهما يعتقدان أن الثقافة الغربية منحرفة ومرتدة ومخالفة للأخلاق الاسلامية ويجب ابعادها عن أراضي المسلمين. إنهم بهذه الشعارات يدغدغون مشاعر الجماهير المحرومة غير الواعية ويزجونهما في كفاح لا رحمة فيه ضد التيارات اليسارية والشيوعية والاشتراكية. وهكذا تلقت هذه التيارات الحماية المستترة والعلنية من قبل الامبريالية والرجعية في المنطقة. استطاع الاخوان المسلمون خلال فترة وجيزة توسيع قاعدته الاجتماعية، وتخلوا عن شعاراتهم الثقافية واستبدلوها بشعارات سياسية اسلاموية. ويشرح حسن البنا مواقف الأخوان قائلاً : الاسلام هو الحل الوحيد، وعلى هذا الطريق فإن قدوتنا هو محمد وقانونا هوالقرآن ( مثل هذه الشعارات رددها محمد مرسي عندما تسلم منصب رئاسة الجمهورية في مصر). يعارض الأخوان المسلمون كل تحديث في التعاليم الاسلامية ويعلنون عودتهم إلى السلفية الإسلامية. فجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده يعلنون معارضتهم لكل تفسير وتأويل جديد للقرآن، ويعظون بالعودة إلى أصول القرآن والسُنّة. ويؤكدون في الوقت نفسه على أن الإسلام وتعاليمه ينسجمان مع كل العلوم. بالطبع إن بعض قادة الاخوان مثل سيد قطب يوجه النقد الشديد والإدانة من منطلق ثوري للعالم والظروف الحاكمة، ويقول : العالم يعيش الجاهلية وتسهم بعض المجتمعات الاسلامية بذلك، والإسلام أمة لا تنسجم مع الوطنية والقومية المنتشرة في أذهان الغرب التي تعبر عن الجاهلية ويجب الكفاح ضدها. سيد قطب (1906-1966) كان معلماً ضد الغرب وأتاتورك في كفاحهم ضد الاسلام، فلا يستطيع الإسلاميون والعلمانيون العيش بشكل مشترك في مجتمع واحد، وينبغي النضال ضد العلمانية. ويعتبر سيد قطب أن النظام الديمقراطي نظاماً غاصباً، وعارض بشدة الأنظمة الشيوعية. ونتيجة لذلك، استغلت بعض القوى الخارجية وخاصة الدول الامبريالية النشاطات الاسلاموية في المنطقة من أجل الحفاظ على نفوذها والاستفادة من مصادر الطاقة وخاصة النفط وقدمت لها الدعم. وفي تركية أيضاً كان الأسلامويين يعارضون تأسيس جمهورية جديدة ذات منحى غربي، وقاموا بتأسيس جمعيات ومجاميع سرية لجأت إلى العنف والقمع أحياناً ضد القوى التي تنادي بجمهورية جديدة. وتزعم أحد هذه المجاميع “سعيد نورسي” الذي استطاع أن يجمع الشباب حوله، ونجح في سنة لاحقة أن يحشد أعداداً أكثر من الشبيبة. وكان فتح الله گولن ورجب طيب گغان من ضمن الأفراد الذين تأثروا واستلهموا أفكار وآراء نورسي
ولد “سعيد نورسي” ( 1877-1960) في قرية نورس من توابع بتليس في عائلة دينية كردية. وأبدى استعداداً استثنائياً في التعليم حيث أنهى دروس الحوزة الدينية خلال فترة قصيرة في مرحلة الحكم العثماني العاصف. وعاصر عن قرب حركة المشروطة الديمقراطية التركية والحرب العالمية الأولى وانهيار الحكم العثماني، ولاحقاً حكم أتاتورك والعلمانية والحرب العالمية الثانية وعالم القطبين. ودوّن كل تجاربه في مؤلف من 13 جلد سماه “رسالة النور”. وشارك نورسي في الحرب العالمية الأولة ووقع أسيراً بيد الروس ومر بتجربة قاسية لمدة سنتين في الأسر. إن نورسي، على غرار اسد آبادي وسيد قطب ولاهوري وعدد آخر من علماء الاسلام، على اعتقاد بأن الاسلام يستحق أن يحكم العالم، وعارض الثقافة الغربية والشيوعية، واعتقد أن الابتعاد عن الاسلام يؤدي الى التخلف.
كان نورسي على نوع من الاعتقاد بالتسامح والتساهل وبعيداً عن الراديكالية. فعلى الرغم من أنه كان غير راضياً على أتاتورك والنظام الجمهوري، ولكنه أثناء الانتفاضات والحركات المخالفة لأتاتورك، ومنها أهم حركة هي حركة الشيخ سعيد حيث، فإنه لم يشارك فيها، وأولى أهمية للتعليم ونشر الثقافة وأعطى أولوية لها. وفي مقابل جمعية الاتحاد والترقي التي ضمت العناصر القومية والمتأثرة بالغرب، أسس نورسي ” الاتحاد المحمدي”،واعتبر أن تخلف عالم الاسلام يعود إلى عدم كسب العلوم الحديثة والتكنيك وانعدام الوحدة بين المسلمين. ولذا، وخلافاً لأقرانه، الذين اعتبروا أن دراسة الفلسفة والفيزياء والكيمياء والطب مخالف للتعاليم الدينية، فإنه شرع بتلقي هذه العلوم كي يستطيع أن يحاجج في النقاشات (شيخ فضل الله نوري في إيران كان مخالفاً لتعلم الكيمياء واللغات الأجنبية). ولهذا أطلق على نورسي من قبل مريديه لقب “بديع الزمان”. وسعى نورسي مراراً إلى تأسيس جامعة في الأناضول بأسم “الزهراء” مقابل ” الأزهر” في مصر، ولكن لم يصاحبه التوفيق. وعلى أي حال فإن سعيد نورسي هو مؤسس حركة النور “نورچي”، وأعطى الأولوية للتعليم والثقافة ونشرها بين جماهير الشعب وباعتبارهما الطريق لبلوغ سدة الحكم. وتبعاً لذلك شرع گولن بنشاطه السياسي والاجتماعي عن طريق المدارس والمؤسسات التعليمية والثقافية.
إن فتح الله گولن والإسلاميون الآخرون يعتبرون أنفسهم استمراراً على طريق ودرب سعيد نورسي، وشرعوا بتربية التلاميذ في “المدارس” على شكل فرق في البيوت. وتحرك گولن عند تأسيس حركته على هدى الأخوان المسلمين ونافسهم في تقديم الخدمات الاحتماعية والمالية أحياناً. وفي خلال العقدين والثلاثة الماضية بسط گولن نفوذه في المؤسسات السياسية والقضائية والاقتصادية التركية، وأصبح بمثابة السكة التي وثب عليها أردوغان للوصول إلى السلطة السياسية. ولذا فهو يعتقد أن حركته تستحق إدارة المجتمع التركي، بل وحتى العالم الإسلامي. لأن أفراد الأمة على اعتقاد بأن النظام الإسلامي يجب أن يدار من قبل الخليفة، وفي النهاية يعتقد أنصار الإسلام السياسي أن القوانين والقواعد الإسلامية يجب أن تسود في كل جوانب المجتمع بفاعلية لتواجه الثقافة المنحرفة والعلمانية والديمقراطية الغربية.
لقد شرع گولن نشاطه السياسي والمذهبي والاجتماعي بتأسيس جمعية مكافحة الشيوعية في أرضروم بتشجيع من حلف الناتو في عام 1966 (حسب ما أورده الصحفي آيتونج آركين في صحيفة سوزجو، بتاريخ 19 أيلول عام 2016). وخلال مدة قصيرة انتقل هذا النشاط إلى مدن أخرى ومن ضمنها أزمير. ومد نفوذه إلى المدارس والكليات العسكرية والأمنية في مسعى كي يربي جيلاً ذهبياً مستعداً وقادراً على مسك زمام السلطة في عام 2020. وفي خلال هذه المدة أعلن بشدة معارضته لأفكار اليسار والعلمانية والحرية. واعتبر أن الحزب رمزاً من رموزه. وبعد العقد الثامن من القرن الماضي وبالاقتران مع انقلاب كنعان اورن، تمهدت الأرضية للإسلاميين كي يقفزوا ويقتحموا المرافق التعليمية، في الوقت الذي قدم گولن الحماية والدعم لحزب العدالة والتنمية وقيادته، ولعب دوراً مؤثراً في تغيير قياداته. ووصف قادة حزب العدالة والتنمية گولن “بالاستاذ الأعظم” من أجل كسب رضاه، وتنافس أفراد الحزب على كيل المديح له. وفي هذا المسعى، تولى حزب العدالة والتنمية تلبية طلبات گولن ليس في داخل تركية فحسب، بل في الخارج من أجل تأسيس المدارس عن طريق التدخل الدبلوماسي. وهكذا تغلغلت حركة گولن يوماً بعد يوم وبأبعاد واسعة في داخل تركية وخارجها. وتشير بعض المصادر إلى اشتغال أكثر من 4 ملاايين شخص في مشاريع گولن الكبرى في أكثر من 140 بلداً، بحيث أختير گولن واحداً من أبرز 100 شخصية مؤثرة في العالم عام 2015. وكتب آبراهام ر. فاگنر استاذ كلية الحقوق في جامعة كولومبيا في جريدة الواشنطن بوست : ” إنه شخصية متدينه ومسلمة ومرموزه في تركيا، ذو تعليم ابتدائي ويمتلك ثروة تزيد على 25 مليار دولار، لا يُعرف كيف جمعها، إنه يريد أن يحول الولايات المتحدة الأمريكية وتركية إلى دول مسلمة وتدار حسب الشريعة الإسلامية”!!!!
وعلى الرغم من أن اردوغان يتذكر گولن باحترام وتكريم، ولكنه منذ شبابه كان يميل إلى الأخوان المسلمين وانبهر بهم، فقد انضم في شبابه إلى جمعية الأخوان المسلمين العالمية في العربية السعودية ( حسب مقالة “الربيع العربي مجرد خدعة” بقلم آلبر بيردال). وتعرّف في هذه الجمعية على برهان الدين رباني وأنور ابراهيم معاون رئيس الوزراء الماليزي الذي لجأ إلى أردوغان في عام 2008 واستقبل بحفاوة في قصر دولما باغجه. وعند عودة اردوغان الشاب من العربية السعودية، تولى رئاسة لجنة الشباب في حزب السلامة القومي بزعامة اربكان، وشرع بطي الطريق السياسي المتعرج. في تلك السنوات كان اردوغان شاباً اسلاموياً متطرفاً ومستعداً للقفز والتسلق بدعم مادي ومعنوي من گولن.
في العقد التاسع من القرن الماضي، انتخب اردوغان رئيساً لبلدية اصطنبول بتعاون ودعم الكادر الجديد العاملين في حقل السياسة والاقتصاد، وبمساعدة بعض المؤسسات والأجهزة التي تهدف إلى السطو على الريوع والاستفادة من الفرص الاقتصادية والاجتماعية. شرع اردوغان بتجميل مدينة اصطنبول حيث قام بتنفيذ مشاريع عمرانية مهمة مما أدى إلى تقوية مواقعه ونفوذه السياسي. وبالاقتران مع ذلك، شرع بالدعاية الواسعة للاسلاموية في البلدية، وقال: “إن الديمقراطية تشبه ترامواي المدينة فمهمته ايصالنا إلى مقصدنا. إننا لا ننظر إلى الديمقراطية كهدف، بل مجرد وسيلة”. في عام 1997 وبعد أن عزز مواقعه، شنّ اردوغان حملة ضد العلمانية والديمقراطية ولمح بشكل استفزازي : “إن المساجد قواعدنا وقبة المساجد قبعاتنا ومنارة المسجد حرابنا والموئمنون جنودنا”!!
وبعد أن حصل اردوغان على السلطة التنفيذية، شرع بكل هدوء إلى تحقيق هدفه السياسي والاسلامي في المجتمع التركي. وأرسل عبدالله گل مع زوجته المحجبة إلى قصر رئاسة الجمهورية، وبالاستفادة من المدارس الخاصة ومراكز التعليم التي كان يمتلك بعضها گولن فرض الحجاب على هذه المؤسسات وشجع الحجاب في مؤسسات الدولة. وقام بالاستفادة من الفنانات السابقات لتشجيع الفتيات على ارتداء الحجاب واستوزر بعضهن. وفي تلك السنوات تعاظم دخول الرساميل الأجنبية مصحوباً بالازدهار الاقتصادي، مما عزز من مواقع اردوغان بقوة وأصبح في موقع أكثر ثباتاً من السابق. وفي أواخر العقد الأول من القرن الحالي إزدادت شعبية اردوغان في المناطق الكردية بعد الشروع بمباحثات السلام مع “پ ب ك” في أوسلو عاصمة النرويج.
مع تصاعد شعبية اردوغان في داخل تركية، شرع باللعب في المنطقة في مظاهرة للتضامن مع غزة عندما أرسل باخرة “ماوي مرمره” إلى شواطئ غزة واصطدم باسرائيل، وتلى ذلك تقديم الدعم للأخوان المسلمين في موجة الربيع العربي في البلدان العربية. وبهذا النهج ابتعد اردوغان عن گولن. فگولن يعتبر نفسه الأب الروحي والذي مهد الطريق لاردوغان وإنه الأكثر خبرة في السياسة مما عبر عن ضيقه من هذه التصرفات في الأجهزة والمؤسسات المختلفة وخاصة في صفوف القوى الأمنية والعسكرية والقضائية والإعلامية، وحذر اردوغان مراراً بأن بيته من زجاج. إلاّ أن اردوغان الذي يعتبر نفسه الجديد على دروب السياسة، قام بتوجيه أول ضربة له بتعطيل مدارس گولن (درس خانه). فگولن الذي أراد أن يكون سهيماً في الريوع والإمكانيات المتوفرة، شرع بالمواجهة ونشر وثائق حول الرشوة والفساد الإداري وفساد عائلة اردوغان في الفترة بين 17 إلى 25 كانون الأول عام 2013 مما عرض مكانة اردوغان إلى الاهتزاز، حيث اضطر 4 وزراء من حكومة اردوغان إلى تقديم استقالاتهم وترجع نفوذ حزب العدالة والتنمية لدى الرأي العام التركي وفقد الأكثرية في أول انتخابات جرت بعد هذا الحادث. ولكن استعراضات اردوغان السياسية واللجوء إلى إشاعة الرعب في المجتمع مكّن الحزب من جديد الحصول على الأكثرية في انتخابات لاحقة.
في الفترة بين أواخر عام 1915 وحتى حزيران عام 2016 عندما وقع الانقلاب، مرت تركية بأيام عصيبة. فقد تقلص حجم الرساميل الأجنبية وفقدت الليرة التركية قيمتها وتراجع وارد الدولة من السياحة وبلغ النمو الاقتصادي ما دون 4% وزاد العجز في الميزانية وزاد التضخم وحجم البطالة بشكل ملحوظ. واقترن ذلك بتصاعد أزيز القنابل والرصاص بعد فترة من الهدوء في كردستان وارتفاع آهات النساء والأطفال. وصحب ذلك خبر الانقلاب المفاجئ في 15 حزيران والذي تصدر أخبار العالم. مازال هناك الكثير من الأسرار حول الانقلاب، وستشهد المرحلة القادمة المزيد من كشف هذه الاسرار. ولكن من المؤكد إن هذا الانقلاب يختلف كلياً عن سابقاته. فمنذ الساعات الأولى، وجّه اردوغان والشخصيات التركية الأخرى أصابع الاتهام إلى گولن، وطالبوا الولايات المتحدة الأمريكية باسترداده. ولكن لم تستجب الولايات المتحدة للطلب حتى الآن، حيث طالبت الإدارة الأمريكية تقديم وثائق حول ضلوع گولن في الانقلاب الفاشل. لقد بادر اردوغان إلى طلب العون من المساجد لمواجهة غريمه الإسلاموي الآخر، وشرعت المساجد بترديد شعار يا الله .. بسم الله .. والله اكبر… وانتقل ترديد هذه الشعارات إلى الشوارع. ولم تكتف الحكومة بتعويض ضحايا الانقلاب مالياً، بل راحت تسمي الهديد من الشوارع العامة بأسماء هؤلاء الضحايا.
منذ الساعات الأولى في الإعلان عن فشل الانقلاب، شُنّت حملة واسعة من الاعتقالات مما يدل على أن هذه الإجراءات قد أعدت سلفاً. ففي خلال مدة قصيرة تم اعتقال وسجن ما يزيد على 40 ألف مواطن تركي وفُصل من العمل قرابة 100 ألف موظف باتهام التعاون مع الانقلابيين. وجرى تعطيل المراكز التعليمية وغلق أبواب الكليات العسكرية والأمنية. وقامت الحكومة الإسلاموية بملاحقة قوى اليسار والعلمانية والديمقراطية وطردهم من أعمالهم بذريعة ملاحقة أنصار گولن، وأحلت محلهم أتباع أردوغان. وهذه العملية مستمرة لحين كتابة هذه السطور. وخلال هذه الفترة، جرى تعليق القانون الأساسي والمجلس وإعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، وتولت الحكومة (السلطة التنفيذية) تشريع وسن القوانين. وعلى الرغم من فشل الاتقلاب، فقد جرى انقلاب آخر نفذه اردوغان كي تسنح الفرصة لحكومته فرض إرادتها. وتولت الحكومة تعطيل القنوات التلفزيونية ومحطات الراديو والصحف واعتقال بعض العاملين فيها أو تسريحهم( لحد كتابة هذه السطور تم اعتقال 100 صحيفي وسُرح 2500 آخر). ولا توجد في تركية الآن أية مؤسسة رقابية تراقب عمل الحكومة وتستطيع الدفاع عن حقوق المواطنين. وهذا ما نص عليه أول بيان للحكومة والقاضي بعدم إعطاء الحق لأي مواطن بتقديم شكواه.
إن الأحداث التي تجري في تركية ستترك آثاراً كثيرة على المنطقة. فتركية وبعد عقود من تجربة العلمانية لا يمكنها أن ترى تنامي الإسلام السياسي والعودة إلى الأصول الغابرة التي تقترن بأسلوب عنيف في إدارة المجتمع بالإستناد إلى الشريعة. ولا يكتفي الإسلاميون الأتراك بشن حملة ضد القوى التقدمية والعلمانية في داحل بلادهم فحسب، بل ينخرطون في فعاليات عسكرية واسعة في المنطقة. إن تركية العضو في حلف الناتو تقوم بنشر قواعد عسكرية لها بالتعاون مع القوى الرجعية في المنطقة في قطر والصومال ، وتخوض الحرب في سوريا كتفاً إلى كتف مع المجاميع الإرهابية. ونتيجة لذلك تتوفر الفرص لانتعاش الرجعية في المنطقة، مما يضع القوى التقدمية أمام أفق صعب وخطير. ولذا فإن التضامن مع القوى التقدمية التركية يصبح أمراً ملحاً في النضال ضد الرجعية والفاشية المذهبية.