السيمر / الثلاثاء 11 . 10 . 2016
سهيل الزهاوي
مازلت اتذكرها وانا في حدود السنة الثالثة من عمري. كانت تحملني وتحضنني بلهفة. كنت في الليل ارقب ظلها على جدران البيت ، تحت ضياء القمر، وكأن حتى ظلها يحدب عليّ ! كان حنانها يفيض علينا ويمنحنا الدفء والهناء .
كانت كعادتِها تستفيق فجراً في كل يوم كطير مهاجر وتتطلع الينا بهدوء، ثم تلملم فراشها وتنزل بخطاها الخفيفة الى الينبوع لتغسل نعاسها، وتشق طريقها نشيطة ناسية تعبَ الأمس الذي وامتص قواها وابتلع كل نهارها. كنت ارقب حركاتها وانا مستلقي في فراشي الوثير.
كانت تبدأ يوم عملها باشعال الفانوس والطباخ النفطي لتغلي الماء وتهيئ الشاي على الموقد الفحمي بعد ان اشترت كل ما تستلزم وجبة الصباح، ثمّ تدعونا جميعا إلى تناول الفطور .
كانت إمرأة حسناء ذات ابتسامة دائمة ناصعة كالثلج، وكانت عيناها الجميلتان الصافيتان تومضان بالرقة والحنان ، وتتدفق من قلبها الأخضر مشاعر برقة الفجر.
كانت في الخامسة و العشرين من العمر حينذاك . ولدت في مدينة السليمانية سنة 1924 . كانت والدتها كركوكيّة ، ووالدها من السليمانية ومن عائلة المؤرخ الكردي المعروف محمد امين زكي ذي الحضور المتميز بعد تشكيل الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي.
كانت والدتي أمّيّة، لكنها نابغة بالفطرة، وقد تجلّت نباهتها حين كان احدنا يفقد كتاب الفيرياء او الرياضيات ؛ فسرعان ما تجده قبلنا! وكانت تتكلم اللغات: العربية والكردية والتركية بطلاقة.
تزوجت من والدنا في الثالثة عشر من عمرها، وانجبا احد عشر طفلا، ثلاث بنات وثمانية بنين. وقد اعدم ابنها الاصغر سنة 1985 على أيدي جلادي صدام حسين ، وهو طالب في الصف المنتهي في كلية الطب البيطري بجامعة بغداد، لكن هذه الفاجعة لم تضعف عزيمتها، بل ازدادت اصرارا على تأييد قضيتنا العادلة وانتصار القيم الانسانية ، حيث وقفت شامخة يجتاحها حقد غريزي على الجلادين و انفجرت كالبركان ، عند تسلمها جثمان ابنها المعدوم وصاحت باعلى صوتها :
” سيأتي يوم ارى فيه ابناء صدام يقتلون وهو على قيد الحياة”
وفعلا تحقق تنبّؤها ، حيث قتل المجرمان قصي وعدي قبل اعدام صدام حسين.
في الأسبوع الأول من السنة الدراسية ( 1967) عقدت خليّتنا الحزبية اجتماعها الثاني في دارنا الواقعة في محلة الحميدية بمدينة خانقين، بعد الإجتماع الأول الذي عقدناه على ضفاف نهر الوند، بعد انتمائي الي الحزب الشيوعي العراقي و موافقة الحزب على ترشيحي لعضوية الحزب في صيف السنة نفسها ، وكنت دون سن الثامنة عشر من عمري.
وبعد ان انتهينا من الاجتماع ،طلب مسؤول الخلية مني أن أراقب خارج البيت ؛ حتى يتسنى لهم الخروج من الدار بأمان دون ان يلاحظهم احد ، وإذا بي أرى والدتي جالسة وحدها على مَصطَبة امام الباب ، وبفطنتها المعروفة وابتسامتها المرسومة على شفتيها،ابتسامة الرضى اومأت بحركة من رأسها ، قبل ان اصل الى الباب،اغرقت نفسي في بريق عينيها اللتين تراءتا لي كأنهما تهمسان بكلمات خافتة :
” الطريق مأمون ؛ ليخرج الجميع”
وكأنها تعلم بما أُرومه دون ان أرى علامات خوف وقلق على وجهها، فاستغربت للوهلة الأولى، وبعد ان قرأت ملامح وجهها المتهلل وتوهج الحب في عينيها ،تيقنت انها عارفة بما يدور في جلستنا، ممّا أجّج حماسي ، وشحنني بزخم كبير للمثابرة في حراكي السياسي بأقصى همّة ونشاط وهمة . كانت تحرص على ألّا ينغّص أي شئ حراكنا؛ ولذا قررت الجلوس أمام الباب لتراقب ما يجري من تحركات حفاظاعلى سلامتنا، لكنها كانت تدرك أن من يعمل في المعارضة يخطو في كل يوم خطوة نحو قبره، ومع ذلك لم تفاتحني بهذا الشان طوال حياتها، بل كانت تشجعني على الدفاع عن الحق مهما بلغت نتائجه. لم تكن والدتي شيوعية الا في القلب فقد كانت امرأة قوية ومتفتحة الذهن غير متعصبة للدين وحساسة؛ فتحول حنانها الى حب المظلومين والكره الشديد للظالمين. كانت على قناعة تامّة بأن العدالة ستنتصر حتماً؛ مهما بلغت درجة الإضطهاد، لكنّما بالعمل المنظم والفعل الثوري الدائم. وكانت روحها تفيض بعِزَّةُ النَّفْسِ والإيثار والعنفوان الإنساني؛ فقد تأثرت في نهاية اربعينات القرن الماضي وبداية خمسيناته بمآثر الشيوعيين البطوليّة مقارعة الظلم والاستبداد عبر مشاهدتها للتظاهرات العارمة التي عمت مدن العراق ومنها السليمانيّة الباسلة، كانت تروي لنا قوة وصلابة الشيوعيين. وقد نبهتني ذات مرة قبل ثورة 14 تموز 1958 بسنتين بأن هناك محاولات من جواسيس نوري السعيد،(وكانت تقصد اجهزة التحقيقات الجنائية التى شكّلت في العهد الملكي لمكافحة القوى السياسية المعارضة للنظام وخاصة الحزب الشيوعي العراقي، وذلك بدس منشورات الحزب الشيوعي في جيوب الاطفال ومتابعتهم لحين عودتهم الى بيوتهم، وتدبير دهم الشرطة لهذا البيت أو ذاك بغية القاء القبض على احد افراد العائلة بتهمة الشيوعية؛ فأصبحتُ حذرا جدا ألتفت يمينا ويسارا كلما سرت في الشارع منفّذاً توصية أمي،وقد انعكس ذالك على عملي الحزبي لاحقاً حيث كنت شديد الحذر. و بعد ثورة تموز، علمت بارتباط اخي زهير بالحزب الشيوعي العراقي، وكانت أمّي تعلم أيضاً بنشاطه الحزبي آنذاك؛ ولذلك نبهتني الى آلاعيب اجهزة السلطة ، وتعرّفت لاول مرة من خلالها على كلمة الشيوعية وانا في السابعة من عمري.
ان سمو وعي هذه المرأة الامية يدل على قدرة تغلغل الحزب فكريّاً وسياسيّا في أوساط الجماهير الشعبية ومدى النشاط الثوري حينذاك.
كان اندلاع ثورة 14 تموز قد فتح آفاقاً جديدة لنشر الوعي السياسي بين الجماهير، وقد عايشت الاحداث والتظاهرات والمسيرات الجماهيرية التي عمت كافة انحاء العراق بقيادة الحزب الشيوعي العراقي ، و تفتّح معها وعيي السياسي ، كما عند أكثر ابناء جيلي، و كنت اقتحم العمل السياسي دونما وعي حقيقي ، وكنت ازور مخيم اتحاد الطلبة العام فرع خانقين المقام على شاطئ نهر الوند بصحبة اخي زهير، وكذلك مقرهم قرب محلة المزرعة وأنا طالب في المراحل الاخيرة من الابتدائية،ولاول مرة ساهمت في الحملة التي قام بها الحزب الشيوعي العراقي في عام 1961 ،حيث علقت شعارات الحزب حول السلم في كردستان على جدران الدور السكنية غريزيا بدون علم الحزب ، بعد العمليات العسكرية التي شنتها الحكومة العراقية ضد الحركة الكردية والتي اندلعت في ايلول ذلك العام نفسه.
كان لوالدي دور كبير في تنمية قدراتي على القراءة الذاتية ، عبر توجيهي لمطالعة مجلات الاطفال،عندما كنت في الصف الرابع الابتدائية، فقد سجل والدي لي اشتراكا شهريا في مجلة (سمير) ، ثم واصلت القراءة وكنت اطالع كل ما يصل الى يدي من كتب ومجلات ومنها الروايات العربية والعالمية المالئة مكتبة اخي زهير، وسرعان ما انجذبت الى الكتب الماركسية التى توفرت بكثرة بعد ثورة 14 تموز وكان والدي يتابعني دون يتدخل في خصوصياتي، واتذكر ذات مرة التقيت به عندما كنت مختفيا في عامي (1991 و1992 ) في بغداد عن انظار السلطة الفاشية، واعمل ضمن التنظيمات السرية للحزب الشيوعي العراقي، وقبل وفاته بسنة، قال لي:
” انت تعرف جيدا بأني لم اتدخل في شؤونك طيلة حياتك، لكنني اطلب منك شيئا واحدا، وهو ان تتزوج لاري اطفالك قبل رحيلي”
وكان عمري قد تجاوز الثانية والاربعين في ذلك الحين، ورقد رقدته الابدية دون أن تتحقق امنيته برؤية احفاده.
وهنا لابدّ من التأكيد على ان المنعطف الكبير في حراكي السياسي هو انقلاب 8 شباط 1963 إذ كنت في عنفوان شبابي، وكان لي شرف المساهمة في التظاهرة المتصدية لانقلابيي( 8 ) شباط الاسود في مدينة خانقين وانا في الرابعة عشر. ولأنني عشت سنين مراهقتي في ظروف بالغة الصعوبة؛ فقد اثرت فيً ايما تأثير وفجّرت فيّ مشاعر الغضب والألم، وشاهدت بنفسي الجرائم التي اقترفها انقلابيّو 8 شباط الفاشست ضد الشيوعيين واصدقائهم، وما آلت إليه من نتائج وخيمة و مآسي و كوارث،واستمرت حتى سقوط النظام الصدامي، بل مازالت في بعض جوانبه مستمرة مستمرة لحد هذه اللحظة..
حقا كانت ايام دامية فجّرت عندي قوة الارادة، والتحدي، وبلورت اتجاهي الفكري و نمّت فيّ وعيي الذاتي .
فألف سلام وسلام لروحك الطاهرة يا من كنت لنا جنينة خضراء ..
والآن نجمة متألّقة هادية في زرقة السماء