أخبار عاجلة
الرئيسية / ثقافة وادب / جواد غلوم في مجموعته الشعرية ” حبُّ امتناعٍ لامتناع “

جواد غلوم في مجموعته الشعرية ” حبُّ امتناعٍ لامتناع “

السيمر / الخميس 16 . 03 . 2017

صالح الطائي

تأخذ مفردة الحب أبعادا بعضها معلن ظاهر للعيان والآخر خفي مستور وبينهما يبقى للكلمة عند كبار العمر معنى وطعما يختلف كثيرا عما هو لدى من هم أصغر منهم عمرا، فالحب واحد من أصعب التجارب التي يمر بها الإنسان، والتعبير عن لوعته وقسوته يمتد من السكوت إلى الهذيان ليصل إلى الجنون، وفي تاريخنا العربي آلاف قصص جنون العاشقين، بعضهم وصلتنا أخبارهم، وبعضهم الآخر خفيَت علينا فضاعت مأساتهم بين مآسي الإنسانية التي لا تحصى ولا تعد.
إن الحب لا يقف عند تبادل المشاعر بين جنسَي البشر؛ الذكر والأنثى، فذلك هو أهونه، رغم ما فيه من وجع، فقد يكون مبعثه الوهم والخيال، وقد قرأت في شبابي قصة شاب كان ينظر إلى قطرة ماء في مرقاب متطور(ناظور)، فشاهد فتاة جميلة تتموج كنسمات الربيع داخلها، فانشغل بها عن كل شيء، وكان كلما قاربت القطرة على الجفاف يضيف إليها ذرات من الماء لتستمر الفتاة بغنجها، ويستمر هو لتتأجج نيران الحب في قلبه إلى أن أصابه الوهن، فأخذته إغفاءة قصيرة، وحينما صحا من نومه وجد قطرة الماء قد جفت، والفتاة قد اختفت، فأصابه مس من الجنون، دفعه لأن يجلس على حافة النهر ينتظر خروجها، بلا طعام أو شراب إلى أن مات!
ولا أدري إن كان هذا النوع من الحب هو الذي يسمونه (حب امتناع لامتناع) لأني وجدت أنفاس تلك القصة تعود بتجارب جديدة على لسان الشاعر العراقي جواد غلوم في مجموعته ” حب امتناع لامتناع ” وهو يبحث عن صدرٍ رحبٍ.. وحضن ساخن.. وذراع تطوق المتعبين. أو يتجول في الملاذات باحثا عن قشعريرة تائهة.. تجيء وتأخذ به إلى ملاعب حضنها.. يلملم بقايا البكاء الأخير! فهذا هو التمرغ في الذكريات الصدئة التي يختزنها لا وعي المرء، لتتحول مع مرور السنين إلى الوعي كله، إلى الحقيقة كلها، إلى ساعات تُجللُ الحكمة برونق المشاعر، ومعه يتغير معنى الحب، يتغير المألوف، فيخرج من أطره الضيقة، من أنانيته وذاتيته، ولا يبقى حبيسا بين روحين، حيث يتحول البيت .. الشارع .. المدرسة .. المحلة .. المدينة .. الوطن كله إلى حبيب تتقاطر مخلوقاته نحو المجهول، تبحث عن ملاذ لا يعرف الأمان، في الأقل هذا ما نفهمه من بوح الشاعر:
أغار منك يا بغداد
يا سيدتي العاقلة الموقرة
هل أنت مثلما قرأت في طفولتي؟
إن تقليب دفتر الذكريات، ذكريات الطفولة القديمة، أو تذكّر أحاديث الأصدقاء، والأحبة، والعرافين، لا يزيد معلومة بقدر كونه يخلق سيلا من الأسئلة الحائرة التي تبحث عن جواب.
إن الحب عند جواد غلوم يعطي للمفردة أبعادا هلامية، تتسامى مع الروح، وتتحد مع الوجدان، لتعبر عن عواطف طوفانية تقتلع الهدوء من النفس لتحوله إلى أشجار باسقة تحمل كل منها كنْها جديدا للحب ولكنها تجتمع في بستان الروح لتعلن حب وطن تتشظى فيه الروح مع كلمات “أسأل سيدتي ولا تجيب” فالحيرة تتلبس القارئ مقرونة بدهشة من نوع العشق الذي يدفع الشاعر لأن يصرخ في أعماق الوجود:
أغار منك يا بغداد
يا سيدتي العاقلة الموقرة
إن هذا هو النزق الحقيقي.. نزق الشيوخ الذين لم تغادرهم طفولتهم فالشاعر الجاد طفل لا ينضج أبدا، وتبقى صور الطفولة في مخياله تحرك عواطفه في أحلك مناطق الوعي لتبعث إشراقات تعطي للصورة بعدا بوهيميا غارقا في التأمل الصوفي
هل أنت مثلما صليت في أضرحتي
سمعت من أدعيتي
ناحلة، هزيلة، دموعها منهمرة؟
نائحة مثل نواحِ قبّرة
حين ترى بيوضها المُكسرة.
إن للحب عند جواد غلوم سياقات جديدة من الفهم فيها الكثير من أسئلة فلسفة المعنى، من التجرد عن الخجل لإعلان الحقيقة التي يخشى الآخرون البوح بها، بعد أن قيدها الحياء بسلاسل النسيان لتنبعث سيلا من الاعتراض الجريء الذي يرفض التقدي بكثير من متعارفات القدسنة الكاذبة:
من ذا يفصل بين الطهر
وبين العهر
بين حليلات الشيخ الفاجر
أو بين خليلات الرجل العاهر
من ذا يفرز نسل نكاح
عن وِلْدِ سفاح
فالاثنان استقيا قيئا ودما
من صلب نبيٍّ لامسَ رحِم سجاح
ناما في فرش أبي العباس السفاح
والشاعر حينما يصل إلى هذه المرحلة من الوعي المستفز المشاكس؛ تتساوى في رؤاه المصائر التي كان يحذر البوح بها بالأمس، ما دامت النتيجة واحدة، وهي الموت بلا ثمن، أو بثمن بخس مدفوع، فالشاعر مسيح اليوم يحمل صليبه على عاتقه يبحث عمن يصلبه عليه ليتجلى الخلاص الأبدي:
سيان الخنق بطوق ورودٍ
أو حزمة حبلٍ أو باقة آسْ
سيان القتل بسيف جهادٍ
أو بلطة مأجور أو فاسْ
كل الطرقات تؤدي للإخصاب
عهرا كانت
طهرا كانت
غصبا أو برضا الملكوت الأعلى
ومرورا بالكهنوت الأدنى
إن هذا هو السحر بعينه، ولا أدري كيف يكون السحر إذا لم يكن هذا سحرا! فمتى ما اجتمعت الشاعرية والبلاغة يمكن أن تنتجا سحرا أو أسطورة أو مأساة من حكايا الخيال الجانح تلك التي كانت تكلمنا عنها جداتنا في الصغر، وقد تكون القصص نفسها، الأسطورة نفسها؛ هي التي رسخت في كيان الشاعر الشيخ، لتلد بلاغة يفتقر إليها الكثير من شعراء اليوم.
ينسب إلى الأديب العربي الكبير سهل بن هارون قوله: “اللسان البليغ والشعر الجيّد لا يكادان يجتمعان في واحد، وأعسر من ذلك أن تجتمع بلاغة الشعر وبلاغة القلم”. يقصد: الكتابة نثرا. ولكني وجدت جواد غلوم يخالف هذه القاعدة، يتمرد عليها، يكسرها دون عناء، فهو جيد الشعر وساحره ، بليغ الكلام وفصيحه ، جمع جودة الشعر والنثر كليهما حتى تميّز عن غيره! ثم عطرَّهما بعطر الخُلق النبيل ليتحول إلى أنموذج للجودة يعلن عن نفسه من خلال عمله لا من خلال مسح أكتاف النقاد، وهذا هو طريق ولادة الموهبة الحقيقية التي تتحدى الزمن، وتجعل من الشاعر طفلا يحبو، ومراهقا يحلم وشيخا يتأمل ويستذكر كل تلك السنين التي خلفها وراءه والتي تزرع في نفسه الألم واللوعة والضجر والغضب الكبير لأنها لم تكن كما أراد لها أن تكون، لتتكرر مأساة الإنسان التي ولّدها التناقض بين أصعب دورين يمكن أن يلعبهما: الباحث عن الخلود … والعاجز عن تحقيق أقل ما كان يصبو إليه، لكن سحر الكلمة وجزالة المعنى قد تعني بعض العوض عما فات، وتسلية لما هو آت، وتحقيق أمنيات! ومع ذلك تراه يشعر أن بينه وبين الشعر عتباً جميلا:
إلى أين يحدو بي الشعر
يأخذني من يديّ لألهو كما الطفل في العيدِ
أرقى الأراجيح، ألعب بين الزمان وبين المكان
أيكفي المكان لنشر جراحنا
في حبال الغسيل ؟
أيقضي الزمان وأيامه وساعاته
بين ضيم البقاء ومُر الرحيل ؟
وتراه يتخيل أن بينه وبين الشعر خصومة حامية تصل إلى حد التماسك بالأيدي والتدافع والركل:
إلى أين يركلني الشعر في رجله
إلى حانة في “الرشيد” انزوت مثل بلهاء ساكنة
تستحي أن تعبئ من خمرة الأمس دِنّا وزقا!
إن جواد غلوم كان يشعر بوطأة المماحكة مع الشعر تسرق منه راحة البال، وتشعره بالقلق الأبدي ولذا نصح الآخرين أن يتعلموا فن التعامل مع القصيدة؛ هذا الكائن الخرافي الأسطوري المتوحش الناعم كالحية الرقطاء، والشائك كالقنفذ، والخفيف كريشة في مهب رياح القلب:
وأنت تأخذ مقعدك جوار سيدتك القصيدة
اخنق دَوْيِّكَ العالي
تعلمْ لغة الهمس والنجوى الخافتة
لا تتكلم وأنت تهز يديك
أتقن الانحناءة قليلا كمن يترقب طلعة صديقة رائقة
من صفوة المجتمع المخملي
ليكن صوتك خافتا ومسموعا معا
دون أن تفتح فاك وتُظهر زبدَك
مما تقدم تبدو القصيدة عند جواد غلوم كائنا حيّا متمردا متوحشا قاسيا عنيفا ، تحتاج كتابتها إلى نمط خاص من التعامل لترويضها؛ لا يجيده سوى أجود الشعراء
فالقصيدة أولا كما النساء الغانيات
تتقدم في صدارة اهتمامك
لا تتعثر وأنت تفتح باب عربتك لها
ارفع أذيال فستانها بتؤدة
خذها بيدك في رفق
واسحب كرسيا لتقعد أمامك
إن الشاعر جواد غلوم كاتب وأكاديمي عراقي من مواليد النجف سنة 1949، له مجموعتان مطبوعتان : “حكاية الميمك الحزين” و”حبال لأرجوحة متعبة”، وقد صدرت مجموعته الجديدة “حب امتناع لامتناع” عن دار أمل الجديدة بدمشق؛ وهي تضم (30) قصيدة، وارى حسب قناعتي وخبرتي مجموعة تستحق القراءة بعمق لأنها تمثل مرحلة حساسة وحاسمة من تجربة الشاعر العراقي الكبير جواد غلوم.

اترك تعليقاً