السيمر / الأربعاء 29 . 03 . 2017
حسين ابو سعود
وضعت ساعتي جانبا اثناء جلوسي الى جانب العجوز التي رأيتها وانا ابحث عن الحقيقة بين كثبان الرمل في الصحراء، ذلك المنظر الذهبي الساحر الذي جعلني أحس بالرهبة لثاني مرة في حياتي وكانت تلك العجوز هاربة هي الاخرى من عالم العنف.
كانت هاربة من قاطعي الأشجار الذين تعج بهم حانات تلك المدينة السادية التي لم تكتشف بعد، ولكنها موجودة فعلا والجهل بالشيء لا يعني ابدا عدم ذلك الشيء.
حكت تلك العجوز عن مدينتها بتذمر وخوف من المستقبل، ووصفت لي الأشياء وصفا دقيقا، تحدثت عن أشكال التناقض وألوان الناس وظلال القضبان واشياء اخرى لا يندى لها الجبين خجلا لأنها طبيعية مثل التنفس من الأنف.
بكت العجوز كثيرا عندما أتت على قصة الشاب الذي خدعها وأوهمها بالحب والعودة الى الشباب وفلسفته للروح والجسد، بكيت لها انا الاخر وبكت معنا الكثبان والاشجار وأطياف المدينة السادية وكان لا بد لها ان تنهي قصتها بسرعة لتستمع الى قصتي فقد كانت متلهفة لوضع حد معقول لمأساتي بآثارها الواضحة على ملامح وجهي الشاحب ونظراتي كانت تلمح لها بالعجلة في إنهاء قصتها.
وبعد نصف قرن بالتحديد انتهت من قصتها والتفتت الي بحنان لم آلفه من قبل وطلبت إليّ ان ننام بعض الوقت لنستيقظ بعد ذلك استعدادا لسرد قصتي وفعلا نمنا بضعة قرون حتى شبعنا من الكوابيس فايقظنا صياح ديك هارب من سكين فلاح اتخذ من الوادي المجاور سكنا له ، وكان يريد ان يذبح هذا الديك المزعج ليقدمه وجبة لذيذة لضيوفه الذين طلبوا منه طعاما وشرابا او يقتلوه ويأكلوا لحمه ميتا ، فآثر ان يفدي نفسه العزيزة بالديك الذي اصبح في اخر عمره مزعجا بعد ان كان سببا في ولادة الكثير من الدجاج ولكن لماذا اختار الفلاح هذا الديك بالذات فذاك سر لن يتسن لنا ان نعرفه لان الديك لا ينطق كي يبدد حيرتنا ولم نكلف نفسينا بالبحث عن الفلاح وشلة العنف لننقذ احدهما من براثن الاخر لأننا كنّا نفتقر الى السلاح في ذلك الوقت.
اشارت عليّ العجوز الطيبة بمسك الديك وذبحه وسلخه ومن ثم شيه على حرارة الشمس اللاهبة ولكني لم افعل ذلك لأني لم أتعود منظر الدماء فأنا قد نسيت المنظر الذي رايته ايام الصغر للعروس الصغيرة التي زفت الى عريسها قسرا وبقع الدم الحمراء كانت تلطخ ثوب عرسها الأبيض، لقد نسيت ذلك المنظر على يد طبيب نفساني طلب مني ان يكشف عليّ بالمجان فوافقته.
أيه كان ذلك بعد ان احرق هولاكو اخر كتاب وقع في يديه أسيرا في بغداد تلك المدينة التي عشقها هولاكو يوما الى درجة الانانية.
اقتربت مني العجوز برفق وأخرجت من بين اسمالها البالية سيفا طوله عدة سنوات من القهر والحيرة وثقبت في صدري ثقبا صغيرا فرضعت من دمي خمس رضعات فصارت بعد وجبة الفطور الخفيفة هذه ابنة لي بالرضاعة وأصبحت انا محرما لها فلم تعد العجوز تحس بالحرج وهي تبدي لي زينتها الروحية التي تقطر سحرا وروعة ودما، جلستُ مطمئنا على منبر من الرمل الأصفر وتذكرت قصة رابعة العدوية لأوقف نزيف الدم وجلست هي بين يدي او بين رجلي لا فرق ،و وضعت يدها على خدها واستسلمت للانصات وأطلقت انا العنان للساني الذي كان مكبلا في السابق ورأيت ان اختصر الكلمات جهد الإمكان ، واقتصرت على وصف الاكاذيب على انها حقائق ولم اخبرها عن اكتشافي للسراب فكل ما في الامر أني لم أصل الى الماء الذي كان يتراءى لناظري من بعيد بدأت ُ قصتي بالقول: كانت الكرة الارضيّة تدور حول الشمس كعادتها وكانت أمي الحامل تقف على سطح المنزل وهي تحدق في منظر الشمس التي كانت تسير نحو الغروب وكانت تفقد توازنها تدريجيا حتى اذا استدارت الكرة الارضيّة وانقلب عاليها سافلها وقعت أمي في حضن الفضاء الرحب، وأصبحت تطير كالغيمة في الفراغ حيث لا جاذبية ولا وزن ،ومن هول دهشتها وضعتني غلاما ابلغ من العمر كومة من الآمال والاحلام ولم استقر على نهديها سوى مرة واحدة فقط ضاعت أمي بعده في الفضاء واختفت عن بصري فصرت انظر اليها ببصيرتي، عشت في ذلك الفراغ زمنا لا أستطيع تحديده حتى هبت ذات ليلة ريح صرصر أدخلتني في مجال الجاذبية فجذبتني الكرة الارضيّة لسطحها من جديد بعد ان لفظت أمي الى الفضاء الخارجي والقمتها العدم، رأيت نفسي في مدينة صغيرة وادعة تنعم بالهدوء سألني أهلها عن أصلي وفصلي فلم اجب، سألوني عن اهلي فآثرت السكوت ، سألوني عن وطني فلم انبس ببنت شفة وحين أرادوا ان يمنحوني هوية الانتماء سألوني عن مكان الولادة فأخبرتهم باني ولدت في الفضاء فضحكوا وسخروا مني وسلبوني حقوق المواطنة ولم تشأ الاقدار لي ان انتمي ومنذ ذلك اليوم وانا أبطن الحب للانتماء وأظهر الكره لهذه الكلمة، ولكنهم اختاروا لي كوخا حقيرا في ضواحي المدينة آوي اليه في المساء لأقضي فيه الليل الطويل وحيدا، وأما النهار فكنت اقضيه وانا ابحث عن المدينة في تلك المدينة ، وكنت اتلصص لاستمتع بكشف نواياهم المستقبلية.
كانت الاجور في تلك المدينة زهيدة جدا ولكن كل شيء كان رخيصا مبذولا ، كانت المدينة مليئة بالمتعة الجسدية والروحية بالرغم من اثار الشيخوخة التي كانت تغلف البيوت الطينية ذات الدور الواحد والفناء الواسع وبعيدا عن عيون أهل تلك المدينة الطينية نشأت بيني وبين تلك المدينة علاقة حب عاصفة جعلتني أهيم في غرامها وهامت هي الاخرى في حبي رغم بعض ممارساتها الشاذة، حيث كانت تسلبني بعض الأحيان ردائي الذي كان يقيني من البرد ومن لسعات الحشرات او كانت تجعلني ابيت الليل طاويا من الجوع ولكننا في النهاية اتفقنا رغما عن أهلها ان نلعب لعبة الفراشة والنار وكان لا بد ان اهاجر الى مدينة اخرى لأجلب معي عدة الشغل وفعلا رحلت بعد ان وعدتها بالعودة و وعدتني بالوفاء والحفاظ على الود.
وصلت الى المدينة الجديدة التي تختلف عن الاولى اختلافا جذريا، عشقتني المدينة الثانية واغرتني بقصورها وعماراتها الشامخة، حاولت ان أقاوم إغراءها مرارا ولكني استسلمت في النهاية بعد ان تعرت امامي وعضتني من المكان الذي يؤلمني.
لقد انقضى الوقت المحدد للغيبة ولم أعد الى عشيقتي الاولى بحجج واهية.
ولما استبطأت المدينة الاولى عودتي أرسلت في طلبي رسائل مليئة بالعتاب والدموع والالم والخيبة.
رسائلها كانت ملتهبة وفيها كل أشكال الرجاء والتوسل بالعودة وكل ألوان الاعتذار عن التجويع والتجريد من الرداء ايام البرد القارس، وكانت تحلف لي في رسائلها ان لا تعود الى مثل تلك الممارسات إذا ما عدت الى أحضانها التي ادمنتْ عليّ في حين ان المدينة الاخرى تكتفي بتقديم الإغراءات دون الرجاء والتوسل.
وحيرتي الان يا ايتها العجوز بعد ان انتهيت من قصتي تكمن في الاختيار الى اي المدينتين أنتمي؟، وتذكري ان لا بد لي من الانتماء، تعمدت الاختصار في سرد قصتي على العجوز لأني كنت متلهفا لان ترشدني وتثلج صدري بجواب شاف يبعدني كل البعد عن ظلم احدى المدينتين ولكن خاب ظني حيث كانت العجوز قد اختفت فجأة والدوامة مازالت في أوجها.