السيمر / الجمعة 19 . 05 . 2017
ضياء الشكرجي
هذه هي الحلقة التسعون من مختارات من مقالات كتبي في نقد الدين، حيث سنكون مع مقالات مختارة من الكتاب الرابع «الدين أمام إشكالات العقل».
«إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرضِ خَليفَةً»
هذه كانت واحدة من آخر المحاضرات الدينية في المكان الذي كنت أديره، وأئم صلاة الجماعة فيه، والمسمى بـ «دار الهدى» في مدينة هامبورغ، وقد ألقيتها في فترة اعتمادي للمذهب الظني، أي (اللاأدرية الدينية)، حيث لم أكن أئمهم بالصلاة، لأني لم أرد أن أغشهم، لكوني صغت لنفسي صلاتي الخاصة، وفق المذهب الظني، ولم أكن أرغب بإلقاء المحاضرات، إلا أن البعض كان يلح علي في تقديم شيء، فألقيت عليهم محاضرة حول مفهوم جعل الله الإنسان خليفة له في الأرض، حسب الآية في سورة البقرة، ثم دونتها بعد ذلك كمقالة.
سنجد عبر هذه المقالة أن المفهوم القرآني لخلافة الإنسان لله سبحانه في الأرض ينطبق اليوم على إنسان المجتمعات غير المسلمة أكثر بكثير من انطباقه على إنسان عالمنا الإسلامي. وأرجو أن يصبر عليّ القارئ الكريم في متابعة أفكارها، إذ رأيت من اللازم تقديم تمهيد فكري للموضوع قبل الدخول في صلبه، فأرجو ألا يكون ذلك مملا للبعض.
هذه ليست مقالة دينية، وإن اتخذت نصا قرآنيا منطلقا لها، بقدر ما هي مقالة تتناول مفهوما إنسانيا عاما برؤية تأملية وبحياد ديني، وتحاول أن تعرض النظرية على الواقع، والواقع على النظرية، أو بتعبير المناطقة المفهوم على المصاديق والمصاديق على المفهوم، ولمن ليس له إلمام بمصطلحات علم المنطق، فالمفهوم هو الفكرة المجردة التي لا وجود لها إلا في الذهن، كمفهوم الإنسان، والوطن، وإلى غير ذلك، بينما المصداق هو المثال الذي ينطبق عليه المفهوم، والذي له وجودان، وجود ذهني عبارة عن صورة ذلك المصداق في الذهن، ووجود واقعي أو خارجي، أي ذلك الوجود خارج الذهن في عالم الواقع، ولذا سُمِّيَ وجودا خارجيا، لوقوعه خارج الذهن، أو وجودا واقعيا، لوجوده في الواقع، أو الواقع الخارجي، ومن هنا فالواقع والخارج قد يكونان في لغة علم المنطق مترادفين من وجه. والمفهوم قد يكون بسيطا كمفهومي الإنسان (ومصداقه أي فرد من أفراد البشر)، والوطن (ومصداقه العراق أو ألمانيا)، وغيرهما من المفاهيم، وقد يكون مفهوما مركبا كالمفهوم المعبر عنه بمقولة أن (الإنسان خليفة الله في الأرض). والمقالة تطرح المفهوم ليس كمفهوم قرآني، وبالتالي إسلامي، أي كمفهوم مُنتَمٍ، وذلك بحكم انتمائه إلى الإسلام كرؤية للكون والوجود، بل تتناوله كمفهوم فلسفي متجرد، أي محايد دينيا، وإن كان مُستمَدّا من القرآن، بل هو مفهوم قد يتحرك في دائرة أوسع من دائرة المؤمنين بالله سبحانه وتعالى، إذا ما عُدَّ لفظ الجلالة تعبيرا عن مفهوم (المثل الأعلى) كمفهوم مجرد لـ(المطلق) بالنسبة للماديين، ولا تناقض بين اعتماد (المطلق) كمفهوم مجرد، وبين الإيمان بالنسبية كقانون يشمل كل مناحي الفكر، بما في ذلك مقولة «كل شيء نسبي»، أي إن حتى مقولة «كل شيء نسبي» تخضع للنسبية، وإن بدا ثمة تناقض، لكنه تناقض افتراضي وليس حقيقيا، ومر تناول ذلك.
النص القرآني الذي يذكر هذا المفهوم، هو ما جاء في سورة البقرة:
«وَإِذ قالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرضِ خَليفَةً، قالوا أَتَجعَلُ فيها مَن يُّفسِدُ فيها وَيَسفِكُ الدِّماءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قالَ إِنّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُم عَلَى المَلائِكَةِ، فَقالَ أَنبِئوني بِأَسماءِ هـاـؤُلاءِ إِن كُنتُم صادِقينَ، قالوا سُبحانَكَ لا عِلمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمتَنا، إِنَّكَ أَنتَ العَليمُ الحَكيمُ، قالَ يا آدَمُ أَنبِئهُم بِأَسمَائِهِم، فَلَمّا أَنبَأَهُم بِأَسمَائِهِم قالَ أَلَم أَقُل لَّكُم إِنّي أَعلَمُ غَيبَ السَّماواتِ والأَرضِ وَأَعلَمُ ما تُبدونَ وَما كُنتُم تَكتُمونَ.»
أتناول هذا النص كما بينت بحيادية، أي بتجرد عن أي انتماء فيما هي العقيدة، وبمعزل عن القناعة الذاتية للكاتب أو القارئ، أي بدون الخوض في الحكم على إلهية أو بشرية النص، وكذلك بمعزل عن قصة الخلق عموما، وقصة خلق الإنسان بشكل خاص، فيما يطرحه العهدان القديم والجديد، أو فيما يطرحه القرآن، وعن موقف العلم من كل ذلك. فبالنسبة للمؤمن بالكتب المقدسة للأديان الإبراهيمية، فإن آدم هو الإنسان الأول، أو لعله ممكن التأويل الرمزي بعَدِّه رمزا لمفهوم (لإنسان) عندما بلغ طور الرشد وتكامل الذكاء، إذا ما سلمنا بنظرية التطور Evolution لدارون Darwin، فبلغ طور ما يمكن أن يصطلح عليه بطور التكليف الشرعي، استعارة من المصطلح الفقهي (سن التكليف الشرعي)، ومن شروطه بلوغ سن الرشد، وسلامة العقل.
الذي يهمنا في هذه التَّأمُّلة المتواضعة هو معنى الخلافة، أي كون الإنسان خليفة لله في الأرض مجازا، وعلاقة هذا المفهوم بمفهوم الشهادة، أي الأمة الشاهدة على الأمم، والفرد الشاهد على الأمة الشاهدة بحسب النص القرآني «وَكَذالِكَ جَعَلناكُم أُمَّةً وَّسَطًا لِّتَكونوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ، وَيَكونَ الرَّسولُ عَلَيكُم شَهيدًا»، وكذلك بمفهوم حمل الأمانة بحسب النص القرآني الثالث «إِنّا عَرَضنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرضِ وَالجِبالِ، فَأَبَينَ أَن يَّحمِلنَها، وَأَشفَقنَ مِنها، فَحَمَلَهَا الإِنسانُ، إِنَّ الإِنسانَ كانَ ظَلومًا جَهولًا»، كما يهمنا التأمل في تطبيقات كل ذلك، لاسيما مفهوم الخلافة على الواقع، أعني واقع المجتمع البشري عموما.
ولنتناول ابتداءً مفهوم الخلافة، أي كون الإنسان خليفة الله في الأرض حسب مبنى الإلهيين من الإنسانيين العقلانيين، أو كونه مجسدا للمثل الأعلى حسب متبنى الماديين من الإنسانيين العقلانيين. عندما نقول إن الله – توحَّد وتنزَّه وتعالى – هو الوجود المطلق أو المفهوم المطلق أو المثل الأعلى، يعني ذلك أن له الأسماء الحسنى، أي إنه متصف اتصافا ذاتيا مستقلا بجميع الكمالات على نحو الإطلاق، وهذا هو الكمال المطلق الأفقي، كما إنه متصف بكل كمال من الكمالات على نحو الإطلاق، وهذا هو الكمال المطلق العمودي. وخليفة الله، أو مجسد المثل الأعلى الذي هو هنا الإنسان، بما أنه وجود نسبي، وليس مطلقا، فهو ليس وجودا ثابتا، بل متحرك ومتحول ومتغير، وبما أنه متحول واعٍ، وبما أن من أركان وعيه هو وعيه بمفهوم الكمال، يكون التحول والتغير الإرادي أو الاختياري منه – لا الجبري – عنده تحولا تصاعديا أو تكامليا أو كدحيا: «يا أَيُّهَا الإِنسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدحًا فَمُلاقيهِ»، أي «يا أيها الوجود النسبي الواعي إنك متحرك باتجاه مثلك الأعلى أي باتجاه المطلق تحركا إراديا ببذل الجهد والكدح، فمقترب منه خطوة بعد خطوة، وشوطا بعد شوط، في سير تكاملي». وهذا ما يعبر عنه بمعنى تخلق الإنسان بأخلاق الله، أو تحليه بأسمائه الحسنى، مع فارق أنها عند المطلق سبحانه مطلقة، وعند الإنسان نسبية، عنده تعالى كاملة ثابتة، وعند الإنسان متكاملة متحولة، عند الله ذاتية ومستقلة، وعند الإنسان مكتسبة وبالتبعية.
فالخليفة أيَّ خليفة كان، أي المُستخلَـف، لا بد أن يكون ممثلا للمُستخلِف، وبالتالي حاملا لصفاته ذات العلاقة بموضوع الاستخلاف، ولو بدرجة دونه. من هنا فمقولة العهد القديم بأن الله خلق الإنسان على صورته، لا تعني الصورة الحقيقية أي المادية، لأن الله متعال ومتنزه عن المادة، بقدر ما تعني هذا الذي ذهبنا إليه فيما هي العلاقة بين المستخلِف والمستخلَـف، بين الخالق والمخلوق، بين الله والإنسان، هذا الذي عبر عنه القرآن بأنه سبحانه قد «نَفَخَ فيهِ مِن رّوحِهِ»، كما وعبر عنه بأنه «عَلَّمَهُ الأَسماءَ كُلَّها».
إذن الخليفة يكون خليفة، بمقدار ما يحقق من تلك الصفات. وقد يستغرب القارئ إذا ادعيت أني وجدت أن الإنسان الأورپي، أو عموم الإنسان الغربي، أو إنسان مجتمعات العالم الحر المتقدمة، هو الذي حقق في عصرنا جل شروط الاستخلاف. ونمر على الوحد بعد الآخر من تلك الشروط، التي تمثل في نفس الوقت صفات الكمال للمُستخلِف.
1.العلم:
الله هو العليم بكل شيء، حسب اعتقادنا نحن المؤمنين به، ويحب لمخلوقه وخليفته الإنسان الاستزادة من العلم. والعلم يخطو في العالم الحر المتقدم العلماني خطوات عملاقة في جميع الاتجاهات، وفي كل الميادين، وذلك في خط الإفادة من تسخير الكون للإنسان من قبل خالقه.
2.الحكمة:
والخالق المستخلِف هو الحكيم. والحكمة هي التي يعبر عنها أيضا بالعقلانية، التي تتجسد في سلوك وثقافة الإنسان الغربي، أو إنسان المجتمعات المتقدمة، بما لا نراه بنفس المستوى في عالمنا.
3.العدل:
الله عدل لا يجور، يحب العدل ويمقت الظلم، ويريد للعلاقة بين الإنسان والإنسان أن تقوم على أساس العدل. والعدل نراه هو الآخر متحققا بدرجة أكبر بكثير مما هو الحال في مجتعاتنا، التي نفتقد فيها المساواة بين المرأة والرجل، وبين المسلم وغير المسلم، وأعرافا اجتماعية، وعادات قبلية، واجتهادات فقهية تنأى كثيرا عن القسط والعدل الذي يمثل القضية المركزية لدعوات الأديان، فيما هي العلاقة بين الإنسان والإنسان.
4.السلام:
والله يدعو للسلام. والسلام قيمة أساسية في تلك المجتمعات، بعدما تجاوزت قرون التخلف والتعصب والتطرف والاحتراب، واستفادت وتعلمت من تجربتها.
5.الحرية:
فالله خلق الإنسان حرا ومسؤولا، ونجد في مجتمعاتنا الحريات مصادرة، في كثير من الأحيان باسم الدين، بينما أصبحت الحرية قيمة كبرى في المجتعات المتحضرة، سواء الحرية السياسية أو الدينية أو الشخصية وغيرها.
6.الإبداع والخالقية:
والإبداع والخالقية من صفات الله، ولذا فلا يمكن أن يكون خليفته إلا من يتحرك في خط الإبداع والابتكار والخلق والتطوير، وهذا ما نجده في المجتمعات الغربية، بينما حتى مبدعونا، عندما تخنق روح الإبداع فيهم، يضطرون للهجرة، حيث يحتضن ويشجع الإبداع.
7.الدقة والإتقان:
الله أتقن كل شيء صنعه، ونجد الإتقان والدقة من أبرز ملامح المجتمعات الحديثة، فنجد العامل في أي مجال كان، لا ينجز عمله إلا تاما دقيقا ومتقنا، بينما تغيب الدقة والإتقان غالبا في مجتعاتنا.
8.رعاية وحماية الطبيعة:
فكيف يكون الإنسان خليفة لله، ولا يكون حريصا على حفظ البيئة التي خلقها له واستخلفه عليها وسخرها لخدمته، فيحميها من التلوث بكل أنواعه، وهذا ما تحرص مجتعات الدول المتقدمة عليه، بينما ما زلنا نلوث ماءنا وهواءنا وطبيعتنا من غير إحساس بالمسؤولية.
9.تسخير الكون:
الله هو الذي سخر الكون للإنسان. والإنسان الغربي يسعى جادا لبلوغ الآفاق في هذا الكون الواسع، وتسخيره لإنسان المستقبل، فيبحث لهذا الإنسان، إنسان المستقبل، عن فرص على كواكب لم يكن في الحساب أن يبلغها الإنسان، وهكذا تسخير كل ما في الأرض لصالح الإنسان، بينما ما زال الإنسان الشرقي غافلا عما في تلك الآفاق من فرص مستقبلية هائلة.
10.الذوق:
نجد الذوق ميزة بارزة جدا في المجتعات الغربية وعموم المجتمعات الحديثة والمتقدمة، في الملبس والأثاث والعمارة وتخطيط المدن والسلوك، وما الذوق إلا الميل لقيم الجمال المادية والمعنوية، والله هو مبدع الجمال ويحب متذوقي الجمال وصانعيه.
11.النظام:
فالكون نظام في غاية الدقة، ومن هنا لا يكون خليفة الله خليفته ما لم يلتزم في كل مناحي حياته بالنظام، لأن عكس النظام الفوضى، والفوضى عبث وتخريب، بينما النظام حكمة وبناء.
12.النظافة:
باستثناء التزام المتدينين بالطهارة الشرعية، لا نجد النظافة معلما بارزا في حياتنا، كما هو الحال مع تلك المجتعات.
13.رعاية حقوق الإنسان:
فالله هو أرعى الراعين لحقوق عباده، والذي من يخلفه في الأرض هو من يرعاها حق رعايتها، وهذا ما تكفله النظم الديمقراطية العلمانية، لا سيما في الغرب (الكافر) كما يحلو للبعض نعته، بينما نجد في مجتعاتنا غالبا لا قيمة للإنسان ولحقوقه ولكرامته.
فالخليفة الذي استخلفه الله في الأرض ليس من يقضي حياته مصليا صائما زائرا حاجا معتمرا، معولا على المستقبل الأخروي، غير ملتفت إلى كونه، لم يُعِدّ حتى لذلك المستقبل الأخروي، لابتعاده عن جوهر الإيمان من صدق وأمانة وعدل وعفو ورحمة وخدمة للناس، مكتفيا بعبادات مفرغة من محتواها، وذلك لحد الإفراط والإسراف، بتضييع حياته، تضييع يومه، وشهره، وسنته، وعمره في الزيارات وإقامة الشعائر والصلوات في المساجد خمس مرات في اليوم، وقضاء جُلّ وقته في المساجد والحسينيات والمراقد والتكيات والمسيرات، وباللطم والبكاء، وبناء المساجد الفخمة بأكثر من حاجة المصلين أضعافا مضاعفة. ورحم الله محمد عبده عندما قال أنه وجد في الغرب إسلاما بلا مسلمين، وفي العالم الإسلامي مسلمين بلا إسلام، بقطع النظر عن كيفية فهم قوله هذا، ومدى اتفاقي معه أو عدمه، فيما هي التفاصيل، ولكن المنطلق هو ذات منطلق هذه المقالة، والتي اختصرتها كثيرا، فيما كان لزاما التفصيل أكثر في كثير من مفرداتها، لكني آمل أني قد أوصلت الفكرة.
20/08/2008