الرئيسية / مقالات / 109 الافتتاح بـ «بسم الله الرحمن الرحيم» ما له وما عليه

109 الافتتاح بـ «بسم الله الرحمن الرحيم» ما له وما عليه

السيمر / الثلاثاء 27 . 06 . 2017

ضياء الشكرجي

هذه هي الحلقة التاسعة بعد المئة من مختارات من مقالات كتبي في نقد الدين، حيث نكون مع مقالات مختارة من الكتاب الرابع «الدين أمام إشكالات العقل».

الافتتاح بـ «بسم الله الرحمن الرحيم» ما له وما عليه
بادئ ذي بدء أقول كلمة للبعض، وأعني الذين ربما سيقولون، بمجرد قراءة عنوان المقالة: «إلى أين يسير هذا الرجل؟ حتى على «بسم الله الرحمن الرحيم» يريد هذه المرة أن يعترض؟». فأقول لهم: مهلكم معي، وصبركم عليّ، فإني أحبها، لكني، وهذا ما سأبين أسبابه، لا أحب استخدامها، ولي اعتراضاتي المشروعة سياسيا ودينيا على إقحامها في الخطاب السياسي، أو استهلاله بها. ولا يتوهم أحد أن ثمة تناقضا بين كوني أحبها من جهة، ولا أحب استخدامها من جهة أخرى، فحبي للبسملة جوهراً، يلزمني ألا أستخدمها شكلاً، أعني كتابة ولفظا. كما إنه، كما سأبين، لا تناقض، كما قد يتوهم بعض آخر، بين إيماني العميق بالحريات، وتسجيل إشكالي على استخدام البسملة في الخطاب السياسي.
العبارة تسمى «البسملة»، وهو فعل منحوت من عبارة مركبة من حرف الجر (باء) و(اسم) الذي هو مجرور حرف الجرّ، والذي هو، أي الاسم، مضاف، يلحقه لفظ (الله) كمضاف إليه. وتسمى «البسملة» أيضا بـ «التسمية»، ويكون الفعل المنحوت من الأول بَسمَلَ يُبَسمِلُ، وفعل الثاني سَمّى يُسَمّي [بالله]. والبسملة المعروفة عند المسلمين هي قول «بِسمِ اللهِ الرَّحمَن الرَّحيم»، والأصح أن تكتب «بِاسمِ اللهِ الرَّحمانِ الرَّحيم». ولكن حذف ألف همزة الوصل لكلمة (اسم)، وحذف ألف رحمان، وكثير من الأخطاء فيما يسمى برسم القرآن، أي ما يعرف بالإملاء، اتخذ قداسته من خلال كتابة القرآن به، مع إن الذين كتبوه بصورته التي وصلتنا، قد كتبوه بعد قرن أو قرنين، وحتى لو جمعوه بعد وفاة نبيهم بفترة قصيرة، فهم بشر يخطئون ويصيبون، ولم يدعوا أن الوحي نزل بطريقة الكتابة، لكن أخطاءهم فرضت على اللغة العربية، فأصبحنا نكتب «هذا» بدلا من «هاذا»، و«هذه» بدلا من «هاذه»، و«هؤلاء» بدلا من «هاؤلاء»، و«أولئك» بدلا من «ألائك»، و«لكن» بدلا من «لاكن»، و«داود» بدلا من «داوود»، و«إله» بدلا من «إلاه»، و«رحمن» بدلا من «رحمان»، و«مائة» بدلا من «مئة». بل أصبح من يكتبها صحيحا، يعاب عليه، كونه لا يعرف قواعد الرسم أو الإملاء.
لماذا يا ترى قلت إني أحبها، ولماذا لا أحب استخدامها؟ كوني أحبها لأني مؤمن بالله، وإيماني هو علاقة حب، لأني أرى الله هو الجمال المطلق، والكمال المطلق، والجلال المطلق، والرحمة المطلقة، والحب المطلق، والعدل المطلق، والسلام المطلق، والحكمة المطلقة. وأحب أن أستحضر المطلق بجماله، لأن نفسي منجذبة نحو الجمال، ولأن العبارة أكدت على الرحمة، فلم تختر مفردة أخرى مثل «الرؤوف» «الحنّان» «الغفور»، بل اشتقت من الرحمة وزنين لصيغة المبالغة، هما «فَعَلان» و«فَعيل». لكني لا أحب استخدامها، لأنها مؤدلجة، تماما كأدلجة «الله أكبر»، بل إن الثانية أشد تأدلجا، وأكثر استخداما في موارد العنف والإرهاب، ولذا لم أكن أتمنى أن يشتمل عليها علم العراق، وهي التي كان قد وضعها الديكتاتور بنفسه بعد احتلال الكويت وسحق انتفاضة آذار ومجزرة الأنفال. ولي قول هو إن «الله أكبر» في جوهرها، يلزم عدم وضعها شكلا على علم دولة، علاوة على إن الدولة حاضنة للمواطنين بشتى عقائدهم، ولا يجوز بذلك أدلجة علم الدولة لصالح فئة دينية أو سياسية، حتى لو مثلت الأكثرية، وخاصة لكوننا نؤمن بأن الدولة العلمانية هي الأصلح لأهل الدين من مواطنيها ولغيرهم. وهكذا يمكن القول بأن «صدق الله العلي العظيم» مؤدلجة شيعيا و«صدق الله العظيم» مؤدلجة سنيا، ومثل ذلك يقال في صيغتي القسم الشيعية «أقسم بالله العلي العظيم»، والسنية «أقسم بالله العظيم».
أرجع إلى البسملة، ولماذا لم أحب استخدامها في الخطاب السياسي، فأقول، حتى عندما كنت من الناحية السياسية إسلاميا، ومن الناحية الدينية مؤمنا أعمق الإيمان بالإسلام بوصفه رسالة الله إلى الإنسان، وملتزما أشد الالتزام بتعليماته وأحكامه، ولو حسب فهمي المعتمد لمنهج تأصيل مرجعية العقل، وذي المنحى الإنساني، على الأقل في العقد الأخير، قبل التحول سياسيا إلى العلمانية، وبعدها إيمانيا إلى لاهوت التنزيه، أو الإيمان العقلي اللاديني. في الحديث السياسي لم أكن أحب استخدامها. لماذا؟ السياسة وما معنية بالمواطِنة والمواطِن، كل مواطِنة، وكل مواطِن، المواطن المسلم الملتزم دينيا، المواطن المسلم بالولادة غير الملتزم دينيا، المواطن الإسلامي، المواطن العلماني، المواطن المسيحي، المواطن الصابئي، المواطن الإيزيدي، المواطن الإلهي اللاديني، المواطن الملحد. ولذا كإنسان مؤمن بالديمقراطية، التي من لوازمها التعددية، على جميع الأصعدة، على صعيد السياسة، والدين، والقومية، والثقافة، والفكر، والعقيدة. من هنا لا يجوز لي فرض شعاري الديني على الآخرين.
ولا بد من التمييز بين الأوساط التي تحب أن تستخدم البسملة مستهلة بها أحاديثها على الفضائيات، أو في مجلس النواب، وغيرهما من المحافل السياسية. فالذين يستخدمونها، فريق منهم يستخدمها إيمانا واعتقادا منه بأن هذا مما يحبه والله، وما يقرّب قائلها ومستهِلّ أحاديثه وأعماله بها إليه، لكنهم غافلون عن كون ذلك يمثل عدم مراعاة لعقائد وقناعات الناس، وهذا أي عدم المراعاة، مما يفترض ألا يحبه الله، حسب فهمي على أقل تقدير، ولي أدلتي على هذا الفهم.
ومنهم من يستخدمها، اعتقادا منه، إنه بفرضه هذه العبارة على من يحب سماعها، ومن لا يحب، أو لنقل من يؤيد صحة استخدامها، ومن لا يؤيد ذلك، أو لعله يتحسس منه، تطبيقا منه لمبدأ إن العزة والقوة للمؤمنين، ومن قبيل «موتوا في غيضكم إن كنتم لا تحبون سماعها». فمثل هؤلاء يستخدمونها بنشوة الانتصار على الآخر المغاير، ومن موقع الابتزاز وأخذ الآخرين حياءً وحرجاً، وبالتالي غصبا، لعلمهم أن ليس فيهم من يجرؤ على البوح بالاعتراض على استخدامها، خوفا من سيف التكفير المسلط على سمعة الإنسان في مجتمع يسوده التدين العاطفي أكثر مما هو تدين واعٍ.
ومنهم من يستخدمها مجاملة، أو لعله تملقا، وربما أحيانا تقية، أو نفاقا، لإرضاء الإسلاميين، أو إرضاء عامة المتدينين، أو درء شبهة الكفر أو عدم الالتزام المسمى في أدبيات التدين بـ «الفسق» عن نفسه.
ومنهم من يستخدمها، مجرد عادة اعتادها، أو تقليدا للآخرين، من دون أن يستحضر أية نية أو أية فكرة، إيجابا أو سلبا.
من ناحيتي، أحب استفتاح كلامي وأموري وأعمالي باسم الله، ولكن هذا الميل والحب، هو شأن شخصي، ولذا يجب تركه عندما أتناول الشأن العام، المعني به كل مواطن على اختلاف عقيدته. لذا لم أستخدمها حتى عندما كنت إسلاميا، ومقتنعا بإلهية مصدر الدين. واليوم لا أستخدمها، لأنها تمثل شعار من لا أشعر بالانتساب إليهم، مع احترامي لقناعاتهم، ما تحلّوا بالعقلانية ولم يفرضوا قناعاتهم على غيرهم.
حتى الذين يؤمنون بالله، والذين يحبون أن يستهلوا كلامهم وأعمالهم باسم الله، يرون في عبارة «باسم الله الرحمان الرحيم» شعارا خاصا بالمسلمين. فبسملة الصابئة المندائيين على سبيل المثال باللغة المندائية «أبشوميهون أد هيي ربي»، بمعنى «باسم الله الحي العظيم»، أو «باسم الله الحي الأزلي». وقد يفضل المسيحيون قول «باسم الأب والابن وروح القدس»، أو لعله «باسم الرب يسوع». وشخصيا لي بسملتي التي أحبها، مع طول عبارتها وهي «باسم الله رب العقل والصدق والعدل والرحمة والحب والجمال والسلام». لكن كل هذا لا يمكن أن يندرج في الخطاب السياسي، أو عند مخاطبة أناس متعددي العقائد، بل يبقى من الشؤون الشخصية، أو الخاصة بالمجموعات التي تعتقد بأي منها في محافلها الخاصة بها، أي في المسجد، في الكنيسة، في أماكن العبادة الأخرى الخاصة بهذه أو تلك الديانة، والتي يحضرها عادة المؤمنون من أتباع كل منها. في مثل هذه المحافل والأماكن الخاصة للإنسان أن يتكلم بلغته، وحسب عقيدته الخاصة، وبما يعبر عن إيمانه بها. حتى الشعار الحزبي لأي حزب كان، لا يمكن فرضه على جمهور متنوع، بل يمكن قبوله في الدائرة الحزبية الخاصة، كالمؤتمرات الحزبية. إذن هي قيمة أخلاقية، وتعبير حضاري، عندما يراعي صاحب عقيدة ما عقائد الآخرين، ولا يبتزهم، ولا يأخذهم حياءً، فيكون كالذي أخذهم غصبا.
بعد 2003 رأينا الإسلاميين، لاسيما الشيعة، وهم يعبّرون عن نشوة الانتصار، يستهلون كلامهم في البرلمان ووسائل الإعلام بديباجة طويلة، ويسميها البعض (جنجلوتية)، ألا هي «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللعين الرجيم، باسم الله الرحمان الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين»، وقد يضيف بعضهم «وعلى صحبه المنتجبين». وكنت أمزح وأقول، هل من المعقول لو اتصل بي أحد الأصدقاء هاتفيا، أو التقيته في الشارع، وسلّم عليّ، وسألني عن حالي، فأرد عليه بعبارة «باسم الله الرحمان الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين، عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، الحمد لله أنا بخير، وكيف حالك أنت؟»؟
ثم إننا نعرف جيدا إن هناك البسملة المسيسة، كشعار للإسلاميين. فليس هناك تسييس للدين عموما وحسب، بل هناك بسملة مسيسة، وحسين مسيس، ومرجعية مسيسة، وليس آخرا هناك الله المسيس. وهنا أتذكر وأذكر من عاش تلك التجربة، كيف شكلت البسملة عقبة أمام إصدار بيان من «لجنة العمل المشترك»، التي كانت إطارا لعمل المعارضة في المهجر، قبل «المؤتمر الوطني العراقي» ثم «المؤتمر الوطني العراقي الموحد»، فلم يصدر البيان لإصرار الإسلاميين على افتتاحه بعبارة «بسم الله الرحمن الرحيم»، ورفض العلمانيين لذلك.
عقيدة الفرد محترمة كشأن شخصي، ولا تقحم في الشأن السياسي، وهذا يشمل عقيدتي، التي أتكلم عنها من قبيل مزاولة حقي في حرية التعبير، ولكن أرفض أن تكون متضمنة في مشروع سياسي أو خطاب سياسي، فلكل مقام مقاله المناسب له، ولكل حادث حديثه الملائم له.

19/09/2014

اترك تعليقاً