السيمر / الأثنين 10 . 07 . 2017
ضياء الشكرجي
التهنئة القلبية لأهلنا أبناء الموصل، ولعموم الشعب العراقي، ولكافة القوات التي قاتلت وضحت وساهمت في التحرير، ولكل القوى والشعوب المحبة للسلام. والشكر والانحناء لأبطال التحرير فخر العراق من الجيش العراقي، وجهاز مكافحة الإرهاب، والشرطة الاتحادية، وقوات الرد السريع، والقوات الخاصة، والعمليات المشتركة، وحشد نينوى، ومتطوعي الحشد الشعبي، ومقاتلي الپيشمرگة، والشكر للعبادي القائد العام للقوات المسلحة، على حسن إدارته لمعركة التحرير، رغم أني من أشد المعارضين لحزب الدعوة وللتحالف الوطني (الشيعسلاموي) اللذين ينتمي إليهما، والشكر لكل من سعى لأن يكون التحرير نظيفا إنسانيا وطنيا، بعيدا عن النزعات التي تفرق ولا توحد، وكذلك الشكر لدور التحالف الدولي الداعم لعملية التحرير، وقبل كل ذلك لأهلنا في الموصل الذين رفضوا وعارضوا داعش، وتعاونوا مع القوات المسلحة.
دعونا نفرح بعيد النصر بتحرير الموصل الحبيبة، ودعونا نعبر عن فرحنا بهذا العيد، وإن كانت لنا مخاوفنا مما بعد داعش، دعونا نفرح ونحتفل ونعبر عن فرحنا بهذا اليوم، وإن كانت لنا أحزاننا، لتلك الحقبة المظلمة والدموية منذ العاشر من حزيران عام 2014، بكل مآسيها وكوارثها على الإنسان بالدرجة الأولى، ولكن أيضا على السيادة الوطنية، وعلى البنية التحتية، وعلى التاريخ والتراث والفن.
بكل تأكيد لا يكفي أن نفرح ونحتفل، ونعبر عن فرحنا بكل الوسائل المتحضرة المتاحة، وبكل تأكيد لا يكفي أن نحزن على ضحايانا من المدنيين، سواء من الإيزيديين والمسيحيين أو من الشيعة، أو من أهالي الموصل نفسها الذين عانوا أشد وأقسى المعاناة، وعلى من فدوا أرواحهم الغالية من أجل الوطن من مقاتلينا الأبطال من جميع صنوف قواتنا المسلحة، التي قاتلت داعش وحررت الأرض، وحررت الإنسان من رجس هذه العصابة الإرهابية، التي انتُزِع منها كل أثر للنزعة الإنسانية بشكل كلي. مع إن الفرح مطلوب، كما إن الحزن مطلوب، والقلق مطلوب، ولكن دعونا هذه الأيام نجعل الفرح يطغى سائر المشاعر، ولكن المطلوب أكثر من هذا وذاك هو أخذ الدروس من هذه التجربة الكارثية القاسية.
ما هي تلك الدروس؟ وما هي المخاوف ما بعد داعش؟ وما هو المطلوب لمرحلة ما بعد داعش؟
صحيح إنه لم يجر بعد تحرير كل الأرض العراقية من الدواعش، ومن الڤايروس الداعشي الخبيث اللعين، وتطهيرها من رجسهم، فهناك ما زالت بعض جيوب الرجس الداعشي في تلعفر والحويجة وبعض المناطق القليلة غرب الفرات، والتي نتطلع إلى تحررها هي الأخرى قريبا، ولكن يبقى تحرير الموصل بالذات ما يستحق حقا أن يُعَدّ عيدا، بل عيدا عراقيا متميزا، بل هو العيد الأكبر.
ولا بد لنا من أن ننحني لأبطالنا المقاتلين من كل صنوف القوات المسلحة، ومن المتطوعين، ونقبلهم من جبينهم. وعلى ذكر المتطوعين، لا بد من القول، بألّا يجوز أن تنسينا مشاعر الفرح أن نميز بين أبطال التحرير من المتطوعين وبين بعض قادة الحشد الموالين لإيران، والذين يأتمرون بأوامرها، من موقع ما يرونه من تكليف شرعي، يوجب عليهم اعتبار الولي الفقيه وأذرعه واجبي الطاعة، وإن طاعته وطاعتهم هي بمثابة طاعة الله ورسوله وأهل بيته، وإن كانوا من الناحية الرسمية مؤتمرين بأوامر القائد العام للقوات المسلحة، لكن هذا الائتمار لا يكون إلا بمقدار ما يجيزه الولي الفقيه. لكننا نقول إذا كانت إيران قد ساعدت في التحرير، فنقول شكرا لكم، لكننا لن نقبل أن يكون تعبيرنا عن شكرنا القبول بإخضاع العراق لسلطة ولاية الفقيه، وهكذا إذا كانت أمريكا ساعدت في التحرير، نقول لها شكرا، وإذا كانت دول أخرى من التحالف الدولي ساعدت في التحرير، فنقول لهم جميعا شكرا، ولكن يبقى التحرير عراقيا، وعراقيا بامتياز، وبكل تأكيد. كما وسنكون من الشاكرين لكل من سيساعد العراق على إزالة تبعات الاحتلال الداعشي، في إعادة البناء.
ثم هناك مسؤولية كبيرة، أخلاقية ووطنية وإنسانية، تقع على عاتق الدولة، وعلى الجمعيات الخيرية، ومنظمات حقوق الإنسان، المحلية منها والدولية، أن يجري الالتفات بكل جدية وبكل استشعار بالمسؤولية، إلى أسر شهداء التحرير، وأسر ضحايا الإرهاب والمتضررين من جرائه من أهالي الموصل، ومن إيزيديين ومسيحيين وشيعة، وغيرهم من مواطنينا، لتتخذ هذه الرعاية موقعها في مقدمة سلم الأولويات، وليبق شعارنا “الإنسان قبل الأرض”.
بعد كل الذي أصاب العراق من جراء عدم اعتماد مبدأ المواطنة، سواء من قبل السياسيين الشيعة، أو السياسيين السنة بشكل خاص، كما يمكن إضافة السياسيين الكرد، ومن جراء استبدال دولة المواطنة بدولة المكونات، واستبدال التعددية السياسية بالطائفية السياسية، أو المكوناتية السياسية؛ كل ذلك الذي لم يكن وحده، لكن أحد أهم العوامل، أو لعله الأهم منها جميعا، لظهور داعش. فداعش إذا كانت سنية الهوية، دون تعميم الداعشية على مواطنينا السنة طبعا، إذ الكثيرون منهم كانوا ضحايا داعش، كما إن الكثيرين منهم انخدعوا في البداية بداعش كفرصة تحرر من الهيمنة الشيعية على المشهد السياسي وعلى أهم مؤسسات وشؤون الدولة، وشعور السنة من جراء ذلك بالإقصاء والتهميش والحيف. أقول إذا كانت داعش سنية الهوية، فالساسة الشيعسلامويون هم الذين مهدوا بالدرجة الأساسية وابتداءً الأرضية لظهور الظاهرة الداعشية في العراق، عبر الإصرار على التشيع السياسي والتمادي فيه، حيث أعطى ذلك المبرر أكثر لظهور التسنن السياسي. ولذا من أجل أن نحول دون ظهور داعش بثوب آخر، لا بد من تجريم كل من التشيع السياسي، والتسنن السياسي، والتدين السياسي، والتأسلم السياسي. فيجب بعد هذه التجربة القاسية أن يحظر على السياسي العامل في السياسة في إطار مؤسسات الدولة، لاسيما في إحدى السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، أن يتصرف سياسيا ووظيفيا كشيعي أو سني، أو أن يكون خطابه خطابا شيعيا أو سنيا، ويجب أن يُجرَّم أي سلوك يؤدي إلى أشيعة أو أسننة السياسة، بما في ذلك أن يكون خطاب السياسي ومواقفه بوصفه ممثلا، أو مدعيا التمثيل، لهذا أو ذاك المكون، لما في ذلك من نقض لمبدأ المواطنة، الذي يعد ركنا أساسيا من أركان الدولة الديمقراطية الحديثة. ناهيك عن طوأفة، أي أشيعة التربية والتعليم والثقافة والفن، أو أسننتها.
فوجود أحزاب سياسية شيعية، ووجود أحزاب سياسية سنية، يعني تجديد التمهيد لظهور ثمة ظاهرة داعشية، وذلك بأي مستوى من مستويات الظاهرة، ويعني الإصرار على دولة المكونات بدلا من دولة المواطنة. ولا يكفي أن تأتلف كتلة شيعية مع كتلة سنية ليكوّنا ائتلافا انتخابيا أو نيابيا عابرا للطوائف، أو لنقل للطائفتين، بل المطلوب ألا تكون هناك أصلا كتلة سياسية شيعية، وأخرى سنية. ويجب الكف عن خداع الشعب ومحاولة تضليله، بتسمية التحالف الشيعي-الإسلامي، أو بتعبير آخر التحالف الشيعسلاموي بـ(التحالف الوطني)، أو بتسمية اتحاد القوى السنية بـ(اتحاد القوى العراقية). فدولة المواطنة لا تتحقق بالشعارات الكاذبة، فنرى ساسة وقوى شيعية يجتمعون، ويتحدثون عن دولة مواطنة، واجتماعهم الشيعي وحده نقيض دولة المواطنة، كما نرى ساسة وقوى سنية يجتمعون أو يأتمرون في إطار مؤتمر سني، ويتحدثون عن دولة مواطنة، واجتماعهم أو مؤتمرهم السني وحده نقيض دولة المواطنة.
إننا عندما نؤكد على أن كلا من أشيعة وأسننة السياسة يُعَدّ جريمة وطنية كبرى، لا بد من القول بأننا نعلم إن القضاء العادل عندما يقاضي مجرما، يكون من أسباب تخفيف العقوبة، إذا كانت الجريمة لم تحدث مع سبق الإصرار، وإذا تبين للقضاء شعور الجاني بالندم على ارتكابه للجريمة، وإذا لم تكن هناك مخاوف من عودته إلى تكرار ارتكاب تلك الجريمة، وبعكسه تكون العقوبة أشد، كلما ثبت للقضاء أن الجريمة إنما ارتكبت مع سبق الإصرار، وأن الجاني لم يظهر أي مشاعر بالندم، وأن احتمالات تكراره لارتكاب تلك الجريمة كبيرة جدا، ومما يجعل العقوبة أشد عندما لا تكون الجريمة قد ارتكبت بحق فرد، ولا بحق أفراد معدودين، بل بالحق العام، وبتعبير أدق بحق شعب ووطن، بحق أجيال ذلك الشعب، ومستقبل ذلك الوطن.
ولكننا بعيدا عن التمنيات والتطلعات والأحلام، ومن خلال نظرة واقعية نعلم جيدا أننا لن نتخلص في المستقبل المنظور من واقع وجود أحزاب وكتل سياسية شيعية وأخرى سنية، نتساءل ما إذا كان الناخب العراقي سينتخب مجددا الأحزاب الشيعية، إذا كان شيعيا، أو السنية، إذا كان سنيا، أو أحزاب الإسلام السياسي إذا كان متدينا، ورغم أن كل هذه الأحزاب وغيرها، في المركز وفي الإقليم، متورطة بالفساد، وبعيدة كل البعد عن مبادئ الديمقراطية ومبدأ المواطنة، و(باسم الدين باگونا الحرامية)، أليس كذلك؟
وبعد وقبل كل ما ذكر، هل سيأتي اليوم الذي تتم فيه محاسبة المسؤولين عن سقوط الموصل، سواء شمل ذلك رئيس وزراء سابق، أو محافظا سابقا، فيما يخص تضييع الموصل، أو أي مسؤول كبير على الصعيد الاتحادي أو على صعيد سلطة الإقليم، فيما يتعلق بشنگال (السنجار) والإيزيديين؟ وهل سيأتي اليوم الذي تجري فيه مقاضاة المتورطين بالفساد الإداري والمالي، وبسرقة، أو لا أقل هدر المال العام؟ يجب أن يكون الحد الأدنى المطلوب، ألّا عودة للمسؤولين عن تضييع الموصل لمواقع المسؤولية في الدولة، ولتكن هذه العودة، خاصة للحالمين بالثالثة، تمثل خطا أحمر.
هذا كله يحتاج إلى ثورة، نعم يحتاج إلى ثورة، ولا أعني الثورة بمعناها الذي ألفناه حتى الآن، بل هي ثورة مفاهيم، وثورة ثقافة، وثورة قيم، تتحقق وتتسع وتتجذر لدى الشعب، أو لدى أكثرية الشعب، أو نسبة كافية لإحداث التغيير والتصحيح.
لا تناقض بين هذا وبين ما ذكر في بداية المقالة: دعونا نفرح بالانتصار، فالفرح من غير أخذ الدروس من التجربة الموجعة جدا، ومن غير استئصال أسباب ظهور الظاهرة الداعشية، لا معنى له، وهو فرح غير مضمون البقاء، لا قدر الله. فلا بد إذن من انبعاث وعي جماهيري واسع ومتجذر بثقافة الديمقراطية، وبمبدأ المواطنة، وبمفاهيم العلمانية، التي لا تعني تخلي المتدين عن تدينه، بقدر ما تعني جعل كل من التدين والتشيع والتسنن والتأسلم، شؤونا شخصية محضة، تصون حريتها الدولة للأفراد، ولكن يحرم إقحامها في شؤون الدولة، وفي شؤون السياسة، وفي الشأن العام عموما، وأن يكون كل من صلاة وخطبة الجمعة، والمواعظ الدينية، وارتياد الحسينية والمسجد والكنيسة شؤونا دينية لا سياسية، وليكن للسياسة ميادينها، وللعبادة ميادينها، ولا تداخل بينهما، وإذا ما تناولت هذه الطقوس والشعائر والعبادات والخطب الدينية شأنا عاما، فليكن على سبيل التأكيد على قيم التسامح والتعايش والتعاون والعطاء وحب الخير للناس وأن يحب الإنسان لغيره ما يحب لنفسه، والتأكيد على قيم المحبة والسلام.