الرئيسية / مقالات / 119 إتيان القرآن بما ينهى عنه وشك محمد

119 إتيان القرآن بما ينهى عنه وشك محمد

السيمر / السبت 22 . 07 . 2017

ضياء الشكرجي

هذه هي الحلقة التاسعة عشر بعد المئة من مختارات من مقالات كتبي في نقد الدين، وبها أختم ما اخترته للنشر من مقالات كتابي الرابع «الدين أمام إشكالات العقل»، وتشتمل على مقالتين قصيرتين عن القرآن ومناقضة نفسه، وعن مُؤَلِّفه أو مُبَلِّغه وشكّه، ثم خاتمة الكتاب.
القرآن ينهى عن خلق ويأتي به كم نردد هذا البيت المليء بالحكمة للشاعر أبي الأسود الدؤلي:

لا تَنهَ عن خُلُقٍ وَتَأتي مِثلَهُ .. عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتَ عَظيمُ

ولعل من المفيد ذكر البيت الذي قبله، والبيتين الذين بعده، معه، فتكون الأبيات الأربعة التي اخترتها من قصيدته كالآتي:

وَإِذا عَتَبتَ عَلَى السَّفيهِ وَلُمتَـهُ .. في مِثلِ ما تَأتي فَأَنتَ ظَلومُ

لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَـــأتي مِثلَــهُ .. عارٌ عَلَيـكَ إِذا فَعَلتَ عَظيـمُ
اِبدَأ بِنَفسِكَ وَانهَهـا عَن غَيِّهــا .. فَإِذَا انتَهَت عَنهُ فَأَنتَ حَكيـمُ

فَهُناكَ يُقبَلُ ما وَعَظتَ وَيُقتَدى .. بِالعِلمِ مِنكَ وَيَنفعُ التَّعليـــــمُ

ولعل عنوان مقالتي، وما سيأتي من تفصيل، سيتفز القرآنيين (أعني أتباع القرآن أي المؤمنين بالإسلام)، لما يرون فيه إساءة إلى الذات الإلهية، عبر الإساءة لكلام الله، وهنا أقول: مهلا وصبرا وحلما، فلو علمت أنه كلام الله، لما تجرّأت عليه، لا خوفا من الله المخيف، بل حبا لله الجميل الحبيب، فأنا آخر من يتجرأ على الذات الإلهية، فهل رأيتم حبيبا يسيء إلى حبيبه؟ من هنا أقول اقرأوا بهدوء، ولا تنفجروا غضبا قبل أن تكملوا القراءة.
فأين ينطبق قول الشاعر «لا تَنهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثلَهُ» على القرآن، الذي يفترض حسب عقيدة المسلمين، أنه كلام الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا عن يمينه ولا عن شماله؟ فالكامل كمالا مطلقا يمتنع أن يصدر عنه نقص، والجميل جمالا مطلقا يمتنع أن يصدر عنه قبح، والعادل عدلا مطلقا يمتنع أن يصدر عنه ظلم.
سنرى كيف أن القرآن ينهى عن التنابز بالألقاب وينبز الآخرين بأقبح الألقاب، وينهى عن أخلاقية السب، ويسب مخالفيه، وينهى عن التطفيف، بمعنى ازدواجية الموازين والمعايير، ويزاول التطفيف، وينهى أن يأمر أحد الناس بالبر وينسى نفسه، أو أن يقول ما لا يفعل، مقررا «كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقولوا ما لا تَفعَلونَ»، ولا يلتزم بذلك.
ولنمر على ثلاثة نصوص قرآنية تنهى وبحق عن الازدواجية، ثم سنرى بعد ذلك كيف يقع القرآن نفسه، أو يقع مؤلفه، أو مؤلفوه على فرض تعددهم، في الازدواجية.
1.الصف: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لِمَ تَقولونَ ما لا تَفعَلونَ (2) كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقولوا ما لا تَفعَلونَ (3)»
2.البقرة: «أَتَأمُرونَ النّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم وَأَنتُم تَتلونَ الكِتابَ أَفَلا تَعقِلونَ (44)»
3.المطففين: «وَيلٌ لِّلمُطَفِّفينَ (1) الَّذينَ إِذَا اكتالوا عَلَى النّاسِ يَستَوفونَ (2) وَإِذا كالوهُم أَو وَّزَنوهُم يُخسِرونَ (3)»
فإدانة الازدواجية توجه تارة إلى بني إسرائيل، الذين تصفهم الآية أنهم يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وتارة للمسلمين، في إدانة ظاهرة التناقض بين القول والفعل، بين المدعى والسلوك، وفي النص الثالث توجه إدانة الازدواجية إلى عموم من يمارسها، التي تنعتهم السورة بالمُطَفِّفين؛ المصطلح الذي تسمت السورة باسمه، وهم الذين إذا اكتالوا لأنفسهم على الناس يستوفون، ولا يرضون بأي نقص في ما يوزن أو يكال لهم، مهما كان ضئيلا، بينما إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم يُخسرون، فيطففون الميزان عندما يزنون، وينقصون الكيل عندما يكيلون. وهذا لا يختص بالبيع والشراء، بل يمكن على تعميمه على كل ما يمارس الإنسان من ازدواجية المعايير، مثلا في تقييم المواقف وإصدار الأحكام وغيرها.
لكن لننظر من خلال بعض الأمثلة التالية كيف يقع القرآن نفسه في الكثير من حالات ازدواجية المعايير:
1.الحجرات: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا يَسخَر قَومٌ مِّن قَومٍ عَسى أَن يَّكونوا خَيرًا مِّنهُم وَلا نِساءٌ مِّن نِّساءٍ عَسى أَن يَّكُنَّ خَيرًا مِّنهُنَّ وَلا تَلمِزوا أَنفُسَكُم وَلا تَنابَزوا بِالأَلقابِ بِئسَ الاِسمُ الفُسوقُ بَعدَ الإيمانِ وَمَن لَّم يَتُب فَأوُلئِكَ هُمُ الظّالِمونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اجتَنِبوا كَثيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعضَ الظَّنِّ إِثمٌ وَّلا تَجَسَّسوا وَلا يَغتَب بَّعضُكُم بَعضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَن يَّأكُلَ لَحمَ أَخيهِ مَيتًا فَكَرِهتُموهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوّابٌ رَّحيمٌ (12)»
2.الأنعام: «وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدعونَ مِن دونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدوًا بِغَيرِ عِلمٍ كَذالِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُم ثُمَّ إِلى رَبِّهِم مَّرجِعُهُم فَيُنَبِّئُهُم بِما كانوا يَعمَلونَ (108)»
نرجع إلى بيت أبي أسود الدؤلي: «لا تَنهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثلَهُ …»، وما عبّر عنه القرآن نفسه بـ «كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقولوا ما لا تَفعَلونَ»، والذي عبر عنه الشاعر في عجز البيت آنفا بوصف هذا السلوك: «عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ». ثم لننظر كيف يستقبح القرآن التنابز بالألقاب، بينما يطلق الألقاب السيئة على خصومه، فيسمي عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم بـ(أبي لهب)، ويسمي عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي الكناني بـ(أبي جهل) بدلا من كنيته أبي الحكم، وهكذا يسمي مسلمة أو مسيلمة بن حبيب الحنفي بـ(مسيلمة الكذاب)، ولم يكتف الإسلام بإطلاق الألقاب السيئة على خصومه، بل سمى مرحلة ما قبل الإسلام بالجاهلية، وسمى غير المسلم بالكافر، والمسلم غير الملتزم بالفاسق، والشاك بالإسلام غير المصرح بشكه، بسبب خوفه من بطش المسلمين به بالمنافق، بينما المسلم الذي يخفي إيمانه خوفا من أعداء الإسلام بالمتقي أو مزاول ما يعرف حسب المصطلح القرآني بـ(التُّقاة) [هنا كمصدر وليس كجمع لـ«تقي»]، وما عرف في أدبيات الفقه الشيعي بـ (التقية).

والآن مع النبز والشتم القرآني تجاه المغايرين:
1.وصف (الأنعام) في سورة الأعراف: «ساءَ مَثَلًا القَومُ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا وَأَنفُسَهُم كانوا يَظلِمونَ (177) مَن يَّهدِ اللهُ فَهُوَ المُهتَدي وَمَن يُّضلِل فَأُولئِكَ هُمُ الـخاسِرونَ (178). وَلَقَد ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثيرًا مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلوبٌ لّا يَفقَهونَ بِها وَلَهُم أَعيُنٌ لّا يُبصِرونَ بِها وَلَهُم آذانٌ لّا يَسمَعونَ بِها أُلائِكَ كَالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ أُلائِكَ هُمُ الغافِلونَ (179)».
2.وصف (شر البرية) في سورة البينة: «إِنَّ الَّذينَ كَفَروا مِن أَهلِ الكِتابِ وَالمُشرِكينَ في نارِ جَهَنَّمَ خالِدينَ فيها أُولئِكَ هُم شَرُّ البَرِيَّةِ (6)».
3.وصف (القردة والخنازير) في سورة المائدة: «قُل يا أَهلَ الكِتابِ هَل تَنقِمونَ مِنّا إِلّا أَن آمَنّا بِاللهِ وَما أُنزِلَ إِلَينا وَما أُنزِلَ مِن قَبلُ وَأَنَّ أَكثَرَكُم فَاسِقونَ (59) قُل هَل أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ مَثوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيهِ وَجَعَلَ مِنهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنازيرَ وَعَبَدَ الطّاغوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَّكانًا وَّأَضَلُّ عَن سَواءِ السَبيلِ (60)».
4.وصف (الكلب) في سورة الأعراف: «وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذي آتَيناهُ آياتِنا فَانسَلخَ مِنها فَأَتبَعَهُ الشَّيطانُ فَكانَ مِنَ الغاوينَ (175) وَلَو شِئنا لَرَفَعناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخلَدَ إِلَى الأَرضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إِن تَحمِل عَلَيهِ يَلهَث أَو تَترُكهُ يَلهَث ذالِكَ مَثَلُ القَومِ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا فَاقصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرونَ (176)».
5.وصف (الحمار) في سورة البقرة «وَمَثَلُ الّذينَ كَفَروا كَمَثَلِ الَّذي يَنعِقُ بِما لا يَسمَعُ إِلّا دُعاءً وَّنِداءً صُمٌّ بُكمٌ عًميٌ فَهُم لا يَعقِلونَ (171)»، وسورة الجمعة «مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلُوا التَّوراةَ ثُمَّ لَم يَحمِلوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ أَسفارًا بِئسَ مَثَلُ القَومِ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ (5)»
هذه بعض المصاديق لأخلاقية (الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم)، وأخلاقية (الذين يقولون ما لا يفعلون)، وأخلاقية (المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) وأخلاقية (الذين يبخسون الناس أشياءهم). علاوة على عدّ من يخفي عدم إيمانه خوفا من بطش المسلمين نفاقا، والذي يخفي إيمانه بالإسلام خوفا من بطش أعداء الإسلام مزاولا للتقية، فالنصوص معروفة، ومر التطرق إليها.

شك محمد بالوحي
تتكرر في القرآن عبارات بنفس النص، أو بنص مقارب جدا، تتحدث عن مخاطبة الله لمحمد بتأكيده له أن ما جاءه أو أنزل إليه هو وحي الله إليه وأنه هو الحق، ويحذره الله من أن يكون من الممترين، أي أن يشك بأن ما جاءه هو الحق من ربه.
ففي سورة يونس – آية 95 يخاطب الله محمدا بقوله: «لَقَد جاءَكَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكونَنَّ مِنَ الـمُمتَرينَ»، وفي سورة البقرة – آية 147 وسورة آل عمران – آية 60 يقول الله له: «الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكونَنَّ مِنَ الـمُمتَرينَ»، وفي سورة الأنعام – آية 114 يقول له: «وَالَّذينَ آتَيناهُمُ الكِتابَ يَعلَمونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالحَقِّ فَلا تَكونَنَّ مِنَ الـمُمتَرينَ».
وسأقتصر على تناول ما جاء في سورة يونس في الآيتين 94 و95:
«فَإِن كُنتَ في شَكٍّ مِّمّا أَنزَلنا إِلَيكَ، فَاسأَلِ الَّذينَ يَقرَأونَ الكِتابَ مِن قَبلِكَ. لَقَد جاءَكَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكونَنَّ مِنَ الـمُمتَرينَ. وَلا تَكونَنَّ مِنَ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِ اللهِ، فَتَكونَ مِنَ الخاسِرينَ.»
فكأن الله يحس من نبيه أنه قد انتابه الشك في أن هذه الإيحاءات التي حصلت لديه تمثل حقا وحيا أنزل إليه من الله، وليست هلوسة، ولا وسوسة من الشيطان، فيقول له: «فَإِن كُنتَ في شَكٍّ مِّمّا أَنزَلنا إِلَيكَ»، ثم تتكرر الإشارة إلى شك محمد بذلك، فيحذره الله من أن يكون «مِنَ الـمُمتَرينَ»، بل لا يستبعد الله أن يتصاعد الشك والريب والامتراء عند نبيه، الذي يفترض أنه اصطفاه اصطفاءً من بين كل أفراد البشرية لأخطر مهمة كلف الله به عبدا من عباده من يوم خلق آدم إلى يوم القيامة، فيؤدي به هذا التصاعد في شكه، أن يتجاوزه إلى مرتبة التكذيب، فيكون في النهاية «مِنَ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِ اللهِ»، فيودي به الأمر إلى أن يكون عندئذ «مِنَ الخاسِرينَ»، خالدا في نار جهنم مع الكافرين والمنافقين.
من الغرابة أن يصطفي الله إنسانا يحتمل أن يشك بالوحي، بل الغرابة تكون أشد، عندما نعلم أن محمدا هو مؤلف القرآن، حيث يتنقل ما بين تقمصه لله وبين عودته لشخصه هو وبين الكلام بلسان حال المؤمنين به، أو بلسان حال الكافرين به. هل جاء بمثل هذا الكلام المنسوب إلى الله تأكيدا على بشريته، وعلى أن المخاطِب غير المخاطَب، والموحي غير الموحى إليه، لامتناع أن يتكلم إنسان عن شكه فيما يطرحه على الناس كحقيقة إلهية، أم كانت لمحمد حالات مما يشبه الغيبوبة تحصل عنده هذه الإيحاءات الذاتية، وهذه غير الحالات التي كان يستنزل الآيات حسب الحاجة. أمر لا أدعي قدرتي على كشف أسراره.
ثم إذا كان من غير المستبعد أن ينتاب نفس الموحى إليه شك بالوحي، فلماذا يلام الآخرون عندما يشكون به، وإذا كان معاصروه قد شكوا به وكذبوه، والأصح القول أنهم لم يصدقوه، فلم يلام من يشك به ولا يصدق به بعد أكثر من ألف وأربعمئة سنة؟

خاتمة الكتاب
بهذا أتيت بتسديد الله إلى نهاية كتابي الرابع من مجموعتي «كتب لاهوت التنزيه»؛ ربما يتبعه خامس من هذه المجموعة، التي أسميتها بـ«كتب لاهوت التنزيه»، كنت قد كتبتها في البداية كمشروع كتاب واحد باسم «الله من أسر الدين إلى فضاءات العقل»، والذي اخترته عنوانا للكتاب الأول من المجموعة، فأشكر الله على حسن توفيقه.
آمل أني وفقت في اعتماد مرجعية العقل في تناول موضوعات هذه الكتب الأربعة، وأني وفقت لأراعي اللغة العلمية، وألتزم بقاعدتي الأخلاقية في وجوب مراعاة واحترام عقائد أصحاب العقائد، مهما كان نقدي ورفضي لعقائدهم. وإذا لم أفلح في ذلك على طول الخط، فعذري أني إنسان، ولأن الإنسان كائن نسبي، وليس مطلقا، كائن ممكن حادث، وليس بكائن واجب أزلي، ولأن خالقي، سواء كان الله المبدع القدير، كما أؤمن به يقينا، أو الطبيعة المبدعة، كما إلى ذلك يذهب الماديون، أي اللاإلهيون؛ لكون خالقي لم يخلقني، كما لم يخلق أحدا قبلي، معصوما. ثم هناك ما كان يلزمني أن أضع النقاط فيه على الحروف، مما مس بكل تأكيد مشاعر الكثيرين، من غير أن يكون هذا هدفي، بل العكس، فإن أخلاقي تلزمني باحترام مشاعر ومقدسات الناس، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، ويبقى فرق بين ما يتطلع إليه الإنسان ويسعى إليه جادا وصادقا، وبين ما يستطيع فعلا إليه من ذلك سبيلا. ثم تفاعل شديد يمارسه الباحث والمتأمل، قد تجعل الخط الفاصل دقيقا بين التفاعل والانفعال، فيظهر تصاعد التفاعل الفكري، وكأنه انفعال، لأن إيصال المتفاعَل معه، سواء إيجابا أو سلبا، دون أن يمتمظهر بصورة الانفعال السلبي والغاضب ضد النص المتفاعَل معه، لا يؤتاها إلا من اقترب من مستوى العصمة التي لا أدعي أبدا تمثلي إياها.
بكل تأكيد لا يعني بلوغ نهاية هذا الكتاب، وبه نهاية هذه المجموعة، أننا انتهينا من كل البحوث ذات الصلة. وأهم ما أسأل الله أن يوفقني لإنجازه، هو مشروع مجلدات في قراءة متجردة متسائلة محايدة عقلية ناقدة للقرآن. لا ألتزم حاليا باسم محدد لذلك المشروع، لأني لم أحسم خياره بعد؛ ربما «القرآن قراءة نقدية» أو «… قراءة مغايرة» أو «… متجردة»، أو شيء من هذا القبيل. حيث سأحاول تسليط الضوء على مواطن التألق والجمال في كتاب محمد، فيما فيه من إشراقات وتألقات، لا بد للمنصف أن يقر بها، وفيما هي المواطن التي هي على عكس ذلك التألق والجمال والإشراق.

المؤلف

15/11/2016

آخر مراجعة في 01/03/2017
هذه هي – حاليا – الحلقة الأخيرة من مقالات مختارة من كتبي الأربعة من مجموعة «كتب لاهوت التنزيه»، وهي «الله من أسر الدين إلى فضاءات العقل»، «لاهوت التنزيه العقيدة الثالثة»، «مع القرآن في حوارات متسائلة»، «الدين أمام إشكالات العقل»، وسيتبعها بتوفيق الله الخامس «نقد الدين بين الحرمة والإباحة والوجوب»، أو أي عنوان آخر. لكنها لن تكون آخر ما سأنشره من مقالات وبحوث ودراسات في نقد الدين، ونفي صدروه عن الله، بإثبات الامتناع العقلي لصدوره عنه، تنزه عن ذلك. وإذا ركزت على الإسلام أكثر من غيره، فلثلاثة أسباب رئيسة:
1.الإسلام يمثل خلفيتي العقائدية والاجتماعية والثقافية، كوني كنت مؤمنا بالإسلام، ملتزما بأحكامه بأدق ما يكون الالتزام، لثلاثين سنة، داعية ناشطا إليه لستة وعشرين سنة، ناشطا سياسيا في حزب إسلامي لخمسة وعشرين سنة.
2.معرفتي بالإسلام أكثر من معرفتي بغيره، وإن كنت مطلعا على العهدين القديم والجديد، وإجمالا على عدد من الأديان، بما يكفيني بحسم إيماني العقلي اللاديني، ونفي جميع الأديان بلا استثناء.
3.تشخيصي أن الإسلام هو الذي يمثل اليوم المشكلة الكبرى للعالم، دون أن نغفل عن دور الدين اليهودي، الذي تعتمده إسرائيل لإضفاء الشرعية الدينية على سياساتها العنصرية وغير العادلة. أما المسيحية، فرغم ما زاولته كنيسة القرون الوسطى باسمها من فظائع دموية، لم تعد اليوم مصدر خطر على السلام والحريات، بعدما تحولت في العالم الحر إلى شأن شخصي، بفضل العلمانية والحداثة ومنظومة حقوق الإنسان والحريات الليبرالية، وربما لأن المسيحية ليست ديانة أحكام وشريعة كاليهودية والإسلام.
هذا مع تأكيد وجوب الاحترام لعقلاء وإنسانيي المسلمين والمسيحيين واليهود والصابئة المندائيين والإيزيديين والزرادشتيين والبهائيين، وسائر أتباع الديانات الأخرى، والملحدين واللاأدريين، ودعوة الجميع للتعايش بسلام، إذ لا تعارض بين نقد ونفي الأديان من جهة، كزاولة لحرية التفكير والتعبير، وبين الدعوة للتعايش.

جعلت الإضافة في 19/07/2017

اترك تعليقاً