السيمر / الأربعاء 30 . 08 . 2017
د. ناجح العبيدي
هل سيكرر حيدر العبادي تجربة سلفه وغريمه نوري المالكي في الانتخابات المقبلة؟ هناك الكثير من المؤشرات التي ترجح تمرد العبادي على التكتل المؤقت الذي جاء به إلى السلطة عام 2014 ودخوله الانتخابات في عام 2018 بقائمة مستقلة. في هذه الحالة سيعيد رئيس الوزارء الحالي ما فعله رئيس الحكومة السابق المالكي عام 2010 عندما تشجع بتحسن شعبيته في ولايته الأولى، وتجرأ على إدارة ظهره للتحالف الشيعي ودخول الانتخابات بائتلاف دولة القانون. صحيح أن تفوق قائمة إياد علاوي على قائمة المالكي بمقعدين أفسد فرحة المالكي وأربك حساباته، لكن ذلك لم يقلل كثيرا من صواب تكتيكه، لا سيما وأنه سرعان ما عاد إلى أحضان التحالف الشيعي ليضمن الولاية الثانية.
الآن يقف العبادي أمام هذا الخيار. صحيح أنه ينفي علنا عزمه خوض الانتخابات العامة المقررة في أبريل/نيسان 2018 بقائمة منفصلة، ولكنه يشدد في نفس الوقت على أنه لن يفكر بالانتخابات “إلا بعد إكمال تحرير جميع الأراضي العراقية من قبضة داعش” الأمر الذي يعني ضمنيا عدم رفض الفكرة مبدئيا وإنما تأجيلها حتى الوقت المناسب. من هنا يبدو أن العبادي يميل لدخول الانتخابات بعيدا عن وصاية حزب الدعوة وأمينه العام المالكي. ولا يشجعه على مثل هذه الخطوة هيبة المنصب فحسب وإنما أيضا الإنجازات العسكرية الأخيرة. وإذا كان المالكي قد استفاد كثيرا في انتخابات عام 2010 من ضربه مليشيات جيش المهدي فيما دعي حينها بصولة الفرسان في البصرة ووظف نجاحات الصحوات ضد تنظيم القاعدة في المحافظات الغربية وانهمار أموال النفط على الميزانية العراقية في تلميع صورته، فإن العبادي سيسعى لدخول الانتخابات برأس يحمل “أكاليل غار” انتصارات استعادة الموصل وتكريت والفلوجة وغيرها. وإضافة إلى ذلك يحظى العبادي بدعم سياسي ومالي قوي من الخارج، وخصوصا من الولايات المتحدة ودول غربية عديدة التي ترى في حكومة العبادي عاملا مهما لضمان الاستقرار في بلد تعصف به رياح التمزق والتقسيم.
في المقابل تبدو حظوظ غريمه المالكي ليست قوية جدا. فهو يحمل وزر ضياع الموصل وتكبد الجيش العراقي لهزيمة مذلة قبل أكثر من ثلاثة أعوام. صحيح أن المالكي يحاول أن يظهر بأنه لا يزال يمسك خيوط اللعبة من خلف الستار مستفيدا من منصبه الرسمي كنائب لرئيس الجمهورية ومن موقعه الحزبي كأمين عام لحزب الدعوة. لكن ائتلاف دولة القانون، الذي كان يتميز بتماسك صفوفه النسبي مقارنة بالقوائم الأخرى، تعرض لهزات قوية أدت إلى تفككه إلى عدة كتل. ومن دون شك فإن أي نجاح للعبادي سيكون على حساب المالكي بالدرجة الأولى لأن كلاهما يعتمد أساسا على نفس القاعدة الشعبية . لكن العبادي ولكي يضمن الفوز بولاية ثانية بحاجة إلى حلفاء أقوياء داخل “البيت الشيعي” وخارجه. وهنا بالذات لم يفصح العبادي حتى الآن عن خياراته وتجنب ذكر أسماء محددة محاولا الإبقاء على كل الاحتمالات مفتوحة وانتظار الوقت المناسب للإعلان عن حلفائه المقبلين. لكن العبادي ليس السياسي الوحيد الذي لا يفضل اللعب بأوراق مكشوفة. فجميع التيارات والأحزاب تكتفي بمحاولة جس نبض القوى الأخرى عبر الحديث العام عن إقامة “مشروع دولة المواطنة” أو تشكيل “كتلة عابرة للطائفية”، ولكن دون الدخول في اتفاقات ملزمة.
ظاهرة احتدام المنافسة والتشتت والانقسام طالت أيضا أطرافا أخرى في “البيت الشيعي”. ضمن هذا السياق يأتي الانسحاب المفاجئ لعمار الحكيم من المجلس الأعلى الإسلامي وتأسيسه تيار الحكمة. بهذه الخطوة يتوج الحكيم تمرده على القيادات المخضرمة في المجلس الأعلى الذي عاني في السنوات الماضية من تراجع واضح في شعبيته. ومن الواضح أن عمار الحكيم لا يعول على القيادة الشابة لإيقاف هذا التراجع فحسب، وإنما يأمل أيضا في جذب الناخبين الشباب للتصويت لتياره، لا سيما وأن الشباب يشكلون غالبية سكان العراق. وستبين الأيام ما إذا كان هذا القرار “حكيما” بالفعل.
بدوره يستشعر التيار الصدري خطر التهميش بعد أن فقد الحظوة لدى إيران لصالح أطراف أخرى وانحسر دور المليشيات التابعة له في الحشد الشعبي مقابل بروز فصائل أخرى معروفة بعدائها للتيار الصدري. كما لم تثمر محاولات زعيمه مقتدى الصدر توظيف الحراك الشعبي المناهض للفساد ونظام المحاصصة لقلب المعادلة داخل الصراع الشيعي-الشيعي على السلطة عن نتائج حاسمة. إزاء هذا الخطر يواصل مقتدى الصدر إرسال إشارات متضاربة على المستوين الداخلي والخارجي. ضمن هذا “النهج” يندرج الحديث عن تحالف مع إياد علاوي أو مغازلة التيار المدني، وكذلك زيارته للمملكة العربية السعودية ولدول خليجية أخرى. ولا يسعى مقتدى الصدر لضمان دعم عربي لتياره فقط وإنما أيضا لبعث رسالة إلى طهران مفادها أنه قادر على كسب حلفاء إقليميين جدد.
لا تختلف الصورة كثيرا على الجانب السني حيث يتربص الجميع بالجميع وسط حالة من من التزاحم والتنافس والصراع. غير أن القوى السنية تواجه تحديات من نوع خاص، وفي مقدمتها تمزق وتشتت جزء كبير من قاعدتها الجماهيرية نتيجة الحرب على داعش وموجة النزوح التي طالت الملايين في المناطق ذات الأغلبية السنية. ودون التوصل لحل معقول لهذه المأساة سيفتح المجال للتشكيك بشرعية الانتخابات في هذه المناطق. كما أن اندلاع الأزمة الخليجية بين السعودية وقطر وتفاقمها وضع القيادات السنية العراق في وضع صعب، لأن الدولتين الثرتين وفرّتا في السنوات الأخيرة أهم مصادر الدعم المالي والسياسي. وبهذا لم يعد بالإمكان اللعب على الطرفين واستغلال الخلافات بينهما على النفوذ الإقليمي للحصول على مزيد من الدعم. وفي ظل هذه المتغيرات المحلية والإقليمية جرت وتجري محاولات إعادة ترتيب البيت السني وسط صعوبات بالغة. وهذا ما ظهر في المؤتمرات التي عقدتها القوى السنية في بغداد وأربيل واسطنبول حيث لم ينجح الإعلان عن انبثاق تحالف القوى الوطنية العراقية في إنهاء الصراعات على الزعامة والمناصب بين مختلف الشخصيات. وعلى الرغم من تردد أسماء كثيرة، تبقى المنافسة المحمومة بين سليم الجبوري رئيس مجلس النواب وأسامة النجيفي النائب الثالث لرئيس الجمهورية العنصر الحاسم في هذا الصراع. ومن دون شك فإن سليم الجبوري يعتبر حتى الآن الفائز الأكبر في الصراعات داخل المعسكر السني. ويبدو أن أحد أسرار نجاح الجبوري يكمن في أن الكثيرين، وبما فيهم منافسوه، أساءوا تقدير خبرته السياسية وإمكانياته على المناورة والتحرك بحذر وسط “الألغام” الكثيرة المزروعة في المشهد السياسي العراقي. وهذا ما أثبته نجاحه في إفشال محاولة إقالته من رئاسة مجلس النواب في ربيع عام 2016 على خلفية الاتهامات الخطيرة التي وجهها له وزير الدفاع المقال خالد العبيدي. الآن يحاول الجبوري من خلال الإعلان عن تأسيس ما دعي بـالتجمع المدني للإصلاح إبعاد “الصبغة الإسلامية” عنه على خلفية التدهور المريع في سمعة الإسلام السياسي في العراق جراء تفشي الفساد وانتشار شعار “باسم الدين باكونا الحرامية”.
ما بين المعسكرين الشيعي والسنى لا يزال إياد علاوي يحلم بتكرار النجاح الكبير الذي حققه في انتخابات 2010 عندما جاء في المرتبة الأولى بقائمته العراقية وتفوق على غريمه اللدود المالكي بمقعدين. لكن مياه كثيرة جرت منذ ذلك الحين. لم يفقد علاوي الكثير من بريقه بسبب تقدمه في السن وانحسار حضوره الإعلامي فحسب، وإنما أيضا خسر الكثير من “حلفائه” من أمثال أسامة النجيفي وطارق الهاشمي وصالح المطلك الذين تركوا حينها رئيس قائمتهم الانتخابية وحيدا وقبلوا بالمناصب المغرية التي عرضها عليهم المالكي. حاليا يحاول نائب رئيس الجمهورية علاوي الذي عاد إلى هذا المنصب رغم تصريحه بأنه لا يساوي “حذاءه”، استعادة الأضواء قبل الانتخابات المقبلة من خلال القيام بزيارات رسمية لدول المنطقة والظهور في مقابلات تلفزيونية والإدلاء بتصريحات وبيانات. علاوي هو الآخر لم يحسم حتى الآن أمر تحالفاته رغم أنه حريص على إرسال رسائل إيجابية تجاه التيار الصدري. بيد أن مثل هذا التحالف مع طرف شيعي وممثل رئيسي للإسلام السياسي العراقي سوف يلقي بظلال من الشك على شعار الليبرالية والعلمانية الذي يحرص علاوي على رفع لوائه في العراق وعلى مصداقية موقفه المعلن المناهض للمحاصصة والطائفية السياسية.
في المقابل لا تزال الساحة الكردية منشغلة بالجدل حول الاستفتاء على الانفصال وردود الفعل المحلية والإقليمية والدولية عليه. ومهما كانت الدوافع وراء الإعلان عن الاستفتاء، يجب القول بأنه كان خطوة تكتيكية بارعة من رئيس الإقليم مسعود البرزاني الذي لم ينجح في دغدغة العواطف القومية للشعب الكردي فحسب وإنما أيضا في وضع القوى المعارضة والمنافسة له، وخاصة الاتحاد الوطني الكردستاني في موقف محرج. فأي رفض للاستفتاء سيؤثر على شعبيتها، والقبول به سيعني التسليم ضمنيا بزعامة البرزاني “التاريخية” الذي يعتبر السياسي العراقي البارز الوحيد في مرحلة ما عبد 2003 الذي نجح في الاحتفاظ بمنصبه دون إثارة ضجة كبيرة. غير أن طموحات رئيس الإقليم الذي لا يريد لولايته أن تنتهي، يمكن أن تتعرض لانتكاسة خطيرة في ظل تصاعد الرفض العراقي والإقليمي والدولي ضد الاستفتاء. وبغض النظر عن إجراء الاستفتاء في موعده أو تأجيله أو إلغائه فإن المشهد السياسي الكردستاني سيجد نفسه إزاء وضع جديد بعد الخامس والعشرين من سبتمبر، الموعد المقرر للاستفتاء. حينها ستكون كردستان العراق على موعد مع مرحلة جديدة من التنافس بين أطراف التحالف الكردستاني.
بدورها تنظر الكتل الصغيرة والتيارات الهامشية بقلق شديد إلى الانتخابات المقبلة بسبب المخاوف من فشلها في دخول البرلمان. ونظرا لأنها لا تتوقع تحقيق نتائج جيدة في الانتخابات في ظل الاستقطاب المذهبي والقومي السائد، تعول هذه القوى كثيرا على اعتماد قاسم انتخابي بموجب صيغة سانت ليغو المعدلة يراعي مصالحها في توزيع المقاعد ويضمن عدم ذهاب أصوات ناخبيها سدى. فعلى الرغم من تنوعها وتباين برامجها وأسسها الفكرية والأيديولوجية، تتفق الكتل الصغيرة على رفض رفع القاسم الانتخابي إلى 1,7 وترى فيه محاولة من الكتل الكبيرة لإقصائها من المشاركة في الحياة السياسية والاستئثار بالسلطة. ضمن هذه القوى يقف الحزب الشيوعي العراقي، الذي يعتبر من بين أقدم الأحزاب الناشطة في العراق، أمام مراجعة جدية لتجربة التيار المدني الديمقراطي الذي أخفق تماما في طرح البديل أمام الناخب العراقي. ولم يقتصر هذا الفشل على النتائج الهزيلة للتيار في الانتخابات السابقة في عام 2014 عندما فاز بثلاثة مقاعد فقط. أيضا أداء هؤلاء النواب الثلاثة جاء دون التوقعات ولم يتصرفوا رغم قلة عددهم كـ”كتلة” متجانسة. في ظل هذا الوضع يجد الحزب الشيوعي صعوبة كبيرة في إيجاد الحليف المناسب. فالتحالف مع أحزاب أضعف لن يجدي كثيرا كما أثبتت تجربة التيار المدني الديمقراطي. ومن جهة أخرى ينطوي الدخول في تحالف مع تيارات أقوى على خطر الابتلاع والتهميش. ومن هنا يمكن فهم حالة التردد عند مناقشة بعض الخيارات المطروحة ومنها إمكانية التعاون مع مقتدى الصدر أو إياد علاوى أو حتى العبادي.
إن حالة الغموض التي تكتنف الاصطفافات الجارية في المشهد السياسي العراقي تجعل من توقع نتائج الانتخابات المزمع إجراؤها في نيسان/أبريل 2018 أمرا يشبه التنجيم. من المؤكد أن البرلمان القادم سيضم وجوها جديدة كثيرة كما حصل في عام 2014. غير أن ذلك لن يعني حدوث تغييرات جوهرية في التوازن القائم بين ما يدعى بالمكونات الأساسية للمجتمع العراقي. فالمعادلة القائمة بين “حصة” الشيعة والسنة والكرد في مقاعد البرلمان لن تتأثر كثيرا بالمنافسة المحتدمة. كما أن فرص فوز الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسنى تبقى هي الأرجح. وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى أن الانتماء المذهبي والإثني لا يزال المعيار المؤثر الأهم على سلوك الناخب. من جانب آخر تواصل الكتل والأحزاب تسخير إمكانيات الدولة الريعية ليس فقط لمكافأة الموالين والمقربين والأتباع وإنما أيضا لتوسيع نفوذها السياسي. من هنا يمكن مثلا فهم العجالة في إصدار القرار غير المدروس بمنح امتيازات مالية سخية لمحتجزي مخيم رفحاء.
في الوقت الذي سيبقى فيه توازن القوى المذهبي والإثني على حاله تقريبا، يرجح أن تحدث تغييرات واسعة داخل التحالفات الرئيسية الثلاثة، التحالف الوطني وتحالف القوى العراقية والتحالف الكردستاني. ويتوقع أن تطال أهم التغييرات ائتلاف دولة القانون نتيجة المنافسة الصريحة والمستترة بين العبادي والمالكي. وإذا كانت هذه التحالفات الرئيسية القائمة هشة من أصلها، فإن التغييرات المحتملة في انتخابات 2018 ستؤدي لا محالة إلى إعادة خلط الأوراق وبدء عملية فرز جديدة.
انطلاقا مما تقدم يمكن الاستنتاج بأن حالة التشظي والتشرذم مرشحة للاستمرار في المشهد السياسي العراقي بعد نيسان/أبريل 2018. ومن المؤكد أن غياب عتبة انتخابية يساهم في تأبيد حالة التشظي المتمثلة في وجود عدد كبير من الكتل داخل البرلمان حيث يكافح الجميع من أجل الحصول على قطعة من “الكعكة” في الحكومة الجديدة وبما يجعل الاستقرار السياسي هدفا بعيد المنال. والنتيجة ستكون نسخة مكررة من نظام المحاصصة رغم أن الجميع يذمونها علنا ويتبرأون من مساوئها.
مهما كانت الانتقادات والتوقعات المرتبطة بانتخابات عام 2018، سيبقى النجاح في إجراء رابع اقتراع عام منذ سقوط النظام الديكتاتوري في عام 2003 خطوة هامة على طريق تطوير الحياة الديمقراطية في بلد لم يعرف الهدوء منذ ستة عقود.