الرئيسية / ثقافة وادب / لمَ جاء … لمَ رحل ؟

لمَ جاء … لمَ رحل ؟

السيمر / الجمعة 22 . 09 . 2017

سردار محمد سعيد *

غادر زورق القمر مثقلاً بالآهات ,
فرغت جراره من النوروما عاد يسكب فضته
صمت همس العشاق
لملم الفضاء ما تساقط من قُبل .
نام الباعة وخرس صريرعجلات عرباتهم اليدوية الدفع .
سُلبت قواهم وبُح صوتهم :
” شلغم شلغم مايع . يلبلبي يلبلوب بعانة ترس الجيوب .خس خس أبو الطوبة يا خس “.
ولم يبق غير تقيق الضفادع ,
خرير السواقي ,
ومخمور يترنح , يغني بصوت هادىء شجي ,وبيده زجاجة تكاد تفرغ .
كان الوقت ليلاً ونام الناس أغلبهم,
إلا المغرمون الشعراء,
و الجنيّات يطفن على البيوت في غفلة من ساكنيها ,ينفذن من زجاج الشبابيك ومن ثقوب المفاتيح أو من تحت الأبواب ,ويبزغن من زئبق مرايا الفاتنات ومن مكاحلهن ويرقدن على الوسائد بين حبيب وحبيبته يُلاحظنَ ولا يُلاحَظن , وينتشرن كدخان بلا رائحة لئلا يُدرَكن .
هذه جنيّة تلتقط مالا يرى من الهواء ,أنفاس تناترت من اندماج عشيقين , همسات خافتة لمناجاه محب يلتقي محبوبته لأول مرة .
وهذه جنيّة ترقب نسوة يغطين من وضعت وليدها البكر ورحن يغردّن فقد اندلق الطفل صارخاً يحتج على فقدانه الأمن والدفء قبل آوانه.
يا لليلة غامضة , إسود فيها وجه الفضاء وخفقت أجنحة الريح فزمجر الهواء واندفعت كرات من نقع تتبعها كرات تندمج فيها وتكبر فتصدعت سقوف وانهدمت بيوت الطين وقذفت الصرائف وتشتت سعف النخيل في الفضاء, سَعل البحر فانفلت الماء غامراً الأرض ,فطفا الزرع والشجر وتفرق شمل البيادر ..
إتخذت ُمن ركبتها ملاذاً ورحت ُأقبّل ساقاً مرمريّة كأنها نحتت نحتاً .
شفاهي ساخنة ولساني جمر .
صرخت من الحرارة , كانت شفتيّ لا تفارق ساقها حتى أبلغ قدمها.وأعود صاعداً. جاء أهلها بهلع ,وراحت الجدّة تتلو أذكاراً وتدلك موضع الألم , فسكن وتوقف الصراخ .
جاء الليل بعد نهار قضيته أفكر كيف أصرح لها بحبي دون أن أشعرها بخيبة الأمل التي سببها مطلقها إذ تركها وهي نفساء ,
أختي الجنيّة العانس ستعينني , وتعرف ما أعانيه .
ستزورها الليلة .
– بالله عليك لا تؤذيها , ولا تخيفيها , واهربي عندما تشعر بالخوف , ليس سهلاً عليها وهي نفساء تركها الرجل الذي أهدته إبناً , ولم يردعه ضمير .
إضطجعت وعينيها تحملق في المروحة السقفية
الفصل شتاء , لادوران ولا أزيز , لكن شيئاً يلتف ويدور ,بدأ ببطء وتسارع .
دخان يتكور ويتشتت ثم يتجمع ويهبط إلى الأرض.
محال أن يصدقها أحد , فكتمت صراخها ,امرأه بلا ملامح واضحة ,
– من أنت ؟ ماذا تريدين مني ؟
– أريدعوضاً عن عزيز أدخلتيه في عالمك .
– أنا!!!!!!!!!؟
– نعم أنت .وتعويضي هو الوليد هذا .
– إنه ابني ,
وانفلتت منها صرخة حادة , فاستحالت المرأة من جديد دخاناً وسرعان ما التفّ
دائراً وتصاعد وتشتت مختفياً.
– العرّافة العجوز,الخبيرة الملهَمة ,لابد منها ,نادوها فنعرف ما الذي حلّ بإبنتي , حبّة قلبي وبؤبؤ عيني ,وسنعطيها أضعاف ما تحصل عليه .
– إستلق على ظهرك يا ابنتي الجميلة ,
إكشفي ساقك , لا تخجلي , بلقيس كشفت عن ساقها قدّام سليمان وحاشيته , والآن أنا وأنت لوحدنا , حتى طليقك الذي حكت لي أمك قصتكما رحل إلى غير رجعة ورقد في أحضان أخرى .
ساقك جميلة يا ابنتي ,محقة أنت في سترها,
ساق رخاميّ أضاعها زوجك الأبله.
رمقتني
دارت حولي , تمتمت بعض العبارات غير المفهومة ,
امتقع وجهها ,بثقة قالت : لا مرض فيك , جنّي داهمك واتخذ من فخذك سكناً .
راح الدمع يفيض من مقل أمي:
– ما دواءها ؟ سأجلبه مهما كان ثمنه؟
– أتركي الأمر لي , سيهرب صاغراً بإذنه تعالى .
رسمت العرّافة دائرة على الأرض .
أجلسي داخلها ليلاً وبأحضانك الوليد , ولا تخافي ولا تخشي من أي كائن يقترب منك فإنه غير بالغك , فأنت محاطة بجدار أقسى من الحديد لكنه أشف من الزجاج .
بعد منتصف الليل بدأت المشاهد المزعجة تتوالى
مجموعة رجال أشكالهم غريبة ومخيفة , واحد منهم يمتطي كلباً ,
آخر يمتطي غراباً أجرباً ,
آخر يمتطي جرذاً ضخماً ,
آخر يمتطي خفّاشاً يسيل الدم من فمه ,
يمتشقون سيوفاً ذربة معقوفة .
تقدّموا حتى بلغوا حدود الدائرة التي خطّتها العرّافة ,
صاح الوليد : كغو , كغو , كغو ,
فسالت السيوف كأنها معدن صُهر بجمر,
ولّوا هاربين ,.
بعد أقل من إغماضة جفن
أغصان تنمو وتتشابك نحوها ,
غصن بأشواك مدببة ناتئة ,
غصن يقطر منه سائل كريه الرائحة ,
غصن حواشيه كأسنان منشار,
غصن ببثور وثآليل ينبع منها سائل لزج.
صاح الطفل : كغو , كغو , كغو ,
فإذا بمارج نار يقتحمهم فاحترقوا .
هبت ريح زعزع وامطرت لكن القطر لم يبللها واندلق كخيوط على الزجاج الذي يحميها , فتفحمت الأغصان .
وقف كل شيء وسكن .
نزل الدخان يتلوى من السقف وهبط بسهولة إلى داخل البيت الزجاجي , فكتمت صرختها , وتحول الدخان إلى أنثى
– لا تخافي ,ما جئتك لآخذ الصبي , جئتك من أجل أخي الجنّي الذي يسكنك ,
يرتجيك أن تهبيه صورة ساقك المنحوتة
– ساقي ؟!
لا صورة ساقك وليس ساقك , سيراها المثّال الذي قبع في أنامل ” ميخائيل انجلو ” وأصابع ” رودان ” لينحت له واحدة , فيغادرك بسلام .
في ليلة أخرى قدمت الجنيّة وهي تحمل ساقاً رخاميّة ,نادت :
أخي ,أخي , هيّا اخرج لا بقاء لك في هذه الديار .
معي الساق التي عشقت صاحبتها ,أخرج , لنذهب إلى بلادنا , ناسنا , وأهلينا .
خرج منسلاً , احتضن الساق , اعتنقها , ورحل, غادر بهدوء وعينه تترقرق دمعاً.
صغر , صغُر, وذاب في الأفق .

نقيب العشاق بين ذرى قنديل وقمم هملايا .

* المحور الأساس لفكرة النص من عنديات الشاعرة ذكرى لعيبي .

اترك تعليقاً