السيمر / الثلاثاء 02 . 01 . 2018
د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
ممثلون تسعة للأسرى والمعتقلين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، محررون ومبعدون وعاملون، يمثلون فلسطين الوطن وشتاته، وعاشرهم أسيرٌ محررٌ مسكونٌ بهموم الأسرى ومهتمٌ بشؤونهم ومتابعٌ لأحوالهم، حبسه الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة، ومنعه من مشاركة الوفد حملته ورحلته رغم أنه يتوق لكل جهدٍ يبذله لأجلهم، فشكلوا بمجموعهم الحاضر والغائب الوحدة الفلسطينية، ونسجوا بجمعهم الوطني الفريد ثوب فلسطين القشيب، الموشى بقواه المناضلة وفصائله المقاومة، والمطرز بألوان علمهم الأربعة، ورسموا بوحدتهم صورةً لفلسطين جميلة ولشعبها رائعةً، ولمقاومتها ناصعة، ونظموا بكلماتهم أجمل قصائد الوحدة والاتفاق، وأبلغ معاني الألفة والحب وأصدق مشاعر المودة والإخاء.
شعبيةٌ وحماس، وديمقراطيةٌ وفتح، وعاملون ومستقلون، يتقدمهم وزيرٌ ليس كالوزراء، يحمل صفتهم وينتسب إلى ناديهم، ويُنادى في المحافل معالي الوزير أسوةً بهم والتزاماً ببروتوكولهم، لكنه كان إلى الأسرى ينتسب أكثر، وإلى المعتقلين ينتمي، وبهمومهم ينشغل، فأحسن قد قاد الركب، وأبدع إذ تحدث باسم الجميع، وأجاد إذ أتاح الفرصة لكل مستزيدٍ، غابت ذاته وحضر شعبه، وتلاشت حزبيته ليطغى وطنه، وعاد بنفسه ومفرداته إلى السجون ومن فيها، وإلى المعتقلات ومن يسكنها، فجادت قريحته بما يحب المعتقلون، وانسابت الكلمات على لسانه رقراقةً صافيةً بما يرضي الجميع، ويسعد من استمع إليه ومن أجل القدس والمعتقلين حضر.
والتحق بالركب سفيرٌ كان لإخوانه القادمين خادماً ولهم راعياً، أبى إلا أن تكون صفته أسيراً، وحضورُه مع الوفد محرراً، فقد رصع عمره بعشر سنواتٍ معتقلاً في سجون الاحتلال، وزين سيرة حياته بالأسر شهادة فخرٍ، وشد من أزره، ورفع من قدره، وأعلى مقامه أغلالٌ حول معصميه قد شدت، وأكياسٌ خشنة فوق راْسه قد وضعت، وصنوفٌ من العذاب عليه قد جُربت، وسجونٌ ومعتقلاتٌ سكنها، وزنازين عُزل فيها وأخرى ضيق عليه وإخوانه فيها.
واكبنا السفيرُ الأسيرُ طوال رحلتنا، وأصر على أن يكون معنا في جولتنا على الفعاليات المغربية، ليناله شرف الدفاع عن إخوانه الأسرى، وفضل التضامن معهم ومساندتهم في سجونهم وخلف القضبان في معتقلاتهم، فهم إخوانه الذين ما نسيهم، وأهله الذين يناضل من أجلهم، وشعبه الذي يفخر بخدمتهم ويعتز بالسهر على راحتهم، هب له المغاربة وقوفاً لأنه السفير الأسير، وهتفوا له مرحبين، وقاطعوا كلمته مراراً فرحين ومعجبين.
فرح أعضاء الوفد القادم لأول مرة إلى المغرب، وهاله ما رأى وأسعده ما سمع، وشعر معنا بالكثير من العزة والثقة والطمأنينة أننا نحن الفلسطينيين بخيرٍ، وأننا لسنا وحدنا، فمعنا شعوبٌ حيةٌ وأمةٌ نابضةٌ بالأمل، وأحزابٌ واعيةٌ وقوى حاضرةٌ وشخصياتٌ واعدةٌ، كلهم يهتفون لفلسطين ولها يعملون وفي سبيلها يضحون، فهم جميعاً سواء تجاه فلسطين يتنافسون لأجلها ويتسابقون في سبيلها.
لا فرق في المغرب في حبهم لفلسطين وعشقهم لها وتعلقهم بها بين استقلالٍ واشتراكي، وبين تقدمي ويساري، وبين توحيدٍ وإصلاح، وعدلٍ وإحسانٍ، وبين حركةٍ من أجل الأمة وبديلٍ حضاري، وحركةٍ شعبيةٍ واتحادٍ، وتجمعٍ للأحرار وطليعةٍ، ومؤتمرٍ وطنيٍ واشتراكيٍ موحدٍ، والحال نفسه يمتد إلى النقابات والاتحادات ومؤسسات المجتمع المدني ولجان حقوق الإنسان، وإلى المراصد والجمعيات والمنتديات، ففلسطين زادهم اليومي، والقدس قضيتهم والأسرى همهم، والتطبيع يقلقهم والاختراق يؤلمهم، وخذلان الشعب الفلسطيني والتقصير في نصرته يقض مضاجعهم ويؤخر ضمائرهم، فتدفعهم الغيرةُ والحميةُ والغضبُ لتجنيد كل الطاقات، وتحفيز الأمة وتعبئة طاقاتها للذود عن فلسطين وحمايتها.
في المغرب كانت كل الأسماء والصفات، واجتمعت كل الشخصيات والفعاليات، فكان عبد القادر والعربي، ورشيد وخالد وعبد الرحمن، وعزيز وأحمد ومصطفى، وعثمان وفتح الله ومنى، ومحمد وآية وسمية، أعلامٌ ساميةٌ وقممٌ عاليةٌ ينوبون عن المغرب كله، ويؤدون الحق عن أهله، رواداً كانوا ورسلاً عملوا، وخداماً اشتغلوا ومشاعلاً حملوا، رفعنا بهم رؤوسنا عاليةً، وتهنا بهم فخراً، وسعدنا معهم صحبةً، وحزنَّا لفراقهم إذ كانوا لنا أهلًا كراماً، أشعرونا بالدفء وأحاطونا بالرعاية، وشملونا بالمحبة، وأغدقوا علينا بأعز ما يملكون وأغلى ما يقتنون، إنهم كلُ المغرب وعناوين شعبه، وزينة أبنائه وسنا نوره، خيرُ حراسٍ للقدس، وأعظم مدافعين عن الحق، وأخلص جنودٍ لفلسطين وشعبها، وأكثرهم غيرةً على مقدساتها، بهم نعتز ونفخر، ولهم نشكر وجهدهم نقدر، فلن ننسى مسيراتهم، ولن نغض الطرف عن تضحياتهم، وسنحفظ بإذن الله فضلهم، وسنذكر فعلهم وجميل صنعهم، وسنسجل في سفر نضالنا صفحاتٍ خالدة من دعمهم.
في عاصمة المغرب الرباط تركنا أثراً وزرعنا فسيلة، أردناها شجرة زيتون مباركةٍ لتبقى، وغرساً باسم فلسطين يدوم، أطلقنا عليها اسم عهد التميمي، ورفعنا فوق أغصانها الغضة صورتها، وأمامها أقسمنا والمغاربة أن نكون للقدس جنوداً، ولأهلها حماةً، حتى تعود فلسطين حرة والقدس عاصمتها الأبدية.
أسبوعٌ حافلٌ باللقاءات وغنيٌ بالزيارات، شملنا فيه رئيس الحكومة برعايته الكريمة، وأصدر أوامره بتسهيل مهمتنا والإحسان إلينا والسخاء معنا، وقد تشرفنا بزيارته وتناول العشاء على مائدته، فكان كريماً في استضافته، وسخياً في وفادته، وبشوشاً في استقباله ووداعه، وودوداً في حديثه وأخوياً في حواره، وصادقاً في عاطفته وإحساسه، وإنه إذ ذاك فقد ناب عن ملك البلاد، ومثَّلَ الشعب المغربي كله، وعبر عنهم وتحدث باسمهم، واستلم نيابةً عنهم بعض تراب القدس والمسجد الأقصى، ليكون أمانةً يحفظونها، وعهداً يتواصون به، رفعه بين يديه، وقبله مراراً وضمه إلى صدره، وجعله قريباً من قلبه.
هنيئاً لفلسطين بالمغاربة فهم بعضُ أهلنا، وجزءٌ من أمتنا، تنبضُ قلوبهم بقضيتنا وتسكنهم فلسطين أملاً ووعداً، وهم عنها لا يتخلون ولها لا يتركون، وقد كانوا يوماً لها جنوداً وفي القدس خلدوا اسمهم وحفروا على هام الزمان ذكرهم، إذ شقوا لهم فيها طريقاً وسموا باسم بلادهم للأقصى بوابةً، يعبر منها المصلون ويرابط فيها المقدسيون، ويتطلع إلى استعادتها المقاومون.
غادر الوفد الفلسطيني المغرب حزيناً، إذ وجد فيه ومع أهله دفئاً وحباً عزَّ عليه أن يفقده بالرحيل، ويخسره بالمغادرة، ولكنه علم أنه جاء لمهمةٍ وحضر لهدفٍ وغايةٍ وقد أداها على خير وجهٍ، وأحسن عرضها بلسانٍ واحدٍ ومتحدثٍ من بينهم، أجمعوا عليه رائداً لهم ومتحدثاً باسمهم، لتكون هذه هي المرة الأولى التي يلتئم فيها جمع الفلسطينيين على اختلاف توجهاتهم السياسية ومصالحهم الحزبية تحت رايةٍ واحدةٍ وفي وفدٍ مشتركٍ، منسجمين ومتعاونين ومتفاهمين ومتحابين، تجمعهم ذكرياتُ السجون وقصص المعتقلات، وتوحدهم المعاناة والتضحيات، وتجمع صفهم الخطوب والتحديات، وتحافظ القدس الموحدة عليهم فريقاً واحداً محترماً، ووفداً مشتركاً مقدراً، إنها بركات المغرب وأهله وبشائره وأمله.
الدار البيضاء في 2/1/2018