السيمر / السبت 31 . 03 . 2018
رواء الجصاني
منذ فترة ليست قصيرة، وأفكر في تناول بعض وقائع ولمحات عن مهام ودور المثقفين العراقيين، والسياسيين منهم بشكل رئيس، في الحال العراقية اليوم، بما فيها وعليها من تعقيدات واختلاف في الرؤى والمواقف وما الى ذلك .. وقد جرى بالامس ما يشجع على كتابة ذلك الموضوع المؤجل، خاصة وان الحدث أوجز لي وساعدني في تلخيص ما كان في الذهن من ملاحظات ووقفات مرتجاة …
والحدث المعني ليس سوى نموذج معبر، برغم محدودية الحضور والموقع، اذ جرى في قاعة صغيرة باحدى مقاهي براغ، مساحتها عشرة امتار مربعة لاغير، والحضور اثنا عشر شخصا، ولا غير ايضا، حيث نظمت ما سميت بـ “ندوة” ثقافية، صال وجال فيها الضيف المتحدث، وكأنه امام جماهير ساحة التحرير في بغداد، التي لم يزرها منذ اثنين واربعين عاما بالتمام والكمال، والى اليوم..
ومما لفت الانتباه، وأوجزَ لما نحن بصدده من وقفات ولمحات عن دور ومهام المثقفين – واكرر السياسيين بوجه خاص – ان الهدف من مداخلة السيد “المحاضر” الذي تلى سبعة وثلاثين صفحة مكتوبة، وعلى مدى ساعة ونصف تقريبا، كان الهدف كله منها اشاعة المزيد من الاحقاد والفتن، والطائفية والمناطقية، في العراق المبتلى بالارهاب ..
لقد تحدث السيد المعني، بأبوية، وكأنه مرجعية وطنية لا يختلف عليها اثنان، ولا احد يدري من منحه لها. واضافة للاسهاب التعليمي، الابتدائي، توقف حديثه المقروء عند خلاصات ومؤشرات افضل ايجاز لها هو رغبته في القول بأن نظام صدام حسين الفاشي، هو أفضل من الحال العراقية اليوم..ولكنه لم يجرؤ على ذلك، وألا لكان قد اراح واستراح من كل ما صدع به الحاضرين من لف ودوران، واتهامات شملت جميع الشعب العراقي- تقريبا- او غالبيته العظمى بوصف ادق .
فمرة وصف – المتحدث- صحيفة حزب عريق بمزاعم انها تدعو للطائفية لانها نشرت اعلانات من محاكم في بغداد، حول طلبات تغيير اسماء !!!. ومرة استعاد فتوى لمرجع ديني قبل ازيد من نصف قرن، ولها ظروفها وزمانها ومكانها وملابساتها، ولكنه اراد من اعادة الحديث عنها اشاعة الاحتراب، برغم ان المتضررين بشدة من تلك الفتوى نسوها، أو تناسوها للمصلحة العليا- مصلحة البلاد والشعب. كما انه اغفل، وبدوافع وقناعات طائفية واضحة، فتاوى عديدة اخرى من مراجع دينية مقابلة، وركز على تلكم الفتوى النجفية المعنية، وحدها وحسب .
ولتأزيم الامور، واثارة الفتنة، اختصر ” المثقف” كل ماجرى، بعد سقوط نظام صدام حسين الدكتاتوري عام 2013 بان العراق وقع تحت حكم “المليشيات” ! ومعروف هنا من هو المقصود !.. وراح الحديث عاما، لكي تختلط الوقائع، وتستعر النفوس بالاحقاد، ودون ان تتطرق “المحاضرة الثقافية” وبالمطلق، لا من قريب ولا من بعيد عن تنظيم “داعش” وعصاباته الارهابية..
وفي عودة للموقف الطائفي الذي يفترض ان يكون بعيدا بالفعل، لا بالادعاء، أعاب السيد المتحدث في محاضرته “الثقافية” على احد السياسيين في حزب عريق قوله ان مأثرة الامام الحسين قد قادته الى طريق الانحياز للشعب والايثار، وكأن في ذلك نقصا أو شتيمة. ولا نزيد في توضيح اكثر هنا في ما تعنيه مزاعم المتحدث “المثقف” من مساس بمورثات وتقاليد وقيم عليا لدى غالبية عظمى من ابناء العراق .
ان التعويل كان وما زال على المثقفين الانسانيين حقا، في اشاعة مفاهيم التسامح والمحبة، والتنوير، لا اجترار الماضي، والكيل بعدة مكاييل، والتلاعب بالتعابير.. والاّ فسيكون لنا الحق بالقول (أن للارهاب مثقفيه ايضا) “1” وان تزيّوا ببدلات الحملان. ومن هنا فكم هو مطلوب بالمقابل من المثقفين الانسانيين حقا، تسخير ما يمتلكون من كفاءات لتوجهات الخير واطفاء بؤر الاحتراب، ونشر المودة ومفاهيم وقيم المواطنة.
ولأن الشئ بالشئ يذكر- كما هي المقولة المعروفة – لابدّ من اضافة معلومات بأن صاحبنا المعني – وفق عارفين- انه غير متابع لما جرى ويجري من احداث في البلاد، ومنذ عقود، سوى عن طريق فضائية شهيرة بطائفيتها، وتحريضها ضد العراق، منذ خمسة عشر عاما، والى الان”2″ .. كما انه، اي “المثقف” المقصود، مقطوع عن العالم اذ لا يتقرب، ولا يعرف ماهي وسائل الاتصال الحديثة (انترنيت – ايميلات – فيسبوك…) ولا احد يدري كيف يستطيع مواكبة الحاضر، بموضوعية، وهو على تلكم الحال، دون مصادر او علاقات انسانية او شخصية ..
ولربما قائل سيقول منوها الى ان الرجل بلغ من العمر عتيّا، ولكن هناك من يردّ او يعلق ايضاً بأن في تقدم العمر بعض حال ايجابية، اذ يفترض ان تتراكم عند المعني، التجاريب والخبرات والمعارف، وليس العكس.. كما ان المرء في ذلك العمر ينبغي ان يكون اكثر ميّلا لأطفاء الضغائن والاحقاد، لا لأشاعتها وبذر الفرقة والشقاق، وكيل الشتائم والاسفاف .
ان التفاخر بما كان من “نضال” هنا وآخر هناك، امر طبيعي، غير ان المبالغة فيه وتكراره بمناسبة وغيرها، مثل حال صاحبنا “المثقف” قد يدفع بالاخرين لكشف الحقائق، والاعلان – مثلاً- بأن من بين ابرز ذلك النضال “المتراكم” عنده، كان توقيفه في زمن الجمهورية الاولى لفترة قصيرة وحسب. وقد حصل الرجل على تعويضات غير قليلة، ومنها خمسة عشر عاما من العيش الانيق، والمترف في ربوع براغ (جنة الخلد) ومنتجعات البلدان الاشتراكية السابقة، طوال الفترة (1976-1990) . واذا كانت كل تلكم المجازاة غير كافية، فماذا سيقول الذين ناضلوا في كردستان والاهوار والوسط والجنوب، وتعرضوا ما تعرضوا اليه من سجن وعسف وتنكيل بهم وعوائلهم، دعوا عنكم الشهداء البواسل، الذين ضحوا للوطن والشعب والانسانية ..
ان الكتابة هذه قد تبدو للوهلة الاولى موقفاً او مواقف شخصية، وما ذلك في بالنا اصلاً، فلسنا في زمن الجاهلية الاولى، ولكننا نكتب عن الامر من منطلق عام، وكما بدأنا به في السطور الاولى، عن نموذج من مثقف يُـراد منه، وموكول اليه، موضوعياً، ان يسهم في الحرص على العراق، واهله.. وألا فليس هناك من جامع بين مثقف وأديب من جهة، وغـلٍ ولؤمِ، من جهة اخرى، لأن الضديّن لا يجتمعان..
لقد شبع الناس في العراق، بل وأتخموا بالشعارات والمقولات، وهم يريدون خبزا وأمناً وحرية، لا تعابير موشاة بالادعاءات والمفاخر، ليس هناك من يوثق لها. وما كان يصلح ذات عقـد، لا يصلح الان في عالم المتغيرات اللحضوية… وهنا ترتب، ويترتب على المثقفين – كما نفهم وندعي- مسؤولية اولى على طريق التنوير والدعوة للتآلف والمحبة، والتركيز على المشتركات والترويج لها، وليس اشعال الحرائق، او الدعوة اليها تحت هذا الشعار او الادعاء او غيره، هنا وهناك، تحت هذه التسمية او تلك .
ان ماجرى تداوله في ندوة براغ يوم امس، والتي اثارت كل الموجعات اعلاه، يزيد – بزعمنا – من نظرة اهل البلاد، لمواطنيهم في الخارج، الذين “يناضلون” مكللين بالاستقرار الصحي والبيئي والاجتماعي والمالي .. كما سيدفع ذلك اهل البلاد لمزيد من التساءل والمقارنة، بين عطاءاتهم ومعاناتهم وكفاحهم، العملي داخل الوطن، مع عراقيي الخارج، ممن لم يأثروا فضيلة الصمت على الاقل، لا أن يصبوا الزيت على النار كلما سنحت لهم الفرصة ..
اخيرا، لا يجوز لنا ان نختتم الموضوع دون ان نعاتب منظمي تلك الفعالية، التي سعت لاشاعة المزيد من الكراهية بين الاخوة، ونرى بأن المطلوب الانتباه لاولئك الذين يريدون ان يزيدوا النار لهيبا، حتى وان تقمصوا الحرص، وطالبوا بحرية الحوار، فما احلى واهم الحوار الجاد والموضوعي، والهادف للبناء وتحديد النواقص والاخطاء، وبروحية الحريص، لا المتربص والمدعي، ولا نزيد اكثر ..
حقاَ، قد ردّ غالبية المتحدثين خلال الفعالية على ما جاءت به “المحاضرة” تلميحاً وتصريحاً، وعن خروجها عن عنوانها التي أستدرج اليه الحاضرون- على قلتهم – ومعيبين عليها اسلوبيتها وبدائيتها، وما حملته من تأليب وأثارة للنعرات الطائفية، ولكن مع كل ذلك يبقى العتاب على المنظمين قائماً، لان “المحاضرة” كانت تحت خيمتهم، وتلك الخيمة – كما يُفترض- هي خيمة للجميع، وليس للنيل من بعض للبعض، فما احوجنا للحوارات الهادفة، الانسانية، بعيدا عن إذكاء الفتن والنعرات، فبلادنا وشعبنا لا يتحملان أكثر مما جرى من احتراب وارهاب وغلو، والجميع ينتظر ويتمنى، وبخاصة من المثقفين الانسانيين المزيد من الترويج للمسالمة – وليس للاستسلام !- وللتضامن الوطني، والتداول المخلص للسير نحو عراق آمن خالٍ من الطائفية والتخلف والتشدد، وعلى طريق الازدهار والدولة المدنية ..
وأخيرا ما ابلغ الحكمة في بيت شعر للجواهري الخالد، ولعلها تكفي خلاصة لكل ما اردنا التعبير عنه في السطور والفقرات السالفات والذي يقول :
وان صدقتُ فما في الناسِ مرتكباً، مثل الأديبِ أعان الجورَ، فارتكبا”3″
هوامش واحالات ———————————————-
1/ لدينا مادة تحت العنوان ذاته، نشرت في وسائل الاعلام المختلفة قبل سنوات، عن بعض حالات مشابهة لما نكتب عنه اليوم..
2/ جاءت كل اقتباسات واستشهادات “المثقف” المعني، في “محاضرته” الاخيرة، وماسبقها من مداخلات، في فترات مختلفة، من تقارير واخبار تلك القناة الفضائية، ودون اي تمحيص او تدقيق لما تبثه حول العراق …
3/ من قصيدة الجواهري الشهيرة ( أبو العلاء المعري) عام 1944 ومطلعها:
قف بالمعرةِ وأمسح خدها التربا، وأستوحِ من طوقَ الدنيا بما وهبا