السيمر / الخميس 14 . 06 . 2018
د. رحيم الغرباوي
لعل هاجس الاغتراب في ذات الشعراء يشكل لديهم معاناة حقيقية تتمفصل أذرعها في روح قصائدهم لاسيما حين تعبِّر عن مأساة شعب بكامله , وهو يرزح تحت نير الاضطهاد سواء أكان الجسدي , أو الفكري , أو الإنساني , فالشاعر هو ذلك الوتر الحساس الذي يشعر ليس كما يشعر به الآخرون , إنه حال الواقع وواقع الحال في دنيا آثرت التصدي لغلوائها ولو بشراك قصيدة .
والشعر عالم يولد من تجليات الروح , وهي تسمق في حقول حصادها للكلمة والصورة في ومضة الحس المستيقظ على أوتار الواقع لاسيما الواقع المرتهن بالأباطيل , وشعور المرء حقيقته الدفينة التي لاتقبل التزييف , أو التحريف , هكذا هو الشاعر , دواخله تمثل خلاصة المنطق والحقائق , وكما يرى الفيلسوف الألماني هوسرل : أن الحقائق ماكثة في شعور كل فرد منَّا , لكن الشاعر هو من يترجم حقيقتها بكلمات تكاد يجمع المجتمع عليها ؛ كونها تمثل الحقيقة التي يثير جدواها فيه . هي نقطة عليا يتلاقى فيها الكون الداخلي الذاتي , والكون الخارجي الموضوعي فالشاعر ليس مجرد شيء , أو مجرد تاريخ بل يكمن في ذاته ما يتجاوز ذاته , وأنَّ هويته كامنة في شعوره الذي ينتمي لعالم الغيب حينما يحاوره بحدوسه ورؤاه , الشاعر ليس فقط وليد التاريخ لكنه بما هو يتعالق مع غيب , فهو يتجاوز التاريخ . يقول أدونيس ” هذا الغيب هو في الوقت نفسه حضور مطلق : فهو ظاهر , مرئي في تجليات ليست إلا شرارات تشير إليه . ذلك أنَّ هذا الغيب يختلف عمَّا نسميه المجهول . المجهول قابل للمعرفة في ذاته , لكن هذا الغيب لا تستنفده المعرفة , أو لا تحيط به كلياً , كل ما نعرفه منه صور , أما هو في ذاته , فيظل غيباً ” (1) , وكيف وشاعرنا علاء الحلي الذي يشعر كما يشعر أبناء جلدته بالغبن وشيوع الظلم , و بالتيه والضياع , إذن لا بد أن يسترفد لقواه الجمعية طاقةً من عالم الغيب ؛ ليثور بصوته على ما ينتاب وطنه , فهو يمثل جزء حياً من أهله , وحينما يرى آفات المدنس تعيث بمفاصله التي نخرت منه قوادمه , لابد أن ينطق كاشفاً معاناته ومعاناة الجموع إزاء الوطن المستباح , فضلا عن أنَّ الشاعر المُجيد حين يكتب نصاً لابد أن يراعي فيه القيمة الجمالية إذ ” إنَّ القيمة الجمالية للأثر الفني تتأكد بفعل تأثير الفكرة ومضمونها التي ترتقي إلى إمتاع المتلقي بوصفها شرط من شروط المعرفة , بأن تمنح إحساسه مقومات الانتقال من الذاتية إلى الموضوعية وإلى حد كبير من إمكانية التجاوب مع تجربة الفنان الذاتية ؛ لأنَّ ما نبحث عنه في النتاج الفني ليس اختلاجات الفنان بل ما يثيره من أفكار تشكل نسقاً معرفياً يتحقق بمعادلات تشكيلية تحوز بموجبه على وجودها الواقعي والحسي ” (2) , لذا فشاعرنا من خلال ما يراه من استباحة الوطن من قِبل أراذل القوم , كان لاختلاجاته تجاهه أن يعلن ما ينتاب وطنه من شرور يقدمها للمتلقي بفنية تكشف له عمق المعاناة , وهول وفداحة الوقع وتفشي آفات الفساد والرذيلة التي باتت تنهش بجسد وطنه , فلابد منه أن يستنهض الجموع في التحرك لتغيير الواقع المأزوم , وما هي إلا دعوات ناطقة بفكر متحرر نتجته وطنية شاعرنا وحرصه على أن يقول كلمته :
في وطني
يتجمَّعُ ما تساقطَ
من ذاكرةِ الشُذَّاذِ
والعاهراتُ:
يتقاسمنَ خُبزَ الفقراءِ
في زحامِ الربيعِ اللذيذ
وما انتظرنَ أحداً
ورائحةُ الموتِ في ثناياكِ
تعصرُ الروحِ كُلُّما غفتْ
في متاهةِ الحُزنِ الثقيل
فهو يظهر حقيقة أن ما يجمع الذباب على سيل الدنايا التي هي ليست من مطلب المؤمنين بقضية الوطن , فالشذاذ والعاهرات هم من يجتمع على أديم انتكاسته , لكن الشاعر يومئ إلى حقيقة هي أبعد من ذلك , فوطنه الذي اغتالته قوى الهمجية فسحتْ المجال لكل من سوَّلت له نفسه أن يملأ رغائبه منه , وهو يحتضر , فهؤلاء لاعقيدة لهم ولا مبدأ , إذ لا مكان للشرفاء المتعففين بينهم , فقد تقاسموا خبز الفقراء من دون روية . ثم يلتفت الشاعر إلى الوطن مشيراً إليه , وهو يعط برائحة الموت من جنباته , بينما تعتصر أرواح أبنائه الذين هم ضحية الطامع المستبد الذي لم يخلّف إلا ذبابه المحموم من تبع وذيول ؛ ليلعقوا ما أبقاه من فضلاته بعدما نهبه متفرداً بغناه .
ويبدو أن التوتر النفسي إزاء استراتيجية الإنسان الكبرى , حين يشعر بضياع حضارته وتراثها , التي أقيمت على أوتاد كرامته وإنسانيته ؛ لذا فالحلِّي آثر إلا أن يصرخ بوجه من تسبب ومن غوى ؛ لذلك نراه يجلجل بكلماته الحرى ؛ لأجل الخلاص , فهو يشعرنا بالانتماء إلى حضارات أنشئت على ضفاف الرافدين , لكنها اليوم باتت منتهكة مسلوبة خائرة القوى , يعيث بمقدراتها شذاذ ومارقون وغلمان ومفسدون , فنراه يقول :
أيُها الوطنُ:
قدرٌ خبيثٌ أنْ نترككَ للمكانِ
للمارقينَ
للخائنينَ
وللعابثينَ بعوراتِ أمهاتِهم
وللماكثينَ في دهاليزِ اللواطِ بمحضِّ إراداتِهم
وللقوادين …
فمخاطبة الوطن هي شعور بمسؤولية المواطن أن يذود عنه ولا يتركه لزمر الأوغاد , ويبدو أنَّ الشاعر في القصيدة يعمد إلى أن يجعلها رسالة لجميع الجماهير من أن القدر لا يفرض ترك الوطن لأفاعيل المدنسين الذين ما ارعووا إلا أن يعيثوا بقدسيته . لكن الحلي على الرغم من هول المأساة يجد أملاً في الأفق لإنقاذه وإسعاف ما تبقى من وطنه , فنراه يقول :
ولكن أيُها الوطنُ
ما بينَ الممكنِ والحُلمِ سنقدسكَ
ونصلي بينَ عينيكَ ركعتينِ
ونصومُ لفراتكَ دهراً
وحولَ دجلةَ نطوفُ طوافَ
التائبينَ
والغُرباءُ يا وطني
سيتركونَ أحزانَ الموانئ
ووجعَ المطاراتِ
ويغادرونَ كُلَّ محطاتٍ للقطار
وستضحكُ اللوحاتُ المُعلَّقة على كُلِّ الجُدرِ
ولعله يرى الوطن هو ذلك المقدس, فهو من يُصلى بين عينيه ركعتين, كناية عن الجهاد في سبيله ، بينما يشير إلى الصيام , وهو فرض آخر فرضته السماء على العباد , ولما كان الفرات الذي طاف حول أجساد مقدسة اتسمت بالتضحية والفداء , ومنها القرابين التي كان يقدمها العراقيون في الحضارات القديمة ؛ لأجل الخصب والنماء , كما أنه يومئ إلى واقعة الطف التي حُبسَ عن أبطالها الماء فاستشهدوا في سبيل العقيدة صائمين لم ترطِّب أفواههم مياه الفرات , أما دجلتها فجعلها مكاناً للحجيج ؛ كونها تمر على بغداد التي تمثل قبلة العالم في كثير من عصورها حيث الثقافة والإبداع , ووجهته حين كانت حاضرة علمية وثقافية , كما كانت وماتزال ملاذا آمناً للتائبين والناكثين العهود من أبنائها الذين ارتدُّوا عليها . أما الغرباء من المحتلين وأذنابهم , فهم لامحالة سيتركون كل الأماكن التي صارت حِلِّهم وترحالهم , ومنها : الموانئ والمطارات ومحطات القطار التي تتوجع من خُطا أدناسهم . بينما اللوحات التي كانت تزين جدران الوطن ومنها: نُّصب الحرية ولوحات الفنانين وصور الأحرار وكل ما خطط له الأبناء, وما شرع له في البناء والإعمار والتقدم لابدَّ أنْ تُعلَّق وتنفَّذ من جديد ضاحكة مستبشرة بمستقبل تخطّه أيادي الرجال الذين سيجتثون كل أفاكٍ أثيم . وكأنَّ الشاعر يرى في ظهر الغيب بنبوءته الاستشرافية أنَّ العراق لابد أن ينهض من جديد ، وأن الحياة ستشرق فيه بعبقها المؤثَّل الأنيق .
(1) الصوفية والسوريالية , أدونيس : 140
(2) الوعي الجمالي , د. هيلا شهيد : 228