السيمر / السبت 10 . 11 . 2018
أسعد أبو خليل / لبنان
لم ينتهِ بعد تأريخ مرحلة الحرب الباردة؛ إنه لم يبدأ بعد. الأرشيف السوفياتي مفتوحٌ أكثر من الأميركي. لكن فرضيّات أسباب سقوط الاتحاد السوفياتي تحتاج إلى إعادة نظر. توطيد المؤامرة الأميركيّة تطلّبَ التقليل من الإيمان بنظريّة المؤامرة الأميركيّة بين الشعوب. الدور الأميركي السرّي والقذر لم يكن معروفاً وليس معروفاً بعد. في مرحلة الحكم الشيوعي، كانت الحكومة الأميركيّة تخرق الحدود وتدير مشاريع تخريب واسعة، وفي مرحلة الانتخابات (ما يُسمى «الحريّة» أو «الديموقراطيّة» في التأريخ الكسول للمراحل السياسيّة)، تدير الحكومة الأميركيّة مشاريع تدخّل صفيقة لإيصال وكلائها إلى الحكم. ما كان محتماً أن يسقط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشيوعي بهذه السرعة (النسبيّة).
نوعان من العوامل أثّرا في انهيار الاتحاد السوفياتي. النوع الأوّل يتعلّق بعوامل خاصّة (ذاتيّة) لم تكن تقرّرها (كلّها) الإدارات الأميركيّة. المستوى الاقتصادي السوفياتي شهد تدهوراً مطرداً منذ الستينيات؛ إن نمو الناتج الاقتصادي السوفياتي بدأ بخسارة السباق بصورة كبيرة مع الولايات المتحدة في أواخر الستينيّات وتفاقم في السبعينيّات. وبحلول الثمانينيّات، كان الناتج القومي السوفياتي نصف الأميركي. والتفاوت الاقتصادي أثّر في كل شيء في التنافس: عسكريّاً وفي سباق الفضاء. إن خفض ميزانيّة وكالة الفضاء الروسيّة في الستينيّات وعدم الإنفاق على الأبحاث هو الذي أهدى الوصول إلى القمر إلى الولايات المتحدة، فيما كان الاتحاد السوفياتي في موضع الصدارة في الخمسينيّات وأوائل الستينيّات. وهناك عوامل لا قدرة للقيادة السوفياتيّة على التأثير فيها، مثل المناخ ومواسم القمح السيّئة في السبعينيّات التي دفعت بالقيادة السوفياتيّة إلى التنازل من أجل الحصول على قمح مستورد (كان الاتحاد السوفياتي يستمرّ في تصدير القمح إلى دول شيوعيّة واشتراكيّة من باب التضامن الأممي فيما كان هو يحتاج لها). والشعب في تلك الدول الاشتراكيّة كان عرضة لدعاية غربيّة مكثّفة أثّرت فيه كثيراً، فيما لم تكن الدعاية السوفياتيّة على نفس المستوى من المهارة، ومن التضليل والكذب. كان رونالد ريغان يقول إن علينا أن نصوّر لمواطني الدول الاشتراكيّة الحياة في أميركا حيث يملك كل مواطن منزلاً مع حديقة وبركة سباحة (أنا أستاذ في جامعة أميركيّة ولا أملك ثمن منزل مع بركة سباحة، كما أن ملايين الأميركيّين لا يملكون ثمن منزل وهناك ملايين لا يمتلكون تأميناً صحيّاً).
إن الكتاب الصادر حديثاً، «العمل السرّي: ريغان و«سي آي إي» ونضال الحرب الباردة في بولوندا» لمؤلّفه (الرجعي) سيث جونز، يميط اللثام عن الكثير من ملابسات وخفايا الحرب الباردة. والكتاب مبني على الأرشيف الرسمي ومقابلات مع صنّاع القرار، بمن فيهم عملاء المخابرات الأميركيّة في تلك الفترة. الكتاب درسٌ لكل مَن يتعاطى مع الإدارات الأميركيّة، خصوصاً الثنائي روحاني-ظريف، حول طريقة تعاطيها مع اتفاقاتِها الموقَّعة: الحكومة الأميركيّة لا تحترم توقيعها على اتفاقات أو تعهّدات أو التزامات. هي لم تلتزم بها في الحرب الباردة مع الدولة العظمى الأخرى، فما بالك مع دول أصغر منها بكثير مثل الدول العربيّة وإيران. هذا الكتاب هو درسٌ عن مخالفة أميركا للاتفاق في يالطا الذي اعترفت بموجبه بمنطقة نفوذ سوفياتي في أوروبا الشرقيّة (عارض تشرشل مبكراً صعود الشيوعيّة في بولندا). لكن أميركا سرعان ما ندمت على يالطا وعملت على تدمير النفوذ السوفياتي في كل العالم أجمع. لكن لم يتسنَّ لأميركا النجاح في مهمّتها إلا بسبب التخاذل السوفياتي والتزامه النضال السلمي من أجل الشيوعيّة. احترمت موسكو اتفاق يالطا فيما صدّقت إعلان واشنطن عن نظريّة الاحتواء. لم تأخذ واشنطن سياسة الاحتواء على محمل الجدّ بل انتهجت سياسة وممارسة «التدحرج» (ص. ٧)، أي صدّ الاتحاد السوفياتي في كل مناطق نفوذه ودفعه إلى الوراء وتحويل مناطق نفوذه إلى مناطق نفوذ غربيّة. لم تكن هناك وسائل امتنعت عنها واشنطن، ولا حتى تهريب السلاح إلى معارضي الشيوعيّة في الداخل. الساخرون من نظريّة المؤامرة بين العرب يحتاجون إلى قراءة هذا الكتاب الذي يدعوني إلى المزيد من الإيمان بنظريّة المؤامرة الأميركيّة.
قصة سقوط بولندا بيد أميركا (هذا في الواقع ما حدث لأن تنظيم «التضامن» لم يكن إلا أداة بيد الحكومة الأميركيّة ومموّلاً منها كما نكتشف في هذا الكتاب) هي قصّة تصادف التقاء حوادث وشخصيّات. و«بطلها» ليف فاونسا هو صنيعة أميركيّة: رجل كان (كما تبيّن من وثائق نُشرت في بولندا) مخبراً في الستينيات لجهاز الأمن الشيوعي، وقد تبجّح أنه لم يقرأ كتاباً في حياته، لكنه أصبح عنواناً للتحرّر والاستقلاليّة (فيما كان مرتهناً مثل قيادة «التضامن» لجهاز مخابرات أجنبي). والبطل الآخر هو مدير جهاز المخابرات الأميركيّة ويليام كيسي (الذي كان قد عمل في أوّل جهاز استخبارات أميركي أجنبي في الحرب العالميّة الثانية، وله خبرة في نشر مطبوعة باسم معارضين أوروبيّين في تلك الفترة ص. ٥٥). واليمين الرجعي المهووس بالشيوعيّة اختار رونالد ريغان (لأن ريغان باعتراف مستشاريه لم يكن له من آراء أو شخصيّة بقدر ما كان بوقاً لمن حوله، باعتراف أوّل وزير خارجيّه له، ويليام هيغ) كي يلعب دور البطولة المطلقة في فيلم تقويض الشيوعيّة حول العالم.
ولم يكن تأسيس «وكالة المخابرات المركزيّة» إلا تنفيذاً لسياسة محاربة الشيوعيّة. وفي قرارات وقّعها هاري ترومان، عملت الوكالة على تمويل كل الأحزاب المناهضة للشيوعيّة والاشتراكيّة حول العالم، حتى في دول أوروبا الغربيّة الديموقراطيّة مثل إيطاليا وفرنسا وألمانيا الغربيّة، أي إن الحكومة الأميركيّة التي أصمّت آذان العالم بحمد الديموقراطيّة في سنوات الحرب الباردة لم تحترم إرادة أي شعب في الاختيار الحرّ وكانت تتدخّل بالمال والسلاح والتخريب في العمليّة الانتخابيّة من أجل تعطيلها أو إفشال خصومها أو إيصال وكلائها إلى السلطة. لم يكن الاتحاد السوفياتي على هذه الدرجة من خرق السيادة حول العالم ومن الاستعانة بالوسائل القذرة لفرض إرادته. لو أن موسكو فعلت ما فعلته أميركا، لكانت أطالت أمد النظام الشيوعي ولكانت أفشلت الكثير من المخطّطات الأميركيّة. لكن الاتحاد السوفياتي، خصوصاً في مرحلة ما بعد ستالين، كان أكثر حرصاً على الحفاظ على علاقات وديّة مع واشنطن. كانت أميركا تتحدّى موسكو في عقر دارها وتحيطها بصواريخ نوويّة، وكانت مستعدّة لخوض حرب نوويّة من أجل سحب صواريخ من كوبا، وشكَّل هذا ترجيح القوّة في الموقف الأميركي في أزمة الصواريخ الكوبيّة. أي إن أميركا كانت مستعدّة لشن حرب نوويّة فيما لم تكن موسكو في الوارد، ورضخت للابتزاز بسبب ذلك. والقرارات التي وقّعها ترومان في ١٩٤٧ و١٩٤٩ أطلقت يد المخابرات الأميركيّة لأعمال «دعاية وحروب اقتصاديّة وتخريب وقلاقل ضد حكومات أجنبيّة، خصوصاً الاتحاد السوفياتي وحلفائه». (ص. ٥٨). وفي عمل المخابرات الأميركيّة، يُعتبر تصنيف «العمل السرّي» على أنه عمل غير منسوب إلى الحكومة الأميركيّة وأنها تستطيع أن تنفي مسؤوليّتها عنه لو افتضح. لم تكن «كي.جي.بي» على هذه الدرجة من العقل التخريبي، وكان ذلك نقيصة لها.
وكان ويليام كيسي صريحاً في مراميه؛ لم يكن يهدف مثلاً إلى طرد النفوذ الكوبي من أفريقيا، بل أراد طرد كاسترو من كوبا وأفريقيا وأميركا الجنوبيّة برمّتها (ص. ٦٣). أما كيفيّة عمل المخابرات الأميركيّة في تخريب النظام في بولندا (أو أي دولة أخرى)، فيبدأ بتمويل نشرات ومجلّات المعارضة لتلك الدولة التي تعارضها واشنطن، ثم المساعدة في تهريب تلك المواد المعارضة داخل البلاد، أو تمويل عمليّات تهريب عبر مهرّبين محترفين أو الاستعانة بأقنية الكنيسة، كما فعلت أميركا في حالة بولندا. وساعد الحكومة الأميركيّة كثيراً تطوّع جنرال بولندي (روسارد كوكلنسكي) للعمل لحسابها، وكان يمدّها بخطط عسكريّة سوفياتيّة سريّة (يصوّر الكتاب هذا الجنرال الذي هُرِّب إلى أميركا في الثمانينيّات على أنه مدفوع بحب الحريّة والاستقلال، فيما كانت أهدافه ماديّة بحت. لقد عرفتُ ابنه في واشنطن – ولم يكن يتحدّث عن صفة أو عمل أبيه لكنه كان يذمّه – وكان يعدّ الدكتوراه في جامعة جورج واشنطن وكان صديقاً لصديقة لي. وابن الجنرال هذا مات منتحراً كما مات أخوه في حادث، وهناك نظريّات مؤامرة حول ذلك. ولم أعلم بصفة أبيه إلا بعد انتحاره عندما تحدّثت الصحف عن ذلك بعد نشر قصّة أبيه). قال كيسي عن هذا الجنرال: «في السنوات الأربعين الماضية، لم يفعل أحد لإحداث ضرر في الشيوعية كما فعل هذا البولندي» (ص. ٧٢). والعمل لتقويض الشيوعيّة في أوروبا بدأ باكراً عندما تأسّست «اللجنة الوطنيّة من أجل أوروبا الحرّة» وشارك في التأسيس رجال أعمال ومحامون وأثرياء، بالإضافة إلى ألن دلِس الذي أصبح فيما بعد مديراً لوكالة المخابرات. وانبثق عن هذه اللجنة «راديو أوروبا الحرّة». وعوّلت أميركا حينذاك كثيراً على البثّ الإذاعي الموجّه نحو أوروبا من أجل «إبقاء فكرة التحرير حيّة» وتخريب الاقتصاد والعلاقة مع موسكو وبث الشكوك في دول أوروبا الشرقيّة حول علاقتها مع موسكو وتشجيع الانشقاقات وخلق مناخات ملائمة لنموّ حركات المقاومة لاستغلالها «في الحرب» أو السلم ضد المعسكر الشيوعي. ولم يكن لموسكو مشروع جهنّمي مقابل. وقراءة الوثائق التي حصل عليها المؤلّف توحي أن عمليات التخريب الاقتصادي وتشجيع الإضرابات كانت حاسمة في تقويض النظام الشيوعي وانهياره في بولندا.
وعملت المخابرات الأميركيّة على طبع ونشر وتوزيع وترجمة كتب معادية للشيوعيّة حول العالم. ألاحظ عندما تعود بي الذاكرة إلى الوراء أن «دار النهار» مثلاً سارعت إلى إصدار ترجمة عربيّة سريعة لمذكّرات خروتشوف، الذي كانت الحكومة الأميركيّة تروّج له. «ومشروع الكتب» (وهو اسم رسمي لبرنامج مخابراتي أميركي تأسَّس سنة ١٩٥٦) وزّع نحو عشرة ملايين كتاب ومجلّات وصحف من مؤلّفين مهاجرين من دول شيوعيّة في روسيا ودول أوروبا الشرقيّة وحدها (ص. ٨٦). وكتاب تشيلاو ميلوش، «العقل الأسير»، كان واحداً من هذه الكتب (عام ٢٠١١، وفي حفل أمام السفيرة الأميركيّة، أثنى وليد جنبلاط على كتاب ميلوش الرجعي، الذي خلّدته دولة الاحتلال الإسرائيلي في نصب «ياد فاشيم»). ودور المخابرات الأميركيّة في نشر وتوزيع وترجمة كتاب «دكتور زيفاكو» بات معروفاً (راجع كتاب بيتر فِن، «قضيّة زيفاكو: الكرملين و«سي.آي.إي» والصراع حول كتاب ممنوع».
وفي مرحلة صعود حركة «تضامن» وشخصيّة ليف فاونسا، لم تكن الحكومة السوفياتيّة في وارد إرسال قوّات لدعم الحكم الشيوعي هناك. هي تركت الحكم هناك ليواجه مصيره وحيداً، ما ساهم بطريقة مباشرة في تقويض دعائم الحكم الشيوعي في موسكو، حيث استعملت الحكومة الأميركيّة نفس أساليب الترهيب والتخريب التي اعتمدتها في بولندا. والجنرال ياروزلسكي كان خلافاً لصورته في البرامج الدعائيّة الأميركيّة التي نشرتها في صحف العالم (أعني هذا حرفيّاً، إذ كان للمخابرات الأميركيّة برنامج لنشر معلومات ضارّة بالشيوعيّة والشيوعيّين في مقالات في إعلام العالم، ونذكر بعض نماذجها في صحف بيروت آنذاك). ياروزلسكي كان قوميّاً بولنديّاً (من أصول بورجوازيّة)، وكان معارضاً للدور السوفياتي برغم إيمانه بالشيوعيّة. وخلافاً لما أشيعَ يومها كان يتجنّب أي مواجهة مع حركة «تضامن» التي لم تكن في وارد التفاوض السلمي أو المساومة للوصول إلى حلّ لأن المُشغّلين الأميركيّين كانوا ينصحون بالإضرابات المستمرّة والتعنّت وجرّ الحكومة البولنديّة إلى اللجوء إلى العنف (وهي لم تفعل ذلك لكن هذا الخيار كان وارداً في حسابات مشروع المواجهة الأميركي السرّي الذي أذن بتقديم مساعدات عسكريّة وسلميّة مدنيّة لمعارضي النظام الشيوعي. ففي حزيران ١٩٨١، وقّع ريغان على قرار سرّي لتقديم تدريب ومساعدات عسكريّة ومعدّات مدنيّة للمعارضة البولنديّة). كانت كل موارد «تضامن» الهائلة من ميزانيّة المخابرات الأميركيّة. كانت الحكومة الأميركيّة متعطّشة لتدخّل عسكري سوفياتي في بولندا لمواجهته واستعماله في الدعاية السياسيّة.
أدركت الحكومة الأميركيّة أن الإضرابات في بولندا هي فرصة سياسيّة لها (قال ريغان في أحد الاجتماعات إن هذه فرصة لا تتكرّر في ٦٠ سنة، وإن الولايات المتحدة لا يمكن لها إلا أن «تذهب إلى الحد الأقصى» (ص. ١٢٥) (لكن ريغان ذهب إلى أبعد من ذلك في أيّار ١٩٨٢ عندما وقّع على قوانين بالغة السريّة، في التصنيف الحكومي) عكست تغييراً جذريّاً (غير معلن) في السياسة الأميركيّة في الحرب الباردة. فقد أذن بإطلاق مروحة واسعة من «العمل الديبلوماسي والدعائي والسياسي والعسكري لاحتواء ودحرجة توسّع السيطرة والوجود السوفياتي حول العالم» (ص. ١٣٢). أي إن أميركا خالفت كل روح ومضمون سياسة الوفاق التي كانت معلنة، بالإضافة إلى مخالفة تفاهمات مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية مع الحلفاء. وبعد أشهر قليلة من القوانين السريّة المذكورة، أضاف ريغان وثيقة سريّة جديدة جاء فيها أن السياسة الأميركيّة الجديدة باتت في فك عرى سيطرة موسكو على أوروبا الشرقيّة وإدماجها في أوروبا الغربيّة (وهذا بالفعل ما حدث). القانون هذا لم يُفرَج عنه في تفاصيله لكنه تضمّن «تدعيم الوجهة الموالية للغرب عند الشعوب» وتقويض الإمكانات العسكريّة لحلف وارسو.
وتدفّقت المساعدات الأميركيّة السريّة، من آلات طابعة إلى مواعين ورق ومطابع صحف وكتب شاملة وآلات فاكس وأجهزة تصوير واتصال سرّي وناسخات بالإضافة إلى سلاح لا تفصّله الوثائق المُفرَج عنها. وكان قادة «تضامن» يتلقّون مساعدات ماليّة منتظمة، كما كانت عائلاتهم تتلقّى تلك المعونات عندما يقضون فترة في السجن. واتساع نطاق برامج المساعدة لا يسمح بالاعتقاد أن الحكومة البولنديّة كانت جاهلة بها. لا شكّ أنه كان هناك متواطئون في جسم القيادة الشيوعيّة ممن سمحوا لهذا الخرق الفاضح للسيادة دولة شيوعيّة تجاهر حينها بالتضامن مع الاتحاد السوفياتي. وكانت المخابرات الأميركيّة توزّع داخل بولندا وعلى نطاق واسع دعاية ضد الشيوعيّة من قبل منظمّات يمينيّة تقطن في المنفى (وتتموَّل من المخابرات الأميركيّة). وتدركون أحجام المساعدات الأميركيّة السريّة عندما تقرؤون أرقام بعض ما وقع في يد الحكومة البولنديّة، ففي ١٩٨٢، صادرت الحكومة ٧٩٣٤٢٢ منشوراً سريّاً، وعام ١٩٨٥ صادرت ٩٩٩٩٦٨ منشوراً. وصادرت الحكومة في ١٩٨٥ فقط على أكثر من نصف مليون كتاب ومجلّات ممنوعة، وصادرت في العام نفسه أكثر من ألفيْ ماعون ورق، وصادرت ٢٠ مطبعة «أوفست» عام ١٩٨٦، بالإضافة إلى آلات طباعة ونسخ.
وكالعادة في الأعمال السريّة القذرة للحكومة الأميركيّة، أنت حتماً تقع على دور لمخابرات العدوّ الإسرائيلي. فقد استعانت المخابرات الأميركيّة بشبكة من الجواسيس الإسرائيليّين في البلقان والشرق الأوسط عبر بولندا نحو الاتحاد السوفياتي (عزّز «الموساد» حظوته عند نظيرته الأميركيّة عندما سرّب خطبة خروتشوف السريّة أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في ١٩٥٦). وسهّل «الموساد» وصول المواد الممنوعة إلى بولندا. وجندّت المخابرات الأميركيّة مَن أثر في وسائل الإعلام العالميّة عبر نشر مقالات في صحف حول العالم مؤيّدة لـ«تضامن» ولفاونسا. أكثر من ذلك، كانت المخابرات الأميركيّة تدفع لأشخاص لتنظيم مظاهرات تأييد لـ«تضامن» في دول العالم (ص. ١٥٦). وكانت أجهزة مختلفة، أميركيّة وأجنبيّة، تساعد في تهريب المال والمواد، من فيدراليّة النقابات العمّاليّة الأميركيّة إلى «الوقف الأميركي للديموقراطيّة» إلى منظمّات خيريّة وإنسانيّة، وكان هناك دور تمويلي لجورج سوروس في عون الحكومة الأميركيّة على تقويض الشيوعيّة. والكنيسة في عهد البابا يوحنا بولس الثاني كانت خير عون لإدارة ريغان في العمل التخريبي السرّي (ورد ذلك من قبل في كتاب كارل برنستين وكارلو بوليتي عن «حضرة القداسة»). وتطوّرت المعونة الأميركيّة لتشمل أجهزة إذاعة وتلفزيون وأجهزة تشويش على البثّ الحكومي. أما الموقف السوفياتي، فكان باهتاً وضعيفاً وضعف أكثر بعد عهد برجنيف. والأخير اكتفى بإرسال رسالة إلى ريغان يحثّه فيها على عدم التدخّل في شؤون دولة ذات سيادة (ص. ١٨٢). وبالتوازي مع الحملات العالميّة ضد الشيوعيّة، كان مكتب التحقيقات الفيدرالي لا يكتفي بملاحقة ورصد ومضايقة الحركات اليساريّة بل صنّف في معسكر الأعداء حركات «السلام ونزع التسلّح» في العالم واعتبرها «قضايا سوفياتيّة» (ص. ١٩١).
نعلم اليوم أن الأحداث في بولندا في الثمانينيّات لم تكن من صنع الشعب البولندي. كان هناك مُسيِّر أميركي يخطّط وينفَّذ ويأمُر. بعد اغتيال القسّ بوبيلوشكو في تشرين الأول ١٩٨٤، طبعت المخابرات الأميركيّة ٤٠٠٠٠ بطاقة بريديّة تحمل صوره مع نصوص من عظاته. كما أن «راديو أوروبا الحرّة» بثَّ تسجيلات لعظاته (ص. ٢٢٩). ونشاط المخابرات الأميركيّة عن بولندا كان على نطاق عالمي، وكانت عواصم مختلفة في العالم تحتل ساحة النشاط الأميركي السرّي. اختارت الحكومة الأميركيّة باريس ومكسيكو سيتي مقرّين لها لضخ دعايتها السياسيّة ولوضع مقالات مفيدة لـ«تضامن» في صحف مكسيكيّة وأخرى عالميّة. حتى المقابلات مع قادة «تضامن» في محطات عالميّة (مثل التلفزيون الفرنسي) كانت من تدبير المخابرات الأميركيّة. والمظاهرات التي جرت في بلدان عدة لدعم حركة «تضامن» كانت أيضاً من صنع المخابرات الأميركيّة.
وكلّما حاولت الحكومة البولنديّة أن تقدّم تنازلات للمعارضة، نشطت المخابرات الأميركيّة لعرقلة التفاهم. حتى عندما قرّرت الحكومة إجراء انتخابات غير مقيّدة كما في السابق، رفضتها أميركا وقامت مخابراتها بطبع ٣٥٠٠٠٠ ملصق يدعو الشعب البولندي لمقاطعة الانتخابات. لم تكن أميركا تريد إصلاحاً أو حريّة. كانت تريد التخريب وصنع نظام رجعي، وكان لها ما أراد. وتلاقت مصالح الحكومة الأميركيّة مع رؤية غورباتشوف (ومستشاره ياكوفليف الذي نظّر لـ«غلاسنوت» و«بروسترايكا»): أتاح الأوّل لبولندا أن تقع في أحضان عدوّها. ظنَّ أن ذلك يأمن له شرّها، فكان العكس وسقط نظامه أيضاً مع النظام البولندي.
نال فاونسا جائزة نوبل (مصادفة؟) وسقط النظام في ١٩٨٩. لكن الشعب ضاق ذرعاً بفاونسا بعد سنوات حكمه. آخر مرّة ترشّح في ٢٠٠٠ لم ينلْ إلا ١.٠١ ٪ من الأصوات. لكن بولندا بقيت على سكّة الرجعيّة التي أرادتها أميركا مع أن عدداً وافراً من سكان دول أوروبا الشرقيّة بات ينظر بحنين إلى سنوات الشيوعيّة. هذه سيرة ليست عن بولندا فقط؛ إنها وصف لمؤامرات تجري حاليّاً في بلادنا العربيّة، من أقصاها إلى أقصاها.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)