السيمر / الاثنين 12 . 11 . 2018
صالح الطائي
أنا وسدة الكوت توئمان، ولدنا في مكانين مختلفين، والتقينا بعد طول فراق، جدنا الأعلى لأبينا هو أنكيدو، وجدنا الأعلى لأمنا هو كلكامش، وأصلنا وأرومتنا وعشيرتنا من نسل الأفعى التي سرقت ماء نبع الحياة وشربته، فأصبحت تبدل جلدها كل عام، لكي لا تفارق الخلود، حتى مع كوننا ـ نحن أولادها غير الشرعيين ـ من ألد أعداء الخلود، نقتل كل شيء يربطنا بالماضي لكي لا نتهم بأننا خلوديين، مسيرتنا خلاصة جميع ملاحم التاريخ الإنساني منذ أن اوقد نارها أوتانبشتم، وأرشده الحكماء الأغبياء المقيمون في غابة الأرز البعيدة إلى كيفية المنازلة، وإلى أن سطَّر حمورابي قوانين مسلته؛ التي أبدلها أحفاده بكأس من النبيذ المعتق.
افترقنا أنا وهي منذ مليون عام، والتقينا بعد طول فراق، يوم أجج العراقيون آخر وأغبى ملاحمهم التاريخية، لا مع عدوهم المشترك، الذي يترصدهم، ويكيد بهم، بل فيما بينهم، مع أنفسهم، فأخذ بعضهم يذبح بعضا، وبعضهم يُهجِّر بعضا، فوجدتها لا زالت غارقة في الماء، العابق برائحة الدماء، الدماء القادمة من غياهب مجاهيل الغدر الإنساني، هناك في أعالي النهر، حيث يقطن التوحش والتوجس والرهبة الأبدية، حيث روح البداوة كانت تعزف على ربابتها التي يشبه صوتها عواء ذئب هرم هده الجوع.
التقينا فوجدتها ترفل غنجا وتتلوى، كرقص مذبوح على أعتاب الطائفية، وتبكي أذرعها المعطلة المشلولة التي كانت بالأمس تحتضن السمك، السمك الذي تحرر من أسرها، وغادرها مهاجرا صوب الجنوب، باحثا عن شِباك صياد سومري أسمر، ليتخذها بيتا وملاذا بعد طول تشرد على أعتابها التي تراقص الماء، ووجدتني ذلك الشخص نفسه المصاب بالهذيان، لا زلت أهذي، بالرغم من كل الذي مر، بعد أن فقدت بيتي ومدينتي وجيراني وأصدقائي وما أملك، ومكتبتي وكتبي التي ألفتها. ذلك الشخص المخدوع، لا زلت أحتضن حروفي المجنونة المبعثرة على قارعة ذاكرتي الصدئة؛ التي انهكها اللؤم البشري، على أمل أن أنثرها نصائح وحكما في طريق قوافل السائرين إلى مصيرهم طوعا، ولا أحد منهم يفهم ما أقول أو يهتم بما أتحدث. فمثلي مثل جميع الأنبياء، غرباء عن أقوامنا الذين يتآمرون علينا باستمرار، نعمل لحياتهم ويعملون على ذبحنا.
التقيت بها وأنا أنوء بحمل أطنان من الغربة، وأكداس من اليأس، وشعور قاتل بالهزيمة المرة، التي سببها لي أخي في الدين والوطن، إرضاء لشهوات حيوانية ورثها عن أجدادنا الأغبياء، الذين لم يعملوا على حل مشاكلهم التافهة، وإنما رحَّلوها إلى أولادهم واحفادهم، مع وصايا مجحفة بالحفاظ عليها إلى الأبد، فتضخمت وتحولت إلى غيلان تنهش وجه التعايش والتسامح؛ يوم وصلت إلينا، فكان أول ضحاياها روحنا الوطنية، ولا قيمة للإنسان متى ما ماتت روحه الوطنية، ومتى ما فقد الإنسان قيمته، تفقد الأوطان قيمتها وهيبتها وعزها وشرفها.
التقيت بها فوجدتها مصابة بهزال الثرثرة، قد خف صوتها، واختفت عربدتها، وماتت أفاعي مائها الوشل، وهاجرت أسماكها، كللها الحزن، وذوت محاسنها، بعد أن التهم الطير الأمريكي الجارح المتوحش البشع بلا سبب وجنتها، وبعد أن ترك أهلها العناية بها!
التقيت بها وقد هدني التعب وأحرق حشاشتي الحزن بعد ان نجحت في الخروج من المتاهة، لأن متاعب الإنسان تزداد كلما كبر حجم المتاهة، وزاد تعقيدها، فما بالك بوطن تحول كله إلى متاهة معقدة؟!
لكن بالرغم من تعاقب مرور السنين، وبالرغم من كون الجميع غيروا جلودهم.. لبسوا أقنعة جديدة .. غيروا أشكال سحناتهم، طريقة مشيهم وتحدثهم.. وحدنا، هي وأنا، لم يتبدل شيءٌ فينا، لا هي جف ماؤها، ولا أنا تركت هذياني. لا هي تنازلت عن طيبتها، ولا أنا تنازلت عن وطنيتي.
فهل الهذيان رفيق رذاذ الماء؟ أم ان أصل الماء هو الهذيان، وبدونهما لا تكون الحياة ولا يكون وطن!