الرئيسية / مقالات / تحية لمجلس القضاء الأعلى : “الدكَّات العشائرية” يؤججها ويشوهها الإرهابُ بأدوات صدام (6)
الكاتب القدير الأستاذ محمد ضياء عيسى العقابي

تحية لمجلس القضاء الأعلى : “الدكَّات العشائرية” يؤججها ويشوهها الإرهابُ بأدوات صدام (6)

السيمر / الثلاثاء 11 . 12 . 2018

محمد ضياء عيسى العقابي

الأمريكيون يخدمون مشاريعَهم العالمية بخلق المشاكل والأزمات والصراعات ومن ثم إدارتِها لصالحهم:
من المتوقع جداً أن ينتفع الأمريكيون من وثائق الإبتزاز الصدامي، وهم الساعون لإخضاع السلطة العراقية والمجتمع العراقي لهيمنتهم في إطار إستراتيجيتهم العالمية التي أتينا عليها في الحلقة (5).
سأتناول فيما يلي فلسفة الدولة العميقة الأمريكية في كيفية تسيير أمور العالم حيث يتركز الجهد على خلق المشاكل وإدارة حلها. وهذه بدورها تحتاج الى أدوات. وهنا تلاقى المعروض مع المطلوب في مسألة الدكَّات العشائرية. فلنتأمل:
في سبعينات القرن الماضي نشر بروفيسور أمريكي على مسؤوليته الشخصية تقريراً قال إنه تقرير لجنة شكلها رئيس الولايات المتحدة على أعلى مستوى ضمت علماء ومتخصصين في جميع مناحي الحياة المادية والمعنوية والروحية ليجيبوا على السؤال التالي: “ما هي فلسفة الولايات المتحدة في هذه الحياة وما هو الطريق الذي يجب أن تسلكه أمريكا؟”
بخصوص السياسة الخارجية، خلص التقرير الى ما يلي: “إن العالم إذا هَدَأَ وإسترخى فسوف ينشأ الملل ويدب الشغب والمماحكات والعراك والتناحر من أدنى مستوى الى أعلاه، بدءاً من العائلة الواحدة فالجيران فالحي مروراً بالعشيرة والقبيلة فالقرية فالمدينة فالدولة بلوغاً الى الحروب بين الدول.
عليه فالسياسة التي يجب على الولايات المتحدة إتباعها تتمثل بخلق المشاكل والصراعات المحسوبة حساباً دقيقاً والمسيطر عليها ونشرها في العالم ومن ثم إدارتها بما يحقق مشاريع الولايات المتحدة”.
أنا، هنا، لستُ بصدد مناقشة هذا الرأي المستند الى إفتراض ديمومة النظام الرأسمالي وكأنه أزلي نازل من السماء وباقٍ تنبغي خدمته. بينما في واقع الحال هو نظام كسائر النظم الاجتماعية التي مر بها العالم يولد في رحم النظام الذي سبقه ويتطور ويهرم ثم يخلي الطريق لنظام أكثر ملائمة للواقع المتطور أبداً.
التقرير، إذاً، إستند الى خدمة النظام الرأسمالي كنظام دائم وهو الذي بلغ أعلى مراحله في الدول الرأسمالية المتقدمة وعلى رأسها أمريكا وأسماه بابا الفاتيكان الحالي بـ “الرأسمالية المتوحشة”، فأضحى نظاماً إمبريالياً هو نظام تحكمه القيم المادية وحسب غير آبه بأهم عنصر في هذه الدنيا وهو الإنسان الذي ينبغي ضمان كفايته المادية والمعنوية والروحية وإعلاء شأن كرامته وحقوقه وحريته. الصراعات لا تتأتى من إنبساط الإنسان بل تأتي من فقدانه العدالة خاصة الإجتماعية. فحسب فضائية (فرانس24) فإن 1% من سكان العالم يملكون أكثر مما يملكه 99% من باقي السكان؛ علماً أن فريقاً من العلماء كلفتهم الأمم المتحدة في سبعينات القرن الماضي بدراسة إمكانية تحسين أحوال شعوب العالم الفقيرة – أكدوا أن نسبة ضئيلة جداً مما ينفق على التسلح في العالم لو خُصص للتنمية لأصبح بالمقدور توفير الغذاء والماء والرعاية الصحية والتعليمية والسكن المناسب والطرق الآمنة لكل سكان العالم دون أن يؤثر ذلك على أرباح الشركات بجميع أنواعها. بالمناسبة تبلغ موازنة الدفاع الأمريكية وحدها العام القادم (700) مليار دولار.
أوردتُ التقرير الذي نشره البروفيسور الأمريكي أعلاه لأبيّن واقع حال العالم اليوم سواءً أحببنا هذا الواقع أم كرهناه فهو واقع معاش وعلى شعوب العالم ومنها الشعب العراقي التعاملُ معه بوعي وإنتباه.
دعونا لا نذهب بعيداً. فلننظر الى أفعال أمريكا في الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية وقضايا أفغانستان والعراق وسوريا ومئات من أشباهها لنتيقن بأن الدولة الأمريكية العميقة قد أخذت بتوصيات لجنتها وعملت ومازالت تعمل على هداها. كانت الإمبريالية تدعي بأن سبب التوترات في العالم متأتية من سعي الإتحاد السوفييتي ونظامه الشيوعي الى قلب النظم بالقوة؛ ووعدت الإمبرياليةُ العالمَ بحياة كريمة إذا ما زال هذا الخطر على الحريات والديمقراطية. ولكن أوضاع الشعوب قد زادت فقراً وبؤساً واضطرب الأمن وإستهانوا بالشرعية عندما تفكك الإتحاد السوفييتي وإنهارالمشروع الإشتراكي. إحتلت أمريكا العراقَ خارج الشرعية الدولية. وصرح جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي أوباما “إذا لم تكن إسرائيل موجودة الآن لأوجدناها” أي خلق مشكلة للتعكز عليها في دفع الأمور لصالح أمريكا بحجة حل المشكلة التي خلقتها وهكذا.
العراق، إذاً، ليس ببعيد عن هذه اللعبة بل هو ضحية لها. والدكَّات العشائرية تشكل حلقة من سلسلة طويلة من المشاكل التي يخلقها الأمريكيون عبر “حلفائهم” في الواقع العراقي لكي يسيطروا على مفاصل الحكم فيه بعد أن أخرجتهم حكومة المالكي من العراق. فالأمريكيون هم الذين سمحوا للقاعدة وأبي مصعب الزرقاوي بالحضور الى العراق. لقد إعترف الرئيس جورج بوش الإبن أنه بإحتلاله العراق قد جعل منه قاعدة متقدمة لجذب ومقاتلة الإرهاب بدل ذهاب تنظيم القاعدة الإرهابي الى أمريكا كما فعل في 11/9/2001. وبعد ذلك خلق الأمريكيون داعش ومكّنوه من السيطرة على الموصل وعدة محافظات ومن ثم تحمّسوا لإدارة محاربتها ليتم الوصول الى هدفهم وهو الهيمنة على مفاصل الحكم في العراق ولكنهم أخفقوا ولم ييأسوا ومازالوا يحاولون. وهذا المسار يسمى بخلق الأزمة أو الصراع أو المشكلة أو القضية ثم إدارة حلها بما يحقق أهداف أمريكا. لقد بيَّنتُ في الحلقات السابقة دورَ الأمريكيين في مسألة الدكّات.
قد يجد المرء تناقضاً بين ما أقوله عن حنكة الأمريكيين في خلق المشكلة ومن ثم تحقيق هدفهم عبر إدارة حلها وبين ما أظهرَه في فضائية “الإتجاه” بتأريخ 24/11/2018 بعضُ السياسيين العراقيين الذين واكبوا عملية التغيير ومجلس الحكم والعملية السياسية منذ بدايتها بما فيها الانتخابات وتأليف حكومة الجعفري وكتابة الدستور والتصويت عليه وتأليف حكومتي المالكي، حيث تحدثوا عن تشوش الإدارة الأمريكية وتخبط الحاكم المدني بول بريمر، وعدم توفر خطة لدى الأمريكيين لكيفية إدارة العراق بعد إحتلاله.
ما قالوه كان صحيحاً ولكنه لم يرسم الصورة الكاملة. فالذي تحدثوا عنه كان يقع في إطار التكتيكات التفصيلية للأمريكيين ولكن الأمريكيين كانوا واعين وواضحين لما يريدونه إستراتيجياً من العراق. وقد أشار الى ذلك السيد عبد الكريم المحمداوي وزير الأمن الوطني الأسبق.
ولكن هذا لا يعني أن كل التخطيطات الإستراتيجية الأمريكية تجد طريقها الى التنفيذ بيسر. فقد تصطدم بإرادة الشعوب وتفشل أحياناً فتطرح أمريكا البديل، وقد تتعرقل فتناور أمريكا قدر المستطاع خاصة إذا كان الأمر هاماً جداً كما هو الشأن العراقي المفصلي في المخططات العالمية لأمريكا. لذا فأمريكا تلجأ الى كل السبل الممكنة من أجل الإمساك بالقرار العراقي لخطورته ومن بين هذه السبل الدكّات العشائرية ولكنها ستفشل كما فشلت قبلاً وستفشل أيضاً في تمرير صفقة القرن فإرادة الشعوب أقوى من إرادة الإمبرياليين وستنتصر مهما طال الزمن والمعاناة.

(يتبع)

اترك تعليقاً