السيمر / الخميس 13 . 12 . 2018
عبد الله السناوي / مصر
أتوقف اليوم عن ممارسة مهامي رئيساً للجمهورية الفرنسية»، هكذا فاجأ شارل ديغول الفرنسيين والعالم كله على خلفية نتائج استفتاء عام على إجراءات اقترحها لإعادة تنظيم بعض مؤسسات الدولة. لم يكن الاستفتاء على شخصه، ولكنه استشعر أن فرنسا لم تعد تريده، وقرر أن ينسحب باختياره الحر من الحياة العامة. كان ذلك في ربيع 1969. قبل نحو عام، شهدت فرنسا انتفاضة طلابية واسعة في أيار/مايو 1968 بدت في بعض تجلياتها تمرداً على «سلطة الأب» الذي قاد المقاومة الفرنسية أثناء الاحتلال النازي.
كانت أجيال ما بعد الحرب العالمية الثانية تبحث عن تجديد شامل في النظرة العامة يكسر كل «التابوهات». انتقدت الماركسية الأرثوذكسية ونبذت الأفكار الرأسمالية. حدثت صدامات مروعة مع الشرطة وأقيمت متاريس في الحي اللاتيني وأعلنت اتحادات العمال والمدارس الثانوية إضراباً عاماً ليوم واحد، أعقبته تظاهرة مليونية جابت شوارع باريس. كانت ثورة في الفكر والفلسفة والفن وعلم النفس رفعت شعار: «كن واقعياً واطلب المستحيل»، غير أن طموحاتها أُحبطت واستحالت مطالبها إلى بعض الزيادات في الأجور وبعض الإصلاحات الإدارية.
رغم ما صاحب انتفاضة 1968 من إلهام عميق وقوة تأثير، فإن الديغوليين اكتسحوا في 23 حزيران/يونيو التالي انتخابات نيابية مبكرة دعا إليها الزعيم الفرنسي بعد حل البرلمان. كانت تلك مفاجأة استعصت على التفسير، باستثناء ما كان يمثله ديغول لدى عامة الفرنسيين من قيم كأنها بوالص تأمين على المستقبل.
احتجاجات «السترات الصفراء» ليست كانتفاضة 1968، ولا الرئيس الفرنسي الحالي، إيمانويل ماكرون، تصح مقارنته برجل تاريخ بحجم ديغول، ولا العصر هو نفسه بتطلعاته وأزماته. الاحتجاجات بدت تمرداً اجتماعياً على فساد المؤسسة والنخب الحاكمة والتمييز ضد الطبقة الوسطى والفئات الأقل دخلاً. خلت تماماً من الأفكار والأيديولوجيات، كأنها «كوكتيل سياسي» بين متناقضات يجمع بينها الضجر الاجتماعي بأثر ضعف القدرة الشرائية وزيادات الضرائب على الوقود. كما خلت تقريباً من أي أدوار للأحزاب والنقابات، حتى بدا المشهد كله كأنه يحدث في فراغ المؤسسة وتمرداً عليها، وهو وضع منذر في بلد استقرت فيه التقاليد الديموقراطية والرسوخ المؤسسي.
الاحتجاجات استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي في الحشد والتعبئة وابتعدت عن أي وسائل تقليدية حزبية أو نقابية، وهذه طبيعة عصر لا يمكن تجاهلها. رغم طابعها الاجتماعي المباشر، فإنها تعبير عن صراع طبقي عجزت المؤسسة عن إدارته والتخفيف من احتقاناته بتبنيها سياسات رأسمالية متوحشة، وتعبير ثانٍ عن أزمات مكتومة ونظرات سلبية لمستوى الأداء العام، وتعبير ثالث عن أزمة تعريف الهوية الفرنسية في عالم مضطرب، حتى بدا الوجود في الاتحاد الأوروبي قضية مثارة وتحت الاختبار في الانتخابات الأوروبية الموشكة.
لم يكن ماكرون في وارد حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة، كما فعل ديغول، فالنتائج معروفة سلفاً، لكن لم يكن بوسعه تجاهل نسبة التأييد العالية، وفق استطلاعات الرأي العام، لاحتجاجات «السترات الصفراء». بدا خطابه إلى الأمة، الذي استغرق (13) دقيقة، اعترافاً بالأزمة ومسؤوليته عن بعض أسبابها، واعتذاراً عن بعض تصريحاته التي وصفها بنفسه بأنها جارحة.
كانت تلك محاولة لمدّ جسور الثقة من جديد مع شعبه. وقد ساعدته الإجراءات التي أعلنها، مثل زيادة الحد الأدنى للأجور وتخفيف الأعباء الضريبية، في تخفيض منسوب الغضب العام على سياساته وشخصه، وفق استطلاعات رأي عام جديدة، من دون أن تتجاوز حد الخطر.
الانقسام حاد والاحتجاجات مرشحة لجولة خامسة السبت المقبل، وهو ما لا يحتمله الاقتصاد الفرنسي قرب الكريسماس، الذي يشهد تقليدياً رواجاً سياحياً. الأسوأ أن الإرهاب أطلّ قبل الجولة المتوقعة على مدينة ستراسبورغ ــ مقر البرلمان الأوروبي، حيث سقط ثلاثة قتلى وأصيب اثنا عشر، نصفهم في حالة حرجة.
علت أصوات أن فرنسا تحتاج الآن إلى وحدة مجتمعها، لكن لكل شيء أصوله وقواعده. فتح قنوات الحوار خطوة ضرورية دعا إليها ماكرون، وإعلان «الطوارئ الاجتماعية والاقتصادية» خطوة أخرى في الاتجاه نفسه، غير أن الشيطان يكمن دائماً في التفاصيل. ما المقصود بالضبط؟ وبأي رؤية؟ ثم ما مدى استعداد الرئيس الفرنسي لإعادة ضريبة الثروة التي ألغاها باسم تشجيع الاستثمار ومنع هرب رأس المال إلى الخارج، واصفاً الرؤساء السابقين الذين أبقوا عليها أربعين سنة بالجبن؟ إذا أصرّ على إلغاء ضريبة الثروة، فهو في مشكلة عميقة يصعب الخروج منها، بالنظر إلى أن غالبية الفرنسيين يصفونه بـ«رئيس الأغنياء». وإذا أعادها، فإنه يتخلى عن صلب نظرته الاقتصادية، ويبدو رئيساً مهزوزاً. في الحالتين، يصعب تصور تجديد ولايته في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
بينما كان ماكرون يلقي خطابه المقتضب، كانت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي تواجه موقفاً لا يقل صعوبة، يتقرر على أساسه مستقبلها السياسي. لم تكن من الذين صوّتوا لـ«بريكست»، غير أن مهمتها الرئيسية عندما تولّت رئاسة الحكومة عقب استقالة ديفيد كاميرون تكاد تتلخص في تنظيم الخروج من الاتحاد الأوروبي. كانت تلك مهمة شبه مستحيلة، بالنظر إلى عمق الأزمة الداخلية في بريطانيا. توصّلت إلى مسوّدة اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، بعد مفاوضات مضنية رأت فيها حلاً واقعياً، وأن الخروج بلا اتفاق سوف تكون كلفته باهظة على الاقتصاد البريطاني.
عندما تبدّى لها أن الأغلبية الساحقة في «مجلس العموم» ترفض ما توصلت إليه، أجّلت التصويت إلى وقت لاحق. شابت الجلسة التي أعلنت فيها التأجيل حالة فوضى في التصرفات، حتى إن نائباً اختطف الصولجان الملكي من مكانه، وهو ما لم يحدث من قبل. هناك نحو 100 نائب من حزبها يعارضون الاتفاق الذي وقّعته، وعدد يعتد به منهم بدأ اتخاذ إجراءات عزلها. ليست لديها فرصة كبيرة للمناورة، فالاتحاد الأوروبي أبدى عدم استعداده لإدخال أي تعديلات على الاتفاق، فهو «الوحيد الممكن».
أقصى ما تستطيع الحصول عليه من تنازلات أن يتضمن الإعلان السياسي غير الملزم قانونياً بعض الفقرات التي تطمئن منتقديها حول العلاقة المستقبلية بين الطرفين. وفق حساباتها، إن مغادرة الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق كارثة محققة تقلص من حجم الناتج القومي الإجمالي وتهزّ مكانة لندن كمركز مالي عالمي، كما أن إجراء انتخابات عامة جديدة غير مضمونة العواقب، والإقدام على استفتاء ثانٍ، كما يقترح بعض أركان حزبها، مغامرة بوحدة الحزب نفسه.
تؤكد استفتاءات الرأي العام أن غالبية المواطنين الآن مع البقاء في الاتحاد الأوروبي، غير أنه شبه مستبعد بالنظر إلى الانقسام الحاد في المجتمع البريطاني، حتى داخل الحزب الواحد. الأحزاب التقليدية الكبرى اهتزت في بريطانيا كما فرنسا، واليمين الشعبوي يتغذى على الأزمات. أزمة «بريكست» تعبير عن أزمة هوية واختيارات كبرى، أين مستقبلنا: داخل أوروبا أم خارجها؟ السؤال ملغم والانقسام يضرب المجتمع كله.
يكفي مثالاً ما ينطوي عليه وضع أيرلندا الشمالية في مسودة الاتفاق من تعقيدات، فإذا ما تمتعت بحرية الانتقال وفق قواعد الاتحاد الأوروبي، فإنها استثناء يخلّ بوحدة المملكة المتحدة، وإذا ما حرمت اتصالها بأيرلندا الجنوبية، فإن انفصالها مسألة وقت. ويكفي مثالاً أن هناك 3 ملايين بريطاني يعملون في الاتحاد الأوروبي، وحركة القطارات بين باريس ولندن أكبر من مثيلتها بين القاهرة والإسكندرية، بتعبير خبير اقتصادي يتابع الملف من العاصمة البريطانية.
أزمة «بريكست» مثل احتجاجات «السترات الصفراء»، أكبر مما هو ظاهر على السطح، وأخطر من مصير رئاستي ماكرون وماي.
* كاتب وصحافي مصري
الاخبار اللبنانية