السيمر / الخميس 24 . 01 . 2019
جعفر البكلي / تونس
لن يدري أحدٌ ماذا دار في خلد ملك المغرب، وهو قابعٌ في مراحيض قصره ينتظر، في كل لحظة، أن يدهم أعداؤه مخبأه، ويقتادوه إلى ساحة الإعدام. أتراه فكّر في شكل الميتة البائسة التي تنتظره على أيدي أولئك الجنود المتمردين الذين يسمع أزيز رصاصهم يفتك بكل من يتحرك في قصر الصخيرات؟!
أم تراه تذكّر وجوه ملوك، وسلاطين، وأمراء للمؤمنين سبقوه إلى حتف ذليل مهين، بعد حياة قضوها في أبهة وعُتُو وتيه؟! أو لعلّ الحسن، وهو يرتقب منيّته، استذكر يوماً قديماً راقب فيه وجه أبيه الشاحب، وهو يموت موتاً بطيئاً مخدَّراً، فوق طاولة عمليات، أعِدّت على عجل لإجراء جراحة ٍفي الأنف، في عيادة القصر.
أتراه تفكّر في تلك الإرادة الشريرة التي منعت عن المريض استدعاء طبيب مختص في التخدير، وآخر يتدارك أزمات قلبه، ثم حجبت عن الملك أكياس الدم؛ فمات محمد الخامس «حتف أنفه»؟!… فجأة، قُرِع باب المراحيض الملكية، فذُعِر الحسن وارتعب، وجال ببصره في رفاقه الذين اختبأوا معه في تلك الحمّامات، كأنه يسألهم ماذا عليه أن يفعل؟ كان أحمد العراقي، الوزير الأول المغربي، يرتعد من الخوف، أما الوزيران أحمد العلوي وأحمد السنوسي فقد خانتهما أرجلهما، فقرفصا على الأرض ينتظران المصير المشؤوم، وهما يتصبّبان عرقاً. وأخذ أحمد بلافريج، مبعوث الملك وممثله الشخصي، يتمتم بآيات قرآنية. وحده الجنرال أوفقير، وزير الداخلية، تمالك أعصابه، واقترب من الباب، وعرّجه ليرى من الذي يقف وراءه. كان الطارق هو الجنرال محمد المذبوح، قائد الحرس الملكي، والمسؤول عن أمن الحسن الثاني. دخل المذبوح، وقد بدت عليه علامات التوتر، فخاطبه الملك، بالفرنسية، قائلاً: «مدبوح، ما هذا الذي يجري في الخارج؟ من هؤلاء؟». أجابه المذبوح باللغة نفسها التي يستعملها رجال البلاط المغربي في محادثاتهم اليومية: «إنهم جنود اعبابو، يا صاحب الجلالة. لقد حاصرنا من كل مكان. واتخذ الضيوف رهائن. وهو يبحث عنك». قال الملك بانفعال: «ماذا يريد هذا الخائن؟». أجاب المذبوح بتسليم: «رؤوسنا أصبحت في يده، وأقترح أن نتفاوض معه». سكت الحسن، وتهيّب الحاضرون الموقف المؤلم الذي وجد مليكهم نفسه فيه، فأطبق على وجوههم الوجوم. قطع المذبوح الصمت قائلاً: «أنا أعرف اعبابو. وأنت أيضاً تعرفه، يا صاحب الجلالة، مذ كان مرافقاً لشقيقكم مولاي عبد الله. وأظن أنّنا نستطيع معاً التأثير عليه». صمت المذبوح، ثم أضاف قائلاً: «يجب أن ننجح، على الأقل، في ضمان سلامتكم، وسلامة أفراد العائلة الشريفة من الأذى». سكت الجنرال ثانية، تاركاً للملك التفكير في كلماته، فلمّا وجد سيده يطيل السكوت، قال له: «إنني أريدك، يا مولاي، أن تساعدني، لكي نجتاز هذه المحنة بسلام». سأل الملك مخاطبه، قائلاً: «ماذا تقترح بالضبط؟». أجاب الجنرال، وعيناه تلمعان بالمكر: «أقترح أن تقابله بنفسك، وتتفاهم معه». قطّب الملك حاجبيه، وقد بدا عليه جزع، وقال: «أين أقابله؟! ألا تسمع دويّ الرصاص الذي لا يتوقف في الخارج. اذهب أنت إليه، وأقنعه بأن يتعقل. وإذا وجدت أنه يستجيب لك، ادعه عند ذلك لمقابلتي». سكت الملك برهة، ثم أضاف: «ادعه إليّ وحده، ومجرّداً من السلاح. لن أتفاوض معه، ومسدسه فوق رأسي». هزّ المذبوح رأسه علامة التفهم، ثم سأل سيّده: «هل أطمئنه بأنك ستعفو عنه، إن هو عاد إلى رشده؟». تمتم الملك متهكماً: «العفو! لم نعد في الوضع الذي نحن فيه نعفو!».
«يوليوس آخر»
لم يكن الحسن الثاني يدري بأنّ الجنرال المذبوح يخاتله. ولم يجل بباله أبداً أنّ المذبوح هو العقل المدبّر للانقلاب الذي ينفذه الآن الكولونيل امحمد اعبابو. وظنّ الحسن بأنّ المذبوح ــــ وهو مدير مكتبه العسكري، ومرافقه الشخصي، ومستودع أسراره، وأحد أقرب المقربين إليه ــــ لا يمكنه أن يغدر به. بيد أنّ الجنرال، لم يزده قربه من الحسن إلا نفوراً منه، وكراهة له، وغيظاً من سياسته. لقد شهد استهتار الملك وتهتُكه، وخبر جشعه وطمعه (1)، ورأى رذائله وفساده، وجرّب صلفه وكِبره، وامتحن قلة صبره وضعف بلائه، وسبر أغوار نفسه وسوء سريرته، وعجم عوده وعرف معدنه، فوجد ــــ بعد كل ذلك ــــ أنّ المملكة لا ينصلح حالها مع بقاء هذا المليك. وكلما مرّت السنون، تفشّت قبائح الحسن وبشاعته، وازداد وضع البلاد انتكاساً. على أنّ الجنرال، وقد وعى بأنّ المغرب يحتاج انقلاباً ليستقيم حاله، ويعتدل اعوجاجه، لم يشأ لانقلابه أن يصطبغ بالدم، ويتلوّث بالخطايا.
وأراد المذبوح للانقلاب على الحسن الثاني أن يكون أبيض، على غرار ما جرى، من قبل، ضد فاروق، في يوم من أيام يوليو آخر. وفكّر الجنرال في نفي الملك، وأفراد أسرته العلوية من البلاد، وترحيلهم إلى أوروبا على ظهر يخت، يشبه يخت «المحروسة». وبذلك يكون قد حافظ على شكل من اللياقة، وبقية من الكرامة، ومظهر من مظاهر التقاليد. وظنّ المذبوح بأنّ بمقدوره أن يحصّل تنازلاً من الملك عن عرشه، إن هو حصره، وضيّق عليه، وأحاط به الجنود، وأفقده خياراته. ثم، من بعد استسلام الملك، يشكل قيادة عسكرية يرأسها هو، ويحكم بها المغرب بأسلوب يجمع بين الحزم والكفاءة والنزاهة.
كان الجنرال المذبوح عسكرياً سليل أسرة عسكرية ثرية وعريقة. ولقد شهد كثيرون للرجل بأنه يتمتع بحسّ وطني محب للمغرب، رغم خدمته السابقة في الجيش الفرنسي، ورغم تلطخ سمعة أبيه الذي قُتِل ذبحاً، بعد مشاركته في حرب المارشال الفرنسي هوبير ليوطي ضد محمد بن عبد الكريم الخطابي. وعُرِف عن المذبوح أيضاً أنه نزيه، ونظيف الكف، وواسع الثقافة، ومحب للفنون، ومغرم بالتاريخ. ولشد ما أبدى الجنرال إعجابه بشخصية يوليوس قيصر الذي أنقذ روما من حكم الأوليغارشيا الفاسدة، كان على «يوليوس المغربي» أن يحسم أمره سريعاً، إن هو أراد تقليد مثله الأعلى، وأن «يعبر نهر الروبيكون»، ويطهّر عاصمة بلاده من دنس زمرة الخونة والمفسدين. وخطّط الجنرال المذبوح مجموعة من الخطط لإزاحة الملك. ثم استقر رأيه على خطة بسيطة ومحكمة، فما عليه إلا أن يغتنم فرصة وجود كامل أفراد النخبة السياسية والاجتماعية والعسكرية، في قصر الصخيرات، بمناسبة حفلة عيد ميلاد الملك، في يوم العاشر من تموز/ يوليو 1971، فيقبض على الجميع دفعة واحدة، وبعد ذلك يغربل الحنطة، ويصفّي منها الزؤان. وأغرت فرصة «تكدّس كل البيض في نفس السلة» الجنرال ليضرب ضربته القاصمة. لكنّه كان يحتاج إلى فوج من الجنود الغلاظ الشِّداد الذين لا يعصون، ويفعلون ما يؤمرون. وقدّر المذبوح أن عليه أن يتدبّر هذا الأمر بسرعة، فإذا توفر له أولئك الجنود، سهل بعد ذلك أن يحصر بهم القصر، ويقلب بواسطتهم نظام الحكم.
«نابليون الصغير»
كاشف المذبوح بعض خلصائه بما نواه، فأرشدوه إلى من يجد عنده طلبته: إنه المقدم إمحمد أعبابو مدير المدرسة العسكرية «اهرمومو»، والمسؤول عن تخريج دفعات جنود المشاة في القوات المسلحة الملكية. بدا الكولونيل اعبابو شريكاً تنطبق فيه جميع الشروط والمواصفات التي يبحث عنها الجنرال محمد المذبوح. فهو رجل مقدام، وجريء، وذكي، وطموح. وهو ضابط ترقى بفضل مواهبه القيادية ومهاراته التنظيمية حتى أصبح أصغر كولونيل يحصل على هذه الرتبة في الجيش المغربي. والأهم هو أنّ اعبابو قائد كاريزماتي يسيطر على الضباط وضباط الصف في مدرسة اهرمومو سيطرة مطلقة، ويطيعه رجاله طاعة عمياء. وفضلاً عن كل ما سبق، فإنّ اعبابو ينتمي مثل المذبوح إلى منطقة الريف. بل إنهما أصيلا قريتين متجاورتين، فبورد لا تبعد عن أكنول إلا كيلومترات. وللمذبوح دالة سابقة على اعبابو، وكثيراً ما حباه بعطفه ورعايته. وبالفعل، عرض الجنرال خطته على الكولونيل، فلم يخيّب الأخير الظنّ فيه. بل وجد المذبوح في اعبابو همّة، وجسارة، وحماسة، وحميّة أثارت إعجابه.
كان اعبابو رجلاً من طينة عجيبة، أحبَّه جنوده بقدر ما تهيّبوه، وتعلّقوا به بقدر ما خافوه، وأعجبوا بقوته بقدر ما كرهوا قسوته. ولم يكن اعبابو يبدو جبّاراً في شكله، فهو قصير القامة، ضئيل الجسم، فاتح البشرة، حاد الصوت، عصبي المزاج. بيد أنه أظهر دائماً حيوية، وسعة خيال، وقوة شكيمة، وثبات عزم. ولأجل كل تلك الصفات سمّاه أصدقاؤه المقربون «نابليون الصغير». وطابت التسمية للكولونيل، فأخذ يقلد بونابرت حتى في طريقة إدخاله لأصابعه بين أزرار سترته. وحينما عرض عليه الجنرال المذبوح تفاصيل المهمة الخطيرة، في قصر الصخيرات، لم يتردد اعبابو في الموافقة. لكنه أزمع في نفسه أمراً غير الذي أضمره الجنرال في خطته. إنّ «نابليون الصغير» لم يرَ فائدة في تقليد ما فعله رفاق عبد الناصر مع فاروق، وفضّل أن يطبّق على الحسن ما صنعه رفاق روبسبيير مع لويس السادس عشر. وكذلك، قرّر اعبابو أن الثورة لا تستحق اسمها إذا هي لم تقطف الرؤوس، وتحفر الرُّموس لأعدائها.
جلالة سيدنا ــ نصره الله ــ ومجلس وزرائه
فجأة، وفي الساعة الثانية وثماني دقائق من بعد ظهر يوم السبت 10 تموز/ يوليو 1971، انهمر الرصاص، من كل جانب، على قصر الصخيرات الملكي. وأخِذ، على حين غرّة، قرابة ثمانمئة مدعو من صفوة القوم الذين ازدحم بهم القصر، واختارهم «جلالته» بنفسه ضيوفاً مبجّلين على موائده العامرة، في حفلة عيد ميلاده السعيد. ووجد الضيوف أنفسهم مطوقين، من الاتجاهات الأربعة، بجنود يشهرون عليهم الأسلحة، ويطلقون صوبهم النار. ذعر «أصحاب السوالف والقجوج» ــــ كما يسميهم المغاربة تهكماً، وسخرية من تهتكهم وتخنثهم، ومن شعورهم الطويلة المسدلة على أكتافهم. وأخذ الأمراء، والوزراء، والسفراء، والإقطاعيون، والبورجوازيون، والضباط السامون، والمطربون، والعازفون، والطباخون، والخدم، و«عبيد العافية» كلهم يجرون فارين لا يدرون إلى أين، ولا يلوون على شيء! وطاردهم ألف وأربعمئة من تلاميذ مدرسة أهرمومو العسكرية، من ذوي الرؤوس الحليقة، لاعنين شرفهم، ورجولتهم.
كان الحسن أوّل من فرّ من القوم. ترك قطعة لانكوست ضخمة كان يقضمها، وهرول نحو قاعة العرش وراءه. فلما لم يجد فيها مخبئاً يقيه، مضى بين الأروقة حتى وصل إلى حجرات تبديل الملابس الخاصة بخدم مكلفين بتنظيف المسبح. وهناك نزع الحسن قميصه الحريري البني اللون، وسرواله «السومون»، وأبدلهما بملابس خادم، آملاً أن ينجيه ذلك التنكر، ويجنّبه خطر القبض عليه. بعد ذلك، هرول الملك صوب أحد الحمّامات الجانبية الملحقة بالمسبح، واختبأ في واحد من المراحيض. ولم يلبث الحسن، في ذلك المكان، وحيداً. وسريعاً ما التحق به بعض الفارين من رصاص المسلحين. كان أوّل الوافدين إلى جوار الملك، الجواهري الفرنسي الشهير جاك شوميه، وكان الحسن يستحسن أعمال محالّه الباريسية، ويقتني لمحظياته منها أجمل القطع. ثم وصل، بعد شوميه، وزير السياحة مولاي أحمد العلوي (وهو من أبناء عمومة الملك). وبعد العلوي، وصل أوفقير. كان وزير الداخلية الرهيب عارياً، لا يستر جسمه إلا تبان قصيرٍ، ويحمل في يده سرواله وقميصه. لا عجب، فقد كان يعوم في المسبح لحظة لعلع الرصاص، وسريعاً ما ارتدى أوفقير ملابسه. ثم أتى وزير الإعلام أحمد السنوسي، وكان خائفاً مرتعشاً. وجاء، من بعده، الطبيبان الفرنسيان دي جين وتورين. وأخيراً التحق بالموكب اثنان من رؤساء وزارات المغرب هما: أحمد العراقي، وأحمد بلافريج. وكان الأخير رجلاً محترماً من قادة «حزب الاستقلال»، ومن زعماء الحركة الوطنية المغربية، غير أنه، في ذلك الموقف العصيب، فقد السيطرة على أعصابه تماماً، فأخذ يهذي بكلمات غير مفهومة ومشوشة، ثم طفق يناجي الله مناجاة لا تنتهي. وأمّا السنوسي فأصابه عارض إسهال معوي، واضطر إلى الإسراع، أكثر من مرة، إلى أحد المراحيض ليفرغ ما في جوفه. وحينما ضغط الوزير على طرادة المياه، فأحدثت صوتاً، نالته من الملك شتيمة من العيار الثقيل.
«الويل له!»
مضى الجنرال المذبوح يبحث بصعوبة عن شريكه اعبابو، وسط أزيز الرصاص، والفوضى الدامية التي أحدثها جنود اهرمومو في قصر الصخيرات. وساء المذبوح مخالفة اعبابو لما أمره به، وإطلاقه العنان للعساكر، وجعلهم يخوضون في سيل من الدماء. لكنه سريعاً ما أدرك أنه صار بلا حول ولا قوة، في اللحظة عينها التي خطط طويلاً لكي يكون فيها سيّد الموقف! لا أحد من الجنود الذين افترض أنهم سيكونون تحت إمرته، يلتفت لكلماته الزاجرة، أو يستمع إلى أوامره الناهية. إنهم اليوم جنود اعبابو، وحسب. واعبابو، وحده، هو سيد الساحة. أسقِط في يد الجنرال، وأخذ يبحث عن اعبابو، في كل مكان، حتى وجده أخيراً على أطراف ملعب الغولف الملكي. كان الكولونيل يعاني من رصاصة صوّبها أحد حراس القصر إلى كتفه، لكنه لم يعبأ كثيراً بألمها، وواصل توجيه أوامره إلى الجنود لكي يسدّوا المنافذ على كل من في داخل القصر، وأن يطلقوا نيران رشاشاتهم الخفيفة على الذين يسعون للفرار. ونفّذ الجنود أوامر قائدهم بحماسة.
صاح الجنرال المذبوح في شريكه قائلاً باللغة الفرنسية: «ماذا فعلت يا اعبابو؟! أنت لم تحترم اتفاقنا» (2). أجاب الكولونيل بهدوء: «أنا أتممت ما عليّ، وأنت عليك الآن أن تتمّ ما عليك». هتف الجنرال غاضباً: «أوقف حالاً هذه الفانتازيا. لقد أمرتك من قبل بأن لا تطلق أي رصاصة، مهما حدث». ابتسم اعبابو ساخراً، وقال بلغة شطرها عربي، والآخر فرنسي: «مون جنرال، هذا نهار كبير. ورجالي يحتفلون، أليس هذا هو يوم الاحتفال؟!». ردّ الجنرال ساخطاً، وباللغة الفرنسية التي لا يتحدث إلا بها: «هذا حمام دم. لقد لطّختَ يدي». توتر اعبابو، وقال باللهجة الدارجة: «اللي كان كان». ثم سأل اعبابو: «دابا فين هو؟!» (يقصد الملك). رد المذبوح: «إنه في مكان آمن. وهو يريد رؤيتك للحديث معك». وسأله اعبابو: «هل تنازل، يا جنرال؟». ردّ المذبوح دون تفكير: «نعم». ثم استدرك قائلاً: «تنازله في جيبي. الآن لنذهب للقائه». تردد اعبابو، وقال: «لكن إن هو استسلم، فلماذا علينا أن نذهب لرؤيته؟! من الأفضل الآن أن ننتقل إلى المرحلة الثالثة». ألحَّ الجنرال على وجوب لقاء الملك، وأن يكون ذلك رأساً لرأس، وبلا سلاح. داخل اعبابو الارتياب في نيات شريكه، فقال: «إذا كان عليّ أن أذهب إليه. فسألتقيه بمعية رجالي». توتر المذبوح، وهتف: «كلا. نذهب إليه وحدنا، وبلا سلاح، ويبقى رجالك في الخارج». زادت الريبة والوساوس في رأس اعبابو. «أتراها مكيدة، يدبرها له هذا المذبوح». تظاهر اعبابو بالموافقة، وتقدم خطوات نحو مدخل القصر. ثم التفت إلى رجاله، وغمزهم بطرف عينه، مشيراً عليهم بأن يتبعوه. مشى الجنود بين أروقة قاعة العرش، خلف اعبابو الذي كان يتتبع بدوره المذبوح. وفجأة التفت الجنرال إلى الجنود، وأمرهم بصوت حازم: «فتشوا في كل مكان، وأخرجوا الجميع. لا تدعوا أحداً في الداخل». ثم رمق اعبابو، وقال له: «إنه في مكان ما. تعال معي لنبحث عنه». رنّ ناقوس الشك من جديد في رأس امحمد اعبابو. توقف الكولونيل عن السير، وخاطب جنراله قائلاً: «مون جنرال، حسب ما أفهم من كلامك، فأنت لم تقم بتقييده. لقد وعدتني بأنني سأجده موثوقاً. إذاً هذه المرحلة لم تكتمل. وقد خنتني». ردّ الجنرال بعنف على هذا الكلام الأرعن الذي يتلفظ به مرؤوسه: «ماذا تقول؟! أنت هو الخائن لأنك لم تلتزم بالأوامر، وأفسدت الخطة. لقد جعلت من انقلاب أبيض حمّام دم!». غلى الدم في رأس اعبابو، فالتفت إلى جنديين بجواره، وأمرهما بإطلاق النار على المذبوح. سقط «يوليوس» الذي لم يسعفه القدر لكي يصير قيصراً مضرجاً بدمائه. هزّ اعبابو كتفيه بلامبالاة، وتمتم قائلاً: «خانني خمسين بالمئة، ودفع الثمن مئة بالمئة». ثم التفت إلى مجموعة من جنوده، وخاطبهم قائلاً: «هذا المكان عليكم أن تطوقوه من كل جانب، ولا تتركوا أحداً يخرج منه أبداً. ابقوا هنا، وسأعود إليكم بعد قليل».
لقد علم اعبابو الآن أين يختبئ الحسن. لقد صار الملك في قبضة يده. والويل له! الويل له!
(يتبع)
الهوامش:
(1) كانت المسألة التي طفح فيها الكيل عند الجنرال المذبوح، فعزم بعدها على أن يقوم بانقلاب، تتعلق بقضية فساد تورط فيها الحسن وزمرته، ولم يبالِ العاهل المغربي بالنصيحة التي قدّمها له كي يضع حدّاً للفضيحة، ويضرب بقوة على أيدي الفاسدين. بدأت القصة التي أثارت سخط المذبوح بكلمات أسرّها له سيناتور ولاية كاليفورنيا جون توني، في نيسان 1971. وأراد توني أن يحثّ مساعد الملك لينبّه سيده إلى استياء الأميركيين من الفساد الذي يغرق فيه حكمه. وبحسب ما أورده الصحافي جون بيار جولان، في مجلة «Nouvel Observateur» الفرنسية (عدد 349، بتاريخ 19 تموز 1971)، ودوّنه أيضاً الكاتب الفرنسي جيل بيرو، في كتابه «صديقنا الملك» (ص. 136)، فإنّ السيناتور الأميركي تحدث مع المذبوح هازئاً، وهما يلعبان الغولف، فقال له: «لقد خبرنا الفساد في بلدان العالم الثالث جيداً، لكن ما وجدناه في المغرب مريع إلى حد التقزز». وأحسّ الجنرال المغربي بالإهانة، فغضب، وأراد توضيحاً لما ساقه النائب الأميركي من تهم لبلاده. عند ذلك، أخبر السيناتور ضيفه المغربي بأمثولة حصلت، في المغرب، مع شركة «بانام». فقد أرادت شركة الطيران الأميركية أن تبني فندقاً في موقع استراتيجي في الدار البيضاء، على أنقاض ثكنة عسكرية قديمة بناها الفرنسيون. وعرض الوسيط المغربي عمر بن مسعود على المستثمرين الأميركيين ثمناً بخساً لقطعة الأرض التي يراد إقامة المشروع فوقها، وقدّرها المغربي بخمسة دولارات للمتر المربع الواحد. فابتهج مسؤولو «بانام» لهذا الحظ السعيد. بيد أنّ ابن مسعود سرعان ما أوضح للشارين أنّ عليهم أن يحوّلوا المبلغ الفارق بين قيمة الأرض الحقيقية، وقيمتها الرسمية إلى حسابات عدد من الوزراء، وأفراد الأسرة المالكة في بنوك أميركا. وبلغت الحماقة بابن مسعود حدّاً جعله يكتب هذا المطلب خطياً، ويسلّمه إلى الأميركيين.
(2) روى محمد الرايس، وهو عسكري شارك في أحداث قصر الصخيرات، وقائع الحوار الأخير الذي دار بين الكولونيل اعبابو والجنرال المذبوح. وكان الرايس شاهد عيان على تلك الملاسنة التي انتهت بمقتل المذبوح. انظر الصفحات من 29 إلى 31، من مذكرات محمد الرايس «من الصخيرات إلى تازمامارت: تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم» (دار النشر المغربية، الطبعة الأولى، 2000)
*كاتب عربي
الاخبار اللبنانية