السيمر / فيينا / الثلاثاء 31 . 12 . 2019
محمد جواد الميالي
السلام السياسي هو أساس بناء المجتمعات المتطورة، العراق للأسف لم يعرف معنى السلام السياسي ولا حتى المجتمعي، منذ أنتهاء حقبة الإحتلال البريطاني.
الملكية إنتهت بإنقلاب عسكري تبعه إغتيال لعبد الكريم قاسم، لم ننتظر طويلاً حتى جاء بعدهم الدكتاتور صدام.. هذا التنقل يؤثر على النسيج الفكري للمجتمع العراقي، الذي عاش فراغاً معرفياً من حقبة الملك فيصل لحين تولي صدام السلطة، عندها أستقر على مبدأ الدكتاتورية الطاغية، التي أخذت أكلها في عقول الشعب.
ثلاثون عاماً كافية لتجعل أنظمة البعث تجد طريقها سالكا في عقول الأغلبية، ومن يتوقع أن سقوط الطاغية قد قضى على بودقة البعث، فهو واهم، لأن البعث مازال ينبض في عقول البعض.
التجربة الديمقراطية بعد 2003 هي تجربة عرجاء، لأن نظام القتل والأستبداد الذي زرعه البعث مازال حياً في العراق، لذلك واجهنا طائفية حركتها أجندات خارجية، لكن الحقيقة أن المنفذين هم أبناء الوطن.. شبه الإستقرار الذي تحقق بعد حكومة 2010، قد فرضه القانون رغم ضعفه، لكنه حقق بعض من السلام المجتمعي.
كذلك كان دور المرجعية كبير في هذا السلام، ولا ننسى أزدهار التعليم في العراق، وكثرة الجامعات فيها، كل هذا كان قريب من أن يقضي على صبغة العنف في أدمغة البعض، لكن مخططات الحروب كانت تسير من تحت أقدام الساسة..
الحرب ضد داعش من جهة، وتفاقم الفساد في دهاليز المؤسسات الحكومية من جهة أخرى، قد سبب إنهيار الإقتصاد العراقي، وعندما ينهار الإقتصاد تنهار معه الأخلاق.. وهذا هو ما أستغلته الأيادي الخارجية، التي بدأت بتسقيط مرتكزات الدولة، فبدأت بنعت قوى الحشد بالذيول، ومن يتبع المرجعية فهو رجعي! عندها أصبح شعارنا نعم لتجهيل الأجيال بغلق المؤسسات التعليمية..
كل هذا جعلنا ندخل تحت غطاء العقل الجمعي، والذي يدخل فيه يصبح مسير لا مخير، حيث الكل يذوب في اللاوعي العنصري، ويصبح لهذا الجمع وعياً عنفياً تحركه خيوط خارج القطيع، وأمثلتها ماحدث في الناصرية، من تجمهر العديد من العراقيين! لقتل والتمثيل بجثة أحد قيادي الحشد، مع هتافات الفرح وأهازيج الإنتصار؟!
كذلك ماحدث في ساحة الوثبة، عندما سحلوا جثة الطفل ذو السبعة عشر ربيعاً، بعد أن أوغلوا بصدره الطعنات، ثم علقوه على عمود الإنارة، لكن ما يستغرب هو موقف الجمهور الذي كان يشاهد ويصور ما يحدث لهذا الذبيح!!
كل هذا القتل تم على أيدي عراقية، ولا يمكن القول أن هناك مندسين، فالتجمهر حول المقتول كان بالمئات! فهل كلهم مندسين؟ بالطبع لا.. لأن الذي يحدث هو بفعل هستيريا الجماهير، التي تبين حقيقة القطيع داخل العقل الجمعي، وتطلق العنان للعنف، ليأخذ الحيز الكامل في قيادة الرعية.
ما يحدث اليوم من عدم تقبل الآراء وإقصاء الأخر، هو تمزق للنسيج المجتمعي، وأنحلال للوحدة الوطنية، التي تسير بنا نحو دائرة اللئام، وتذهب بالأعراف والقوانين، ويتبخر فيها الخير، ويتحول كل شيء إلى غابة.. تنعدم فيها الأخلاق
يستطيع الأنسان أن يتعايش في أي مجتمع فيه بعض النقص الغذائي، الإقتصادي الترفيهي.. لكن تصبح الحياة شبه مستحيلة، في ظل أنعدام الوعي والقيم الأخلاقية..