السيمر/ فيينا / الاربعاء 27 . 05 . 2020
شارل ابي نادر / لبنان
السلوك الأميركي المشبوه اليوم في العراق، والذي ساهم، لا بل أسَّس لإعادة ظهور داعش وبقوة، يمكن استنتاجه من خلال غض النظر عن تحركات عملانية وتحضيرات لوجستية للتنظيم.
لقد بات واضحاً أنَّ المناورة بالتنظيم الإرهابي داعش منذ نشوئه في العراق في العام 2014، أو بالأحرى والأصح منذ بداية إنشائه، لم يكن هدفها الأساس إنشاء “دولة إسلامية” في العراق وسوريا، بل كانت هذه “الدولة” وسيلة لاستهداف عدة دول في المنطقة، مع تركيز أساسي على العراق في الدرجة الأولى، وتليه سوريا في الدرجة الثانية.
وبعد أن كان قد تم إعلان الانتصار على التنظيم في بقعتي الهدف، الأولى العراق، والثانية سوريا، حيث جاء الإعلان الأخير زمنياً من قبل قوات سوريا الديموقراطية المدعومة من الولايات المتحدة بتاريخ 23 آذار/مارس 2019، بأنها ألحقت الهزيمة النهائية بما يسمى “تنظيم الدولة الإسلامية” في آخر جيب له في الباغوز في شرق سوريا، ها نحن اليوم نشهد ما يشبه انبعاث داعش من جديد، وأيضاً في كل من العراق وسوريا.
في الواقع، ارتكزت عملية محاربة داعش فعلياً على جبهة أخرى، مختلفة بالكامل عن جبهة التحالف الأميركي. هذه الجبهة التي تشكَّلت من إيران عبر دعمها الواسع بشكل مباشر وغير مباشر للدولتين العراقية والسورية، ومن الدولة العراقية بأجهزتها الأمنية والعسكرية، وبالحشد الشعبي، ومن الدولة السورية مع حلفائها الروس وحزب الله، هي الجبهة المستهدفة حقيقة من خلق داعش وإطلاقه ودعمه، وهي التي تعاني اليوم أمنياً وسياسياً واقتصادياً من عدم القضاء نهائياً على داعش.
ما هو لافت اليوم أنَّ التحالف الدولي الغربي، بقيادة واشنطن، مع قوات سوريا الديموقراطية، والذي ادعى محاربة داعش والانتصار عليه، ما زال ينتشر ويملك التواجد والنفوذ نفسهما قبل الإعلان عن هزيمة التنظيم، وهو أيضاً يعمل جاهداً، وبالوسائل كافة، على تثبيت هذا النفوذ وتقويته في شرق سوريا، وتحديداً شرق الفرات، وفي العراق من خلال انتشار واسع ومشبوه لقواعد أميركية، جوية وبرية، ومن خلال السعي الدائم للتدخل المتواصل، لتوتير الساحة العراقية سياسياً وأمنياً واقتصادياً، بهدف إضعاف قرار السلطة وتشتيتها خدمة لبقاء قواته وقواعده.
فكيف يمكن تفسير ذلك؟ وما هي حقيقة دور واشنطن وأهدافها في هذا الظهور اللافت لداعش مؤخراً، في الوقت الذي بنى الأميركيون تواجدهم في كل من العراق وسوريا، وأعطوه التبرير والشرعية، استناداً إلى ادعائهم محاربة التنظيم؟
يتركَّز الحراك الجديد لداعش في سوريا شرق الفرات من خلال عدة أشكال، أولاً ضمن جيوب منتشرة ومبعثرة لم يُسمح لقوات سوريا الديموقراطية بحسمها بشكل نهائي، بحجج تقوم على حماية خصوصية المكون العربي، تحضيراً ربما لتكليفه بدور معين لاحقاً. وثانياً من خلال حركة فرار واسعة وغريبة لعناصره من سجون قوات سوريا الديموقراطية، وبالآلاف، إضافة إلى حركة نقل مشبوهة لبعض هؤلاء باتجاه الداخل العراقي بطوافات أو آليات أميركية، وأيضاً هناك تواجد متواضع لبعض عناصر التنظيم في عمق البادية بين جنوب غرب دير الزر وجنوب شرق السخنة، تحت طابع العصابات المختبئة في المغاور والمناطق الوعرة من البادية.
في سوريا، لم تكن أهداف واشنطن مشابهة لأهدافها في العراق، لناحية تثبيت وجودها بشكل دائم، والدليل أن عدد وحداتها لم يتجاوز حتى اليوم ألفي عنصر وضابط في الحد الأقصى، على الرغم من قدرتها على زيادة العدد، كما تريد، وساعة تريد، عبر عشرات القواعد الجوية التي تنشرها في سوريا، ولكن من المؤكد أن لديها فيها أكثر من هدف استراتيجي، يتعلق بإضعاف محور المقاومة، وبمنع إكمال الترابط الميداني والجغرافي بين طهران وبيروت عبر العراق وسوريا وعرقلته، إنما، وبشكل عام، كانت، وما زالت، أهداف واشنطن في سوريا تقوم على:
- عرقلة ومنع تمدد الدولة السورية لسيطرتها شرقاً، وتحرير كامل جغرافيتها حتى الحدود مع العراق.
- منع الدولة السورية من الاستفادة من ثرواتها في النفط والغاز، والتي تتركز أغلب مواقعها وأهمها في الحقول السورية شرق الفرات.
- السهر الدائم على منع أي تقارب بين كرد شرق الفرات والدولة السورية.
- المحافظة على تواجد استراتيجي متعلق بضبط التواصل الروسي التركي في الملف السوري وفرملته، إضافة إلى الإمساك بورقة للضغط على أنقرة، ومن خلال ارتباط واشنطن الميداني والأمني مع كرد شرق الفرات، عبر التهديد الدائم لها بإمكانية دعم إدارة ذاتية كردية شرق الفرات.
أما في العراق، فإن حراك داعش يأخذ طابعاً أكثر خطراً وفعالية من حراكه في سوريا، حيث يعاود الانتشار والتمركز وتنفيذ عمليات أكثر من محدودة ضد الجيش العراقي والحشد الشعبي، انطلاقاً من مثلث محافظات ديالا – كركوك – صلاح الدين، وتحديداً انطلاقاً من جبال حمرين وشمال قضاء الشرقاط، وحيث ما زال هناك تواجد غير بسيط للتنظيم شمال غرب الأنبار ما بين جنوب البعاج – سنجار وغرب الحضر، يعتبر التواجد الأخير، والذي هو تحت أعين القوات الأميركية المتواجدة في مطار سنجار، تواجداً غيرَ ناشط حالياً، على الرغم من بقعة انتشاره غير البسيطة جغرافياً، وعلى الرغم من حساسية تمركزه وأهميته على مقربة من الحدود السورية.
في الواقع، لم تتغير أهداف الأميركيين في العراق منذ غزوه في آذار/مارس من العام 2003 حتى اليوم، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بصراع النفوذ في الخليج، حيث يشكّل العراق الواجهة الشمالية الاستراتيجية للخليج، والرابط الجغرافي الإلزامي مع إيران، حيث المواجهة الأميركية الإقليمية الصاخبة ضد طهران، والتواجد الأميركي في العراق كان دائماً بهدف خلق نقطة ارتكاز رئيسة لهم تمركزاً وتواجداً وتأثيراً ونفوذاً.
هذا الهدف الاستراتيجي لواشنطن في العراق تم تأكيده في خلق عملية غزو العراق وتنفيذها، من خلال الادعاء الكاذب بامتلاكه حينها أسلحة الدمار الشامل، ولاحقاً بعد خلق داعش واستغلال ورقة محاربته للبقاء، وتجاوز المطالب العراقية الرسمية والشعبية بإنهاء الاحتلال الأميركي، وكان آخرها بيان البرلمان العراقي الذي أوصى الحكومة العراقية بإنهاء التواجد الأميركي بأسرع وقت ممكن. ومنذ تاريخه، لم تجتمع هذه الحكومة ولم تعمل بفعالية، وهي اليوم غير موجودة عملياً.
السلوك الأميركي المشبوه اليوم في العراق، والذي ساهم، لا بل أسَّس لإعادة ظهور داعش وبقوة، يمكن استنتاجه من خلال غض النظر عن تحركات عملانية وتحضيرات لوجستية للتنظيم، كان من المفترض أن يضبطها الأميركيون، أولاً لأنهم يدّعون تواجدهم ضمن متابعة محاربة داعش، وانتشارهم العسكري تم تركيبه وتثبيته في قواعد لها دور أمني أكثر منه عسكري، وخصوصاً شمال بغداد، وامتداداً إلى حدود كردستان العراق الجنوبية في كركوك وصلاح الدين.
ثانياً، يُفترض بهم ضبط حركة التنظيم، لكونهم يملكون القدرات الاستعلامية الأقوى في المراقبة الجوية مقارنة مع الجيش العراقي، وأيضاً من خلال المنظومة المخابراتية القوية التي يمتلكونها، والتي تحضن الكثير من عناصر داعش السابقين (الحاليين) ومن عناصر البشمركة، إضافةً إلى عدد كبير من العملاء المحليين المناهضين للحكومة والحشد الشعبي، تماماً كما كانوا يتحكمون، وضمن عناصر مناورتهم، في ضبط ورعاية وحماية انتقال داعش وتحركاته أثناء حرب الدولة العراقية ضده.
*عميد لبناني متقاعد
المصدر / الميادين