السيمر / فيينا / الجمعة 25 . 12 . 2020
د. مصطفى يوسف اللداوي
ليس دفاعاً عن الجريمة، ولا وقوفاً مع الباطل، ولا تأييداً للخطأ، ولا تحليلاً للحرام وتشريعاً للخيانة، فما وقعت فيه الحكومة المغربية ورئيسها جريمةٌ لا تغتفر، وكبيرةٌ لا يسكت عنها، وفعلٌ مدانٌ يجب أن يستنكر، وخطيئة فاحشة ينبغي أن تتوب عنها وتتبرأ منها، وخيانةٌ قوميةٌ وردةٌ إسلاميةٌ بكل المعايير القومية والدينية، وما كان لرجلٍ قضى جُلَ عمره محباً لفلسطين وأهلها، ومدافعاً عنها ومؤيداً لشعبها، ومضحياً في سبيلها ومتحدثاً باسمها، أن يسقط في حمأة الاعتراف، وأن يقبل بوبيئة الاستقبال، وأن يجلس إلى جانب المحتل الغاصب، ويقبل بالابتسام له ومصافحته، وهو الذي يدرك أن الاعتراف به كفرٌ وردةٌ، وأن الاجتماع معه خيانةٌ وتفريطٌ، والقبول بالتطبيع معه خذلانٌ للشعب الفلسطيني وتخلي عنه.
كما لا فرق هنا بين تطبيعٍ وآخر، وجريمةٍ وأخرى، فالاعتراف بالعدو خيانة، والتطبيع معه جريمة، واستقباله معرةٌ، والجلوس معه تنازل، والترحاب به مهانةٌ، والإصغاء إليه مذلة، والتوقيع معه هزيمةٌ وانكسارٌ، والاتفاق معه خزيٌ وخسارةٌ وآخرته حسرةٌ وندامةٌ، أياً كان مرتكب هذا الفعل الفاضح والسلوك الشائن، سواء كان إسلامياً أو قومياً، علمانياً أو متديناً، حزباً أو جماعةً، ملكاً أو رئيساً، ونحن أتباعُ نبيٍ كريمٍ ورسولٍ صادقٍ أمين، قال يوماً عليه الصلاة والسلام “أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَد، وَأيْمُ اللهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا”، فلا سكوت في ديننا على شريفٍ إذا أجرم، ولا صمت على عزيزٍ إن أخطأ، ولا دفاع عن حاكمٍ إن طَبَّعَ، ولا خوف من سلطانٍ إن خان وفرط.
لكن ما لا ينبغي أن ننساه أن جُلَّ الشعب المغربي بكل أحزابه ومكوناته، ونقاباته وتجمعاته، ونخبه وشخصياته، يرفضون التطبيع ويجرمونه، ويحبون الشعب الفلسطيني ويؤيدونه، ويعادون الاحتلال الإسرائيلي ويقاومونه، وفي المقدمة منهم أبناء حزب العدالة والتنمية الحاكم، وأتباع حركة التوحيد والإصلاح الأم، الذين لا يدخرون جهداً في الدفاع عن فلسطين ونصرتها، وتأييدها والوقوف معها، وقد هالهم جميعاً ما حدث، وأغضبهم كثيراً ما قامت به حكومتهم، فما سكتوا أبداً عما وقع، ولا دافعوا عمن صافح واستقبل، أو شارك ووقع، بل شجبوا واستنكروا، وأدانوا ورفضوا، واعتبروا أن ما حدث سقطة سياسية وجريمة قومية وخيانة دينية، ما كان لرئيس الحكومة أن يقدم عليها أو أن يقبل بها، وقد كان حرياً به أن يتأسى بنبي الله يوسف عليه السلام إذ قال “قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ”.
أقرأ على صفحات التواصل الاجتماعي المختلفة، ويصلني على حساباتي الشخصية، عشرات المساهمات المغربية الأصيلة، من عامتهم الصادقة ومن أتباع حزب العدالة والتنمية، ومن أبناء حركة التوحيد والإصلاح، ومن شبيبة الحزب الذين شاركتهم ملتقياتهم السنوية أكثر من مرةٍ، تدين ما حدث وترفضه، وتصب جام غضبها على الرجل الذي أحبته وأجلته، رغم أنها تعلم صدقه وإخلاصه، وصفاءه وشفافيته، ووضوحه وصراحته، وحبه لفلسطين ودفاعه عنها، إلا أنهم ما كانوا يتوقعون منه هذا الفعل، ولا كانوا يأملون منه هذا السلوك، بل كانوا يتوقعون منه إعلان البراءة من الجريمة، ورفض المشاركة فيها، ومقاطعة الوفد الصهيوني القادم والامتناع عن استقباله والترحاب به، بل كانوا يفضلون استقالته وحكومته، وتخليه عن منصبه وعودته إلى قاعدته الشعبية وحاضنته الوطنية.
أسمع من أعضاء الحزب الذي يرأسه سعد الدين العثماني من يقول “حجم الغضب من رئيس الحكومة هو علامة حياةٍ في المجتمع المغربي”، وغيره يرى الموت على الحق شهادة “لموتٌ في طاعةٍ خيرٌ من العيش في معصيةٍ”، وآخرون يشعرون بالحياء والخجل مما قام به رئيس حكومتهم، فخاطبوا الشعب الفلسطيني قائلين “عذراً لكل دمٍ أريق ظلماً في فلسطين الحبيبة، وعذراً لكل الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال البغيض، وعذراً لكل المقاومين البواسل ولشعب فلسطين الحر الأبي”، وآخرون يستنهضون شهداء الشعب المغربي وحراس المسجد الأقصى من أبنائه، أنهم لن يخونوا دماءهم، ولن يفرطوا في الأمانة التي ضحوا بحياتهم من أجلها، وقد انداحت الجماهير المغربية في مختلف المدن، وتنادت بحشودٍ كبيرةٍ إلى الساحات والميادين، ترفض التطبيع وتدين الاتفاقية، وتدعو إلى شطبها وعدم الالتزام بها.
يعلو صوت المغاربة المقاومين للعدو الصهيوني، المعارضين للتطبيع والمحاربين لكل محاولات الاختراق، يخاطبون الشعب الفلسطيني بكل صدقٍ وشفافية، أننا كنا ورئيسنا معكم وسنبقى، نؤيدكم ونحبكم، ونقف معكم وننصركم، فلا تشطبوا سجلنا المشرف بكلمة، ولا تنسوا تاريخنا الناصع في سورة غضبٍ، وتذكروا أننا لا نقبل بما حدث، ولن نسكت عنه ولن نستمر فيه، ولكن لا تنجروا إلى ما يريده العدو ويتمناه، فهو يتطلع إلى سلخ الشعب المغربي عن عمقه العربي وقضيته القومية الكبرى فلسطين، وهو المغتاظ من مقاطعتنا، والمتأذي من مواقفنا، والغاضب من دعمنا وإسنادنا لكم، فلا تفرحوه بالوقيعة بيننا، فنحن من كبوتنا سننهض، ومن سقطتنا سنقف، وإلى سابق موقفنا سنعود.
تتعالى أصوات المغاربة الذين نحب ونجل، والذين نعرف صدق مواقفهم وثبات كلمتهم، يطالبون كل وطنيٍ فلسطيني وحرٍ عربي، أن يكونوا معهم في هذه المحنة، وأن يقفوا إلى جانبهم في هذه الفتنة، وألا يعينوا شياطين الجن والإنس عليهم، وألا يتهموهم بالخيانة والردة، فالصادق يؤازر من يحب في محنته، والمخلص يساعده في مصيبته، وليس أشد محنةٍ علينا مما لاقينا، وأسوأ في مسيرتنا مما صنعنا، ولن تكون خاتمتنا خيانة ونهايتنا تفريط، وستكون هناك مفاصلة بين الحق والباطل، ولا شيء حقٌ كالقضية الفلسطينية، ولا شيء باطلٌ كالكيان الصهيوني، ولكن صبراً فما حدث وإن كان إرادةً ملكيةً، فإن أيدينا فيه لن تلوث، وسجلنا به لن يُسَّوَدَ، وإن غداً لناظره قريب.
نعم إنني أصدق الشعب المغربي وأثق في مواقفه، وأعتقد أنه سيبرأ إلى الله عز وجل والأمة العربية والإسلامية مما حدث، وستكون له كلمته الفصل وبيانه الحسم، ومن سبق بالصدق سيعود، ومن كان فيه الخير سيلحق، هذا أملنا في المغرب الحبيب وشعبه، فاللهم لا تخيب أملنا فيه وأعد إلينا الثقة فيهم، فإنهم والله رجالٌ في الحق، صُدُقٌ في الحربِ وصُبُرٌ عند اللقاء.
بيروت في 24/12/2020
*كاتب من ارض فلسطين العربية المحتلة