السيمر / السبت 20 . 02 . 2021
أوحَشَتها عُتمة الليلِ المُتلبدِ، تَحتَ عَباءة الضَباب، فَفَزِعَتْ لا تَرجو مَضجَعَاً ولا تأنسُ فِراشاً، فَقد رَحَلَ الوَسَنُ عَنْها فُجأةً، حِينَما طَارَ قَلبُها، وحَلَقَ بعيداً نَحوَ فَضاءٍ مَجهولٍ، يَحملُ بَينَ جَناحيهِ إحساساً غَريباً، جَمَعَ بَينَ الفَرحةِ والحَزَنِ، جَعَلَ نَبَضَاتهُ تَتَسارعَ، كأنْها تَرفُسُ أضلاعَ صَدرَهَا، المتهالكِ مِن ْغَزواتِ الحياةِ، لكنَّها لّمْ تسطع لَها كسراً أو نَقبا، فكأنْها قُضبانُ سِجنٍ أُوصدتْ، مَالها مِنْ فَكَاكٍ….
- إلهي إنكَ تَعلمُ مَا كانَ وما يَكونُ، ولا رَادَ لقضائِكَ وحكمكَ… لكنَّك تقدست أسمائك، أمرتنا بدعائك وضمنت لنا الإجابة، فأستجب لي يا ربِ… اللهم إني أسألك بمحمد وآل محمد إلا ما صليت على محمد وآل محمد، وأن تدخلني في كلِّ خير أدخلت فيهِ محمدٍ وآل محمد، وأن تخرجني من كُلِّ شرٍ وسوء، أخرجت منهُ محمدٍ وآل محمد…
تنهض ابنتها الكُبرى، مغادرةً فراشها، تَحتَضُنُ أُمَها الواقفة في صالة البيت:
- أُماه… ما بكِ؟
- لِمَ استيقظتِ حبيبتي؟
- لم أكُ نائمةً يا أُمي… رأيتكِ قلقةً حتى بدأتِ بالدُعاء
- الدعاءُ سلاحُ المؤمن يأبنتي، لطالما مررنا بظروفٍ صعبةٍ جداً، أنا وأبيكِ…
- متى ولماذا؟
ارادت الفتاة أن تجر أُمها للحديث، لعلها تُخلصها مما هي فيه من الشرود والذهول… فأجابت الأم:
- قبل زواجنا وبعده، حينما غادرنا العراق مضطرين، بسبب مطاردة الأجهزة الصدامية القمعية لأبيكِ، أبان الانتفاضة الشعبانية…
- ما هي الانتفاضة الشعبانيةُ يا أُمي؟!
- تلك الانتفاضة التي قامت في شعبان/ اذار من سنة 1991م، حاول من خلالها الشعب إسقاط عرش المجرم صدام، حاكم البلاد والعباد
- من هو صدام؟ هل كان رئيساً للعراق؟ ولكن قبل أن تجيبيني لنجلس
ذهبت الفتاة وجلبت المدفئة وأوقدتها، وأعطت الماء لأمها لتشرب، ثُمَّ جلبت أبريق الشاي ووضعتهُ فوق المدفئة، فبادرتها الأم:
- ماذا تفعلين؟
- أظن أن النوم غادرنا، فأعدتُ لجلستنا… لم تجيبي عن سؤالي؟
- إن صدام حاكمٌ ظالمٌ لشعبهِ، جيء بهِ إلى السلطةِ، بفضل الانقلابات العسكرية، ليتمكن من تدمير العراق، البلد الذي أصبح أُمنية المتمني، بسبب التطور الحضاري والاقتصادي والتعليمي والثقافي؛ لقد أصبحنا من الدول النامية والمتقدمة كثيراً، والغنية ايضاً، حتى وصل هذا الطاغية الملعون الى سدة الحكم وسيطر على جميع مؤسسات الدولة، فلقد تفرد بالسلطة
أخذت الأم تذكر لها منجزات المؤسسات العراقية في تلك الفترة، وكيف كان وضع الدولة المادي والانتعاش الاقتصادي، ودخل الفرد الشهري الجيد، وغيرها… حتى سكتت وعادت لذهولها، فقامت الفتاة وصبت الشاي، وقدمتهُ لأمها قدحاً منهُ، وسألتها:
- وكيف وصل صدام للحكم؟
تنهدت الأم وأخذت تحرك السكر في قدح الشاي، وأكملت:
- في عام ١٩٦٩م أي بعد عام من قيام انقلاب البعث الثاني، سمع احمد حسن البكر نصيحة خير الله طلفاح الطائفي القذر بضرورة الاستعانة بصدام، فقط لأنه من عشيرته ومدينته، لكي يحمي عرشه ويمنع تكرار انقلاب نوفمبر ١٩٦٣م، سلطة البعث الأولى بزعامة الخائن الثاني عبد السلام عارف…
- الخائن الثاني!؟ فمن هو الخائن الأول؟
- عبد الكريم قاسم هو الخائن الثاني
- ماذا؟ ولكنهم يمدحونهُ كثيراً
- الناس لا تعرف كثيراً مما تقول، ألم تري القرآن قد ذم الكثرة في أغلب آياته؟ قاسم! إنهُ مؤسس الحكم العسكري في العراق، وهو الخائن الأول، فلقد خان الملك فيصل وقتله، وحوَّل العراق من مملكة دستورية الى جمهورية عسكرية تحكمها العصابات والاحكام العرفية، فبدأت المجازر وسحل الجثث بالشوارع وحرقها وتعليقها بالأعمدة، ثُمَّ خانهُ مساعدهُ الأول ونائبهُ عبد السلام، فانكوى بنارٍ هو أوقدها … ايه ماذا سيقولُ لربه؟
- نعم، لكن لماذا اختار طلفاح صدام؟ وكيف تعامل البكر مع نصيحة طلفاح؟
- صدام يكون ابن اخت طلفاح وزوج ابنته، وقد وافق البكر على طلب طلفاح، وطبَّق نصيحته
- وماذا حصل بعدها؟
- في عام ١٩٧٠ سمح البكر لصدام وناظم كَزاز وسعدون شاكر بإقامة أكبر سلخانة بشرية، في قصر النهاية ضد كل المعارضين السياسيين في وقتها، فكان ضباط الأمن والمخابرات العراقيين يتم إيفادهم الى دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي، لأخذ دورات في كيفية التعذيب والتدريب على استخدام اجهزة التنصت، كرس البكر وجود الدولة البوليسية على الطريقة الستالينية التقليدية.
- وماذا بعد؟
- تخلص صدام من صديقهِ ناظم كزار حيث اتهمه بمحاولة انقلاب، وضرب عصفورين بحجر واحد، قضى على كزار وكسب ثقة البكر ليجعلهُ نائبه الأول بل ممثلهُ العام، ففي عام ١٩٧٥ قوض البكر اركان الدولة، عندما سمح لصدام بتوقيع اتفاقية الجزائر المخزية والمدمرة، في انتهاك صارخ للدستور الذي يمنع التنازل عن اي شبر من أراضي العراق. هذه الاتفاقية كانت مثل حجر الدومينو الذي ادى الى حرب الثمان سنوات، التي أدت لغزو الكويت، وما تلاها.
- إنهُ ذكيُ جداً
- لا بل قولي ماكر خائن مخادع، استغل غباء البكر وثقته، ففي عام ١٩٧٦ منح البكر رتبة عسكرية (فريق اول ركن) الى صدام في تحدٍ سافرٍ للأعراف والتقاليد العسكرية، ليكون صدام اول ضابط دمج في تاريخ العراق
- آها!؟ وماذا حصل بعد؟
- ابتكر مؤامرة أخرى ليقضي على أقرانهِ، أفادت بانه كشف مؤامرة ضده، استطاع من خلالها اعدام جميع المعارضين له من داخل حزبه، وبعد ان أطاح بجميع الساسة من حزبه ومن الأحزاب الأخرى، لم يبق امامه سوى الرئيس “البكر”، المغلوب على امره، عزله ليقتله فيما بعد ويشرد اسرته، ثم ما لبث حتى دخل في حربٍ مع “إيران” ولمدة ثمان سنوات، وما ان انتهت الحرب وبدأت امنياتنا بالعودة الى مصاف الدول المتقدمة النامية، نبحث عن الامن والأمان، والسلام وتحقيق الاحلام، هجم على “الكويت” في ليلة ظلماء، ليبيحها لكلابهِ المسعورة يفعلون فيها ما يشاؤون، كما فعل يزيد بالمدينة المنورة….
- وماذا حصل بعدها يا اماه؟
- ماذا حصل؟ ذهب الامن والأمان، والراحة والسلام، ومُنعت عنا حتى الاحلام، وجاءت أمريكا وحلفائها لتحرير “الكويت”، وبالفعل انهزم كالجرذ بعد ان امر الجيش بالانسحاب المذل، فعاد الجيش ليتحد مع الشعب ولتنطلق الثورة الشعبانية لأسقاط حكم هذا الظالم، ولما بات هذا الامر قاب قوسين او أدنى، رأى تحالف الشر ان بقاء صدام خير لهم من تسلم المظلومين لا سيما اهل الجنوب السلطة، ولبأِسَ ما رءوا؛ عقدوا العزم على إطفاء نار الثورة، فقُتل مَنْ قُتل وشُرَّد مَنْ شُرَّد….
- وأين ذهبتم؟ او بالأحرى كيف نجوتم؟
- تمكنا من العبور الى إيران، مكثنا هناك حتى سقوط النظام في 2003؛ كان أبوكِ مجاهداً شجاعاً… آه، كنا نتصور أن العراق سيستشعر الأمان، بعد زوال حكم الطغاة… لكننا بعد أن رجعنا إلى أرض الوطن، في بصرتنا الفيحاء، ما لبثنا أن نستقر، حتى عاد الوضع كما كان…
- وكيف ذاك؟
- لم يتحسن الوضع كثيراً، فأبوكِ استمر على ما كان عليهِ، وكنت أُشجعهُ على ذلك وأشدُ من أزره
سكتت الأم وتوقفت عن الحركة فقد عادت الى حالة الذهول، ثُمَّ نطقت فجأةً:
- أتذكر عندما رزقنا الله تعالى بأخيكِ البكر، أحببتُ أن أُطلق عليه اسم (منتظر) تيمناً بالإمام (عجل الله تعالى فرجهُ الشريف)، وليكون في ركبه، إن شاء الله، ولكني قلقة عليهِ هذه الليلة…
- لقد بقي (منتظر) عندنا في البيت، ليقوم بسد الفراغ الذي تركهُ أبي، بعد تلبية نداء الفتوى الرشيدة، فنحن أربعُ أخواتٍ، وخامسنا لم يبلغ الرابعة عشر بعدُ من عمره، ولكنكِ أنتِ مَنْ رفض بقاءه، وأمرتهِ الالتحاق بأبينا!
- نعم أنا أُم، وأُحبُ ولدي، لكنَّ حماية الوطن والمقدسات والأعراض أولى، أتظنين أنَّ حبي لولدي يمنعني عن أداءِ واجبي، تجاه وطني وديني؟! كلا أبداً؛ نعم فقد الأحبة غصة ولوعة ما بعدها لوعة، تترك الفؤاد خاوياً كئيباً، فقد الأحبة يعني أن الإنسان يدفن سعادته وبهجته تحت التراب. ولنا بالإمام زين العابدين وعمته زينب عليهما السلام أسوة حسنة، فكيف إذا كان الأحبة هم خلفاء الله وخيرة خلق الله، كيف إذا كان الأحبة هم الإمام الحسين وقمر بني هاشم وعلي الأكبر وسائر أهل البيت (ع) وأنصار الحسين في كربلاء؟ ساعد الله قلبك يا مولاي يا زين العابدين وأنت تفقد هكذا أرواح طاهرة ليس لها نظير على وجه الأرض، ساعد الله قلبك وأنت تراهم قتلى بلا غسل ولا كفن على رمضاء كربلاء.
طأطأت الفتاة رأسها خجلاً، بينما قامت الأمُ وذهبت لتجديد وضوئها، لتبدأ قيام الليل كما تعودت… جلست الفتاة ترقب أُمها، فلقد كان وجهها يتلألأ كأنهُ المصباح، بالرغم من بياض عباءة الصلاة، حتى إذا سجدت سجدتها الأخيرة من صلاة الليل، رفعت كفيها بالدعاء المأثور عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) … كانت تنقطع عن الكلام قليلاً، لتجهش بالبكاء، ثُمَّ تعودُ لتنثر دُراً منظوما…
عند إتمامها لدعائها، سجدت شكراً لله تعالى…ثُمَّ رفعت وجهها ونادت: “إلهي إني لا أسألكَ رد القضاء، ولكني أسألك اللطف فيه، فإن كان جرى فيهما قضائك وحكمك، فليكن أحدهما لا كلاهما”
هنا جفلت الفتاة عند سماع قول أمها وقفزت وهي تقول:
- أُماه! ما الذي تقولينهُ؟! ماذا يجري؟
- لا تخافي يأبنتي… وتعزي بعزاء الله
- أيُّ عزاءٍ تقصدين؟!
- سنعلمُ نبأه صباحاً، فإنا لله وإنا إليهِ راجعون
انهمرت دموع الفتاة، وقامت مسرعةً إلى فراشها؛ تدثرت ولفت جسمها بقوةٍ، فلقد أحست ببردٍ شديد… شاهدت الأُم فعلها، فنهرتها قائلةً:
- ما الذي تفعلينه؟! قومي وتوضئي، سيحين أذان صلاة الفجر
قامت الفتاة، تاركةً فراشها، ملبيةً طلب أُمها… كفكفت دموعها واستجمعت قواها:
- نعم أُمي سأفعل
وصلت إلى المغاسل وهي خائرة القوى، ترتعد جميع مفاصلها، لم تستطع صبراً حتى أفرغت صدرها المختنق بالعَبرَةِ، وأجهشت بالبكاء، فهي تحبهما كثيراً (أباها وأخاها)، ويصعب عليها فراقُ أيٍّ منهما، لكنَّها تجلدت الصبر، وتعزت بعزاء سيدتها زينب (عليها السلام)، فحمدت الله واسترجعت له، وأتمت وضوئها، وعادت لأداء صلاة الفجر مع أُمها وتلاوة بعض سور القران الكريم… وما أن فرغتا من العبادة، وهدئت نفوسهما، أمسكت الأم يد أبنتها وقالت:
- كوني قوية وشجاعة، فإنَّ الله أراد بهم وبنا خيراً، أطمئنكِ بذلك، فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
- ونعم بالله يا أمي
- هيا يأبنتي لنرتب البيت… أيقضي إخوتَكِ سأعدُّ لهم الفطور، فلعل شاغلاً سيشغلنا عنهم
- حاضر أُمي
لم تستطع الفتاة وأمها تناول الفطور الا قليلاً مجاراة لبقية افراد العائلة، وكان الصمتُ والهدوء يعمان المكان، حيثُ بدأت الساعات تَمُرُ كأنها دقائق وثواني، تتسابق مع دقات قلبيهما ولمعان عيونهما وهما تائهتان تنتظران ما ستحملهُ الاخبار.
لم يكسر ذلك الصمت سوى علو أصوات المكبرات تقرأ قصيدة (يحسين بضمائرنا)، فقامت الأم لتنظر من النافذة فرأت موكب تشييع مهيب دخل الزقاق يمشي الهوينا، فعرفت الأم وأحست النبأ، فطلبت مِنْ بَناتِها ارتداء العَباءةَ، والحِفاظ عَلى سِترِهِنَّ، فهذا ما ضحى الشهداءُ مِنْ أجلهِ…
فَعلنَّ الفتيات ما أمرتْ بهِ الأمُ ثُمَّ خَرَجنَّ، لم يتجاوزنَّ حد باب الدار، فلقد تجمع أبناء الحي ورجالهِ ونساءهِ في الزقاق، وإذا بأول سيارة تدخل الزقاق، عليها تابوتٌ ملفوفٌ بالعَلَمِ العراقي، وقُرب التابوت جَلَسَ المجاهدُ (علي ثامر) والد الشهيد (منتظر)، رافعاً رأسهُ ودموعهُ على خديه…
بدأ الجمعُ بنثر الورود على التابوت، والتفت النساء حول أم الشهيد لتواسيها، لكن الأم تقدمت نحو التابوت بثباتٍ وقوة، ونادت:
(إل هذا اليوم مربيتك… يبني ويا شمعة بيتك… وبسم إيمامك سميتك… ويا كحل عيوني مودع يُمه)