السيمر / فيينا / الخميس 09 . 09 . 2021
د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
إنهم ستةٌ وستةٌ آمنوا بحريتهم وازدادوا بها يقيناً، وتمسكوا بها حقاً وعملوا من أجلها فعلاً، وخططوا لها وأصروا عليها، وقرروا أن ينالوها بسواعدهم وأن يحصلوا عليها بعزائمهم، فشقوا الأرض وحفروا الصخر، وتحدوا الصعب وانتصروا على المستحيل، وتعاقدوا مع العزم وقاطعوا اليأس، وتحدوا السجن وبَزُّوا السجان، فما وهن لهم ساعدٌ، ولا انبرى لهم ظفرٌ، ولا انكسر لهم ظهرٌ أو انقطع بهم وسطٌ، بل مضوا شهوراً بملاعق صغيرة، وأظافر قاسية، يحفرون الأرض وينحتون الصخر، وينقبون الجدار وينبشون التراب، ويخفون كل دليلٍ، ويطمسون كل إشارةٍ، لتعمى عنهم الأبصار، وتشاد بينهم وبين الحراس سدودٌ وسدودٌ، حتى تراءى لهم من بعيد ضوءُ النهار، ولاح لهم نورُ الفجر، وتبدت لهم الحريةُ حلماً واقعاً وحقيقةً ساطعة.
إنهم فتيةٌ يتشابهون في الانتماء، ويشتركون في العزم، ويتوافقون في العدد، فكان الستة الأوائل من قطاع غزة، ومن المحكومين بالسجن بالمؤبد ومدى الحياة، استطاعوا في ظل مرحلةِ الركود العربي والانشغال الرسمي عن القضية الفلسطينية، التي استغلها العدو الإسرائيلي في ممارسة المزيد من القمع والبطش، والإهانة والتنكيل بالفلسطينيين في أرضهم، وبالمعتقلين في سجونهم، ولعل سكان قطاع غزة والضفة الغربية يذكرون في العام 1987، فِرقَ جيش الاحتلال الإسرائيلي التي عرفت بــ”القبعات الحمراء والزرقاء”، الذين انتشروا في مناطق مختلفة من قطاع غزة، يترصدون السكان ويتصيدون الشباب والنساء والرجال، ويؤذونهم ويتهكمون عليهم، ويجبرونهم على القيام بأعمال مشينة وتصرفاتٍ قبيحة.
في تلك الأيام من منتصف شهر مايو/آيار من العام 1987، تمكن ستةٌ من الأسرى الفلسطينيين من الفرار من سجن غزة المركزي، وهو السجن المحصن العريق القديم، الذي ضم بين جدرانه وفي زنازينه على مدى سنوات الاحتلال، آلافَ الأسرى والمعتقلين من مختلف الطبقات والفئات والأعمار، إلا أن ستتنا الأبطال وعلى رأسهم الأسير المحرر المجاهد مصباح الصوري، نجحوا في التخطيط والإعداد، وفي التنفيذ والإخراج، حتى نالوا حريتهم بجدارةٍ، ولطموا وجه المحتل بقسوةٍ، وأعجزوه عنهم بحثاً، وأعيوه وراءهم مطاردةً، وألحقوا به بعد ذلك خسائر فادحة، دفع ثمنها في قادم الأيام الكثير بألمٍ ووجعٍ، لعله ما زال يتجرع آثارها حتى اليوم.
مهد الستة الأحرار الأوائل وإخوانهم للانتفاضة الفلسطينية الأولى، ودشنوا معاً مرحلة حرب السكاكين والمِدَى، التي أرعبت العدو في قطاع غزة، وجعلت أرضه عليهم حراماً، والتجول فيها مستحيلاً، وخسارته فيها كبيرة، ووجوده فيها خطراً، ورحيله عنها أملاً، إلى أن جاءت الشرارة الكبيرة وحادث المقطورة الشهيرة في عيون قارة، التي استشهد فيها العمال الأربعة، فكانت شهادتهم إيذاناً بانطلاق أعظم مقاومةٍ شعبيةٍ، عرفت بعد ذلك باسم “الانتفاضة”، وتميزت بجنودها الأطفال وحجارتها السجيل.
على دربهم مضى الستة الجدد، فاقتفوا آثارهم واتبعوا سنتهم، وشقوا تحت الأرض طريقهم، ولعلهم تكبدوا صعاباً أكثر، وخاضوا تحدياتٍ أشد، فالمكان “جلبوع” مختلفٌ، وتحصينه أشد، وعزله مخيف، وحراسته مشددة، والتطور التقني الإسرائيلي كبير، والرقابة عليهم لصيقة ومتابعتهم دائمة، الأمر الذي يجعل فرارهم معجزة، ونجاحهم من الله عز وجل كرامة، وكما صمد الستة الأوائل ولم يقعوا في قبضة العدو من جديدٍ، فإننا نسأل الله سبحانه وتعالى، ونهيب بشعبنا العظيم، أن يحفظ أبطاله الجدد، وأن يصونهم بالمهج والقلوب، وبالأرواح وأشفار العيون، فلا تضيع فرحتنا، ولا تسرق منا عزتنا، ولا يتمكن العدو منا، ولا يشمت فينا.
العدو الإسرائيلي بسلطته الجديدة المهزوزة، الهجينة الخليطة، مرتبكٌ مذعورٌ، خائفٌ قلقٌ، حائرٌ مضطربٌ، يدرك تماماً أن الفتيل قد اشتعل، وأن البارود عما قريب سينفجر، وأنه لن يستطيع إطفاء الفتيل أو السيطرة على الانفجار، ولن يقوى على اجتياح جنين أو تأديب المناطق وتخويف الشعب، ولن يستطيع أن يسكت غزة أو أن يرعب مدن الضفة، فهذه فرصةٌ لشعبنا قد لاحت، ومنحةٌ من الله عز وجل قد سنا بريقها وعلت راياتها، وبانت بشائرها، وسنحسن بإذن الله عز وجل التمسك بها والاستفادة منها، فنحن شعبٌ ما اعتدنا على الضعف والخور، وما تربينا على الذل والعوز، بل نشأنا والسلاح بأيدينا، وفتحنا عيوننا على احتلالٍ نقاتله، وعدوٍ نواجهه.
ها هي الأرض من بعد الستة الآخرين تلتهب، والسجون تشتعل، والثورة تتقد، والسلاح يقعقع، والروح المعنوية ترتفع، والهمة تقوى والعزم يشتد، والجهود تتحد، والإرادة تحتد، تماماً كما كانت الأوضاع في نهايات العام 1987، إثر فرار الستة الأوائل، فهل نخطط معاً لانتفاضةٍ ثالثةٍ، تكون عامةً شاملةً، تتحد فيها القوى وتتفق فيها الرؤى، ونخوض فيها مع العدو في كل مكانٍ حرباً شعبيةً ضروساً، فلا يتمكن من الاستفراد بمدينة، ولا التغول على مخيمٍ أو بلدةٍ، ويجد نقسه محاصراً بالشعب الثائر من كل مكانٍ، ومضطرباً بالأرض التي تميد به وتتزلزل، والنار التي من حوله تشتعل وتضطرم.
لست عاطفياً ولا متحمساً، ولست مهولاً ولا حالماً، بل أنا جدُ متفائلٌ، وجدُ واقعيٌ ومنطقي، ومتصالحٌ مع نفسي وشعبي، وأعرف قدرات أهلي وعزائم أمتي، فالثورة أقرب إلى النصر، والانتفاضة أسرع في تحقيق الأهداف، وحصاد القوة طيبٌ حلوٌ، وجنى المفاوضات مرٌ وذلٌ، فهل يكون هذا الفتح الرباني والتوفيق الإلهي بداية النصر الكبير وتباشير العودة والتحرير، وهل نحسن إدارة المعركة وتوجيه الدفة، وضبط الأداء وتنسيق الجهود، فكثيرٌ من دول العالم باتت اليوم معنا وتؤيدنا، والظروف العامة تناسبنا، والعدو أصبح يعاني عزلةً ورفضاً، ولم يعد هو المقبول المدلل، ولا الحليف المفضل، بل لم يعد هو القوي المنتصر، ولا المتفوق الذي لا ينكسر.
بيروت في 9/9/2021