السيمر / فيينا / الأحد 07 . 11 . 2021
سليم الحسني
في 19 نيسان 1981 وصلت الى طهران قادما من دمشق مع الشيخ محمد سعيد النعماني للعمل محرراً في مجلة صوت الأمة التي كان يرأس تحريرها.
كانت الساعة التاسعة مساءً، وقد بدت شوارع طهران مظلمة، بسبب الحرب مع العراق، لا تضيؤها إلا مصابيح السيارات والأنوار المنبعثة من النوافذ.
أوصلني الشيخ النعماني الى مبنى قرب ساحة فردوسي الشاعر الإيراني المشهور، كان المبنى مخصصاً لسكن المهاجرين العراقيين، وعند المدخل رأيت للمرة الأولى الأستاذ حسن شبر، رجل في الخمسينات من عمره، أنيق يغمره الوقار، ونظرة جادة يتسرب منها الحزن وتعب السنين.
هذا هو إذن السيد حسن شبر الرجل ذائع الصيت بمواقفه وثباته وصموده في السجن لمرات عديدة، أشهرها في قصر النهاية بحكاياته الخرافية مع رجل الرعب مدير الأمن ناظم كزار.
كنت أحمل إليه رسالة مغلقة من تنظيم حزب الدعوة في سوريا، كما هو الإجراء المتبع عندما يسافر أحد الدعاة من دولة الى أخرى، لكني شعرت أن الوقت غير مناسب.
عصر اليوم التالي عدت من مجلة صوت الأمة الى مبنى (الإتحاد) واتصلت بالأستاذ شبر أخبره بشأن رسالة الإرتباط الحزبي. فسارع الى المجيئ وسلمته الرسالة، سألني عن شؤوني الشخصية، قلت له أن ليلة أمس كانت متعبة، وأنا سأبحث عن سكن، فقال لي:
ـ في سجون العراق يعيش أخوتك الدعاة في ظروف صعبة، ولا يجد السجين فسحة من المكان على الأرض لينام عليها.
لون الحزن غطى عينيه، كنت أراه من خلف نظارته الأنيقة، شعرت بأني أثرت فيه الهموم والذكريات، وربما لمحت بريق دمعة محبوسة. فإبنه البكر الشهيد رياض أعتقل وأعدم بعد فترة وجيزة، وكذلك خاله ووالد زوجته السيد قاسم شبر، وعدد من أفراد أسرته قضوا في سجون صدام.
أخبرني بأنه سيتم ترتيب إرتباطي خلال أيام، وإنتهى اللقاء، وساعتها لم يدر في ذهني أن علاقة من نوع خاص ستشدني الى هذا الرجل الصارم الوقور، وأنها ستتحول الى ما يشبه علاقة الإبن بأبيه، حتى أن بعض الأصدقاء فيما بعد كانوا يقولون أن السيد حسن شبر هو (ابوك الروحي).
بعد مضي أكثر من عقدين من الزمن، كنت أقوم معه في منزله بترتيب وأرشفة وثائق الحزب، حيث كنت معه في لجنة التاريخ الخاص للحزب، فأخرج مظروفاً وقال لي:
هذه رسالة نقلك من سوريا الى إيران.
طلبت منه أن أطلع عليها، فقال:
لا يمكن ذلك فهذا مخالف للضوابط التنظيمية.
كنت أعرف مسبقاً أنه سيمتنع، لما أعرفه عنه من صرامة في الإلتزام الحزبي، حتى ولو كان غارقاً في أحاديث السمر الجميلة.
الذين يعرفون تأريخ السيد حسن شبر الشخصي، يرونه رجل الصبر، لكن في شخصيته جوانب أخرى تزاحم الصبر، فالصراحة ونكران الذات والشجاعة في الرأي والدقة، وصفات أخرى كثيرة، تختزنها شخصيته، كنت اكتشفها مع الأيام من خلال العلاقة اللصيقة معه، فلا يكاد يمر يوم دون أن التقيه أو اتحدث معه هاتفياً.
كانت الساعة التاسعة مساءً، وقد بدت شوارع طهران مظلمة، بسبب الحرب مع العراق، لا تضيؤها إلا مصابيح السيارات والأنوار المنبعثة من النوافذ.
أوصلني الشيخ النعماني الى مبنى قرب ساحة فردوسي الشاعر الإيراني المشهور، كان المبنى مخصصاً لسكن المهاجرين العراقيين، وعند المدخل رأيت للمرة الأولى الأستاذ حسن شبر، رجل في الخمسينات من عمره، أنيق يغمره الوقار، ونظرة جادة يتسرب منها الحزن وتعب السنين.
هذا هو إذن السيد حسن شبر الرجل ذائع الصيت بمواقفه وثباته وصموده في السجن لمرات عديدة، أشهرها في قصر النهاية بحكاياته الخرافية مع رجل الرعب مدير الأمن ناظم كزار.
كنت أحمل إليه رسالة مغلقة من تنظيم حزب الدعوة في سوريا، كما هو الإجراء المتبع عندما يسافر أحد الدعاة من دولة الى أخرى، لكني شعرت أن الوقت غير مناسب.
عصر اليوم التالي عدت من مجلة صوت الأمة الى مبنى (الإتحاد) واتصلت بالأستاذ شبر أخبره بشأن رسالة الإرتباط الحزبي. فسارع الى المجيئ وسلمته الرسالة، سألني عن شؤوني الشخصية، قلت له أن ليلة أمس كانت متعبة، وأنا سأبحث عن سكن، فقال لي:
ـ في سجون العراق يعيش أخوتك الدعاة في ظروف صعبة، ولا يجد السجين فسحة من المكان على الأرض لينام عليها.
لون الحزن غطى عينيه، كنت أراه من خلف نظارته الأنيقة، شعرت بأني أثرت فيه الهموم والذكريات، وربما لمحت بريق دمعة محبوسة. فإبنه البكر الشهيد رياض أعتقل وأعدم بعد فترة وجيزة، وكذلك خاله ووالد زوجته السيد قاسم شبر، وعدد من أفراد أسرته قضوا في سجون صدام.
أخبرني بأنه سيتم ترتيب إرتباطي خلال أيام، وإنتهى اللقاء، وساعتها لم يدر في ذهني أن علاقة من نوع خاص ستشدني الى هذا الرجل الصارم الوقور، وأنها ستتحول الى ما يشبه علاقة الإبن بأبيه، حتى أن بعض الأصدقاء فيما بعد كانوا يقولون أن السيد حسن شبر هو (ابوك الروحي).
بعد مضي أكثر من عقدين من الزمن، كنت أقوم معه في منزله بترتيب وأرشفة وثائق الحزب، حيث كنت معه في لجنة التاريخ الخاص للحزب، فأخرج مظروفاً وقال لي:
هذه رسالة نقلك من سوريا الى إيران.
طلبت منه أن أطلع عليها، فقال:
لا يمكن ذلك فهذا مخالف للضوابط التنظيمية.
كنت أعرف مسبقاً أنه سيمتنع، لما أعرفه عنه من صرامة في الإلتزام الحزبي، حتى ولو كان غارقاً في أحاديث السمر الجميلة.
الذين يعرفون تأريخ السيد حسن شبر الشخصي، يرونه رجل الصبر، لكن في شخصيته جوانب أخرى تزاحم الصبر، فالصراحة ونكران الذات والشجاعة في الرأي والدقة، وصفات أخرى كثيرة، تختزنها شخصيته، كنت اكتشفها مع الأيام من خلال العلاقة اللصيقة معه، فلا يكاد يمر يوم دون أن التقيه أو اتحدث معه هاتفياً.
مع الفقر كانت البداية
في أحاديث كثيرة ومناسبات متفرقة لفت نظري أن السيد حسن شبر، يذكر التين والمشمش كشواهد في بعض كلامه. وذات يوم سألته عن سبب ذكره اسماء هذه الفاكهة. فأجابني:
ـ في طفولتي كنت أتصور أن هذه الفاكهة موجودة في الجنة فقط.
بهذه الطفولة بدأ حياته، مع أنه ينتمي الى عائلة عريقة لها منزلتها الدينية والإجتماعية الذائعة الصيت في العراق وخارجه.
وكنت أستمع الى أحاديثه عن طفولته وكأنه يروي قصة عن شخص آخر، إذ يصعب تصور شخص بهذا الطفولة المعدمة، أن يصل الى ما وصل اليه السيد شبر من ثبات ونزاهة ونظافة يد وتحمل لهموم الناس والاسلام، وعزيمة على الاستمرار نحو الهدف الذي آمن به.
كانت عائلته الكبيرة تقضي الكثير من الليالي بدون عشاء، وكانت وجبة الطعام هي الخبز بدون أدام. بل أن الخبز كان لا يكفي أحياناً، فيضطر والده الى ترك إبنائه يأكلون الخبز، معتذراً بانه مدعو لوليمة، فيخرج الى الصحن الحيدري يمضي الوقت هناك ثم يعود بعد ساعات متظاهراً بالشبع، فيما الجوع يقرصه بإنتقام.
وكان الخبز أحياناً لا يشبع جوعه، فيتسور سور نادي المعلمين ليأكل من أوراق الشجر.
حكايات كنت أسمعها فأجد نفسي أمام عملاق يعشق التحدي، يصرع بإرادته العنيدة كل الصعاب.
وكان يذهب الى المدرسة حافياً، لقد أكمل الإبتدائية حافي القدمين.
لكن هذا الفقر الظالم، علمه أن يسير بثبات في طريق الهم العام، وتلك خصلة لا يتوافر عليها كل أحد.
فقد حمل السيد حسن شبر الهم الإسلامي منذ بدايات شبابه، ففي الثلاثينات من القرن الماضي، وكان طالباً في مدرسة منتدى النشر في النجف الأشرف، بدأ يفكر بأهمية أن يشهد الواقع الإسلامي تحولاً جذرياً ينقذه من التخلف السائد. فأصدر مع بعض أصدقائه مجلة إسلامية بعنوان (البذرة) كانت تتبنى طرح أفكار إسلامية تدعو الى التغيير والإهتمام بشؤون المسلمين، وتوعية المجتمع.
وخطى السيد شبر خطوة أخرى باتجاه العمل الحركي في تلك الفترة، فقد تحسس أهمية أن يتم إعتماد العمل الحزبي من أجل مواجهة التخلف والانحراف في المجتمع، فأسس مع رفيق عمره الشهيد عبد الصاحب دخيل حزباً باسم (الحزب الاسلامي الجعفري) وكان يهدف الى القيام بحركة توعية في وسط الشباب على أساس الإسلام ومفاهيمه الأصيلة، بعيداً عن التقليدية الضاربة في الوسط الشيعي.
وكانت الخطوة من الخطورة بحيث انها تضعه أمام نقمة هائلة فيما لو انكشف أمرها، فلم يكن تشكيل الأحزاب السياسية مألوفاً في جو محافظ مثل أجواء النجف في تلك الفترة.
كان في حزبه يتحرك في أجواء من السرية الصارمة، يتخير الأشخاص الذين يفاتحهم بأمر حزبه بدقة وحكمة، فلا مجال للخطأ حتى لو كان عارضاً.
وفي تلك الفترة توثقت علاقته بالعديد من الشبان، صار لبعضهم أكبر الشأن في الحياة السياسية والاسلامية، مثل الشهيد الكبير السيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد حسين فضل الله والمرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والشهيد السيد مهدي الحكيم، والشهيد السيد محمد باقر الحكيم وشخصيات أخرى.
ونتيجة لنشأته في مدينة النجف الأشرف، وتعرفه على أجوائها، ورصده لمظاهر الحياة فيها، فقد استطاع أن يتمتع بحس إجتماعي كبير، كما أن نشاطه الحركي جعله يكتشف نقاط الخلل في الواقع الشيعي، وقد إختزن في ذاكرته تلك التجارب، وكتبها في مجلد كبير لا يزال مخطوطاً حتى الآن، وقد أعطاني نسخة منه، قرأته أكثر من مرة لأني كنت أشعر بأني أدخل حقبة من التاريخ لم أولد فيها.
وقد طلبت منه أكثر من مرة أن يبادر الى طباعة الكتاب، لكنه كان يرى أن الظروف لم تحن بعد، وكان عنوانه الأولي: (التخلف عن قيادة الأمة).
رحم الله الأستاذ الكبير والشخصية الرسالية الصابرة السيد حسن شبر، لقد استعدت عند سماعي خبر وفاته سنوات طويلة من الذكريات، مرّت عليّ سريعة مثقلة بالحزن الموجع.
في أحاديث كثيرة ومناسبات متفرقة لفت نظري أن السيد حسن شبر، يذكر التين والمشمش كشواهد في بعض كلامه. وذات يوم سألته عن سبب ذكره اسماء هذه الفاكهة. فأجابني:
ـ في طفولتي كنت أتصور أن هذه الفاكهة موجودة في الجنة فقط.
بهذه الطفولة بدأ حياته، مع أنه ينتمي الى عائلة عريقة لها منزلتها الدينية والإجتماعية الذائعة الصيت في العراق وخارجه.
وكنت أستمع الى أحاديثه عن طفولته وكأنه يروي قصة عن شخص آخر، إذ يصعب تصور شخص بهذا الطفولة المعدمة، أن يصل الى ما وصل اليه السيد شبر من ثبات ونزاهة ونظافة يد وتحمل لهموم الناس والاسلام، وعزيمة على الاستمرار نحو الهدف الذي آمن به.
كانت عائلته الكبيرة تقضي الكثير من الليالي بدون عشاء، وكانت وجبة الطعام هي الخبز بدون أدام. بل أن الخبز كان لا يكفي أحياناً، فيضطر والده الى ترك إبنائه يأكلون الخبز، معتذراً بانه مدعو لوليمة، فيخرج الى الصحن الحيدري يمضي الوقت هناك ثم يعود بعد ساعات متظاهراً بالشبع، فيما الجوع يقرصه بإنتقام.
وكان الخبز أحياناً لا يشبع جوعه، فيتسور سور نادي المعلمين ليأكل من أوراق الشجر.
حكايات كنت أسمعها فأجد نفسي أمام عملاق يعشق التحدي، يصرع بإرادته العنيدة كل الصعاب.
وكان يذهب الى المدرسة حافياً، لقد أكمل الإبتدائية حافي القدمين.
لكن هذا الفقر الظالم، علمه أن يسير بثبات في طريق الهم العام، وتلك خصلة لا يتوافر عليها كل أحد.
فقد حمل السيد حسن شبر الهم الإسلامي منذ بدايات شبابه، ففي الثلاثينات من القرن الماضي، وكان طالباً في مدرسة منتدى النشر في النجف الأشرف، بدأ يفكر بأهمية أن يشهد الواقع الإسلامي تحولاً جذرياً ينقذه من التخلف السائد. فأصدر مع بعض أصدقائه مجلة إسلامية بعنوان (البذرة) كانت تتبنى طرح أفكار إسلامية تدعو الى التغيير والإهتمام بشؤون المسلمين، وتوعية المجتمع.
وخطى السيد شبر خطوة أخرى باتجاه العمل الحركي في تلك الفترة، فقد تحسس أهمية أن يتم إعتماد العمل الحزبي من أجل مواجهة التخلف والانحراف في المجتمع، فأسس مع رفيق عمره الشهيد عبد الصاحب دخيل حزباً باسم (الحزب الاسلامي الجعفري) وكان يهدف الى القيام بحركة توعية في وسط الشباب على أساس الإسلام ومفاهيمه الأصيلة، بعيداً عن التقليدية الضاربة في الوسط الشيعي.
وكانت الخطوة من الخطورة بحيث انها تضعه أمام نقمة هائلة فيما لو انكشف أمرها، فلم يكن تشكيل الأحزاب السياسية مألوفاً في جو محافظ مثل أجواء النجف في تلك الفترة.
كان في حزبه يتحرك في أجواء من السرية الصارمة، يتخير الأشخاص الذين يفاتحهم بأمر حزبه بدقة وحكمة، فلا مجال للخطأ حتى لو كان عارضاً.
وفي تلك الفترة توثقت علاقته بالعديد من الشبان، صار لبعضهم أكبر الشأن في الحياة السياسية والاسلامية، مثل الشهيد الكبير السيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد حسين فضل الله والمرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والشهيد السيد مهدي الحكيم، والشهيد السيد محمد باقر الحكيم وشخصيات أخرى.
ونتيجة لنشأته في مدينة النجف الأشرف، وتعرفه على أجوائها، ورصده لمظاهر الحياة فيها، فقد استطاع أن يتمتع بحس إجتماعي كبير، كما أن نشاطه الحركي جعله يكتشف نقاط الخلل في الواقع الشيعي، وقد إختزن في ذاكرته تلك التجارب، وكتبها في مجلد كبير لا يزال مخطوطاً حتى الآن، وقد أعطاني نسخة منه، قرأته أكثر من مرة لأني كنت أشعر بأني أدخل حقبة من التاريخ لم أولد فيها.
وقد طلبت منه أكثر من مرة أن يبادر الى طباعة الكتاب، لكنه كان يرى أن الظروف لم تحن بعد، وكان عنوانه الأولي: (التخلف عن قيادة الأمة).
رحم الله الأستاذ الكبير والشخصية الرسالية الصابرة السيد حسن شبر، لقد استعدت عند سماعي خبر وفاته سنوات طويلة من الذكريات، مرّت عليّ سريعة مثقلة بالحزن الموجع.
٦ تشرين الثاني ٢٠٢١