الرئيسية / مقالات / روح المهدي سُبيَت مرتين

روح المهدي سُبيَت مرتين

السيمر / فيينا / الثلاثاء 06 . 09 . 2022

منار العامري

كان لقيصر الروم حفيدة مدللة بعمر الثالثة عشر، اراد ان يزوجها لابن عمها ليكون المولود الذي تنجبه ملكاً على العالم (وقد حصل على مايريد من غير ان يشعر كما سنبين لاحقا) فأقام الصلبان وجهز الموائد ودعى اليها وجهاء العالَم مبتهجاً بهذا التزويج، فما ان دقت اجراسهم المشؤومة حتى تهاوَت الصلبان وسقط الشاب من على كرسيه مغشياً عليه، ولم يلبث قيصر ان أعاد الكرة تارةً اخرى حتى تزلزلت الارض وتهاوَت الصلبان مرة اخرى وتشققت جدران قصرهم، فأيقن ان هنالك يداً خفيةً تدخلت لمنع هذا الزواج وانزوى ينعى حظه البائس.

تلك هي السيدة نرجس ذات الحسب الجليل فهي تعود من جهة الام الى وصي عيسى عليه السلام شمعون الصفا، والّتي اختارت رغم جلالتها وعزها طريق التذلل والعبودية لآل محمد صلوات الله عليهم، حيث ارتدت زي الخدم لتكون سبية مع سبايا قصرها في معركة بين الروم والمسلمين، وكان ذلك بإيعاز من الامام الحسن العسكري عليه السلام في الرؤيا، وقد رسم لها الطريق الذي تسلكه وأرفدها بكل ما يمكن ان تحتاجه من معلومات.

كانت هذه الجليلة معروفة بالحشمة والوقار حتى انها عندما جِـيء بها لتقف على منصة بيع الجواري طلبت من مالكها ان يضع لها ستاراً يحجب عنها سهام أنظار المتفرجين، وكانت تمتنع عن لمس الاجانب لها وترفضه بشدة.

بعد ان وصلت الى منزل الامام الهادي صلوات الله عليه خُيّرَت بين اثنتين؛ بين ان تحصل على المال، وبين ان يكون لها ولد يملك العالم هو الامام الثاني عشر، فاختارت ان تكون أماً لهذا المولود العظيم وحملت به رغم مراقبة جلاوزة الحاكم آنذاك حيث كان يقتل كل جنين في بطن امه كما كان يفعل فرعون في عهد موسى عليه السلام، الا أن هذه العظيمة كان لها سُنّة من ام موسى من خفاء حملها عن الاعين.

وُصفت هذه الجليلة بأنها (سيدة الاماء) على لسان الامام الحسن صلوات الله عليه ولهذا الوصف دلالة واضحة على انها افضل من باقي امهات الائمة عليهم السلام بل وقد قالت لها السيدة حكيمة عليها السلام: (انتِ سيدتي وسيدة اهلي) ولكن ماذا جرى على هذه الجليلة في حياتها؟ وهل قوبلت جلالة قدرها بما تستحقه من تكريم؟
عند استشهاد زوجها الامام العسكري (بأبي وامي) مرت باصعب لحظات التوديع فهي ما بين توديعين، توديع زوجها الذي ملأت الدماء فمه من شدة تقطّع اوصاله بالسّم وهو مسجىً على الارض وتوديع ولدها وفلذة كبدها وهي ترمقه بعينين حانيتين وتلمسه بكفين عطوفين وتتوسل اليه، اهرب يا ولدي..

السيدة الجليلة تعلم بأن ولدها ما إن يفارقها حتى تتكالب عليه الدنيا وتحتوشه الهموم والغموم وتبدأ رحلة عذابه، وإمامُنا العظيم هو الاخر يعلم بأنه ما إن يفارقها حتى تصبح سبية بيد هؤلاء القتلة المجرمين الذين سيصلون بعد قليل ليداهموا الدار وتبدأ رحلة صعابها، لكنها أبَت إلا ان تضحي بإسماعيلها قرباناً لدولة العدل الالهي، وهو أبى الاّ ان يضحي بروحه (نرجس) التي يتنفسها مع كل شهيق وزفير قرباناً لدولةٍ نحيا فيها سعداء، فهل نستحق ذلك؟!

بعد ان فارقت روحَها وحبيبها المهدي وهو بعمر الخامسة داهم الجلاوزة دار الامام العسكري صلوات الله عليه بحالة من الغوغاء للبحث عن المولود الذي وَشى اليهم بخبَرِهِ جعفر التواب اخو الامام العسكري عليه السلام، وكان لوشايته تلك اثرٌ جسيمٌ على مجرى حياة تلك الجليلة، فقد اضطرها ذلك الى الادّعاء بأنها مازالت حامل وهي تعلم انها بهذا الادعاء ستُسبى لكنها حفِظت رسالة السماء بتضحياتها وازاحت الانظار عن ولدها وأراحت بيوتات الشيعة من مضايقات الجلاوزة انذاك.

تروي الروايات انها سُجنت سبع سنين في سجون العباسيين ثم استطاعت الهرب ولكن لانها كانت بلا مأوى؛ ظلت شريدة طريدة في الطرقات وكأنها تواسي غربة ولدها الشريد الطريد (بأبي وأمي) وكانت ابنة الملوك تلك لا تملك حتى قطعة الخبز لتسد به جوعها، فتبات جائعة وتضحي جائعة لا يكاد احدٌ يلتفت اليها او الى بقية عائلة الامام العسكري عليه السلام، لان من يقدم المساعدة اليهم يعرض نفسه للقتل.

كانت ما إن تخرج من السجن حتى يُلقى القبض عليها ثانيةً وهي ما بين سجن وسجن تتخفى عن الانظار في دور الشيعة الموالين (هنيئاً لهم) حتى قضت اثنين وثلاثين سنة معذبة في ظلم المطامير.

ترى كيف عاش إمامنا المهدي تلك الحقبة؟ وكيف كان يحتمل الهموم وهو يتخيل السياط تتلوى عليها من كل جانب؟ وكيف كان يستنشق الهواء وهو يعلم ان والدته في سجنٍ يشحّ فيه حتى الهواء؟ وكيف كان يشرب الماء وهو يعلم ان والدته تكاد تموت جوعاً وعطشاً؟ والسؤال الاعظم هو: تُرى ما دورنا نحن كمحاولة لمبادلة الامام بالتضحية؟ هل مِنّا من هو مستعد ان يضحي بأمه سبية، أم بأخته، ام بزوجته، ام بأبنته؟ لعمري ان اكثر الناس لشحيحون بالعطاء تجاه امامهم..

اترك تعليقاً