السيمر / فيينا / السبت 07 . 01 . 2023
أ . احمد الجمال* / مصر
يُعد تاريخ قناة السويس تاريخ قديم جديد، فعمر مصر من عمر قناة السويس وعمر القناة من عمر مصر حيث مرت قناة السويس بجميع حقب التاريخ المصرية بدءً بالعصر القديم ثم الوسيط ثم الحديث، ونطالع عبر هذه السطور تاريخ قناة السويس في عصر هارون الرشيد
حيث كانت البداية بهدف الربط بين “البحر الأحمر” (أو “بحر القلزم” بحسب المصادر الإسلامية)، و”البحر المتوسط” (البحر الرومي) ، وقد كانت الغايةُ أن يرتبط كلاهما بالآخر بشكلٍ غير مباشر، ربما بسبب الخوف من ربط البحرَيْن مباشرة، والخشية من ارتفاع منسوب أحدهما على الآخر،
كما أن ذلك لم يكن أمرًا هيّنًا في ذلك الوقت . وكانت الفكرةُ الأولى لهذا الربط عبر قناةٍ تخرجُ من “نهر النيل”، ومنه كانت تجرى المياه حتى “البحر الأحمر”، أو بالعكس، ومن ثم كانت تصل السفنُ والمراكب التجارية القادمة من شتى موانئ “البحر الأحمر”، وكذلك المحيط الهندى عبر أحد فروع النيل إلى “البحر المتوسط” ، ثم تجددت الفكرة بحفر قناة(خليج أمير المُؤمنين)
فى العصر الإسلامى وقع القحط الشديد فى بلاد الحجاز عام 18 هـ، فلما زادت الشدةُ بالمسلمين فى “المدينة المُنورة” مقر الخلافة آنذاك، وفى غيرها من بلاد الحجاز بسبب القحط، أرسل “عُمر بن الخطاب” رسالةً عاجلة لوالى مصر عمرو بن العاص، قال: “سلامٌ عليك، أما بعدُ، فلعَمرى يا عمرو ما تُبالى إذا شبعتَ أنتَ ومن معك، أن أهلَكَ أنا ومن معى، فياغوثاه!، ثم ياغوثاه!..”.، وهو قولٌ يؤكد عظم المُصاب، وقسوته على الناس. ثم بادر “عمرو” بالرد دون إبطاءٍ منه على رسالة أمير المؤمنين التى يبدو فيها الكثير من السخط، والغضب، فقال: “لعبدالله عمر أمير المؤمنين، من عبدالله عمرو بن العاص، أما بعدُ، فيا لبيك! ثم يا لبيك! قد بعثتُ إليك بعيرٍ أولُها عندك، وآخرها عندى”. وكان الخليفة يريد أن يرسل الوالى المؤن والطعام عبر البحر. لكن الوالى “عمرو بن العاص” اعتذر للخليفة عن عدم إرسال الطعام عن طريق البحر، وقال فى نفسه: “أفتحُ على مصر بابًا لايُسَد، فكتب يعتذر”. وأدرك الخليفةُ ما حدث بين “عمرو” ومستشاريه، فاشتد فى الكتابة لواليه، وبعث إليه مُهددًا: “أما بعدُ.. والله لئن لم تُرسل فى البحر؛ لأُرسلَّن إليك من يقتلعُ أُذنيك..”.
ولما انتهى أمر هذه الشدة بإرسال المؤن والطعام الوفير، أرسل الخليفة رسالةً يأمر فيها والى مصر أن يحفر “خليجًا”، أو “قناة” لتربط مصر بأرض الحجاز ليأتيه الخير والمؤن من مصر: “يا عمرو، إن الله قد فتح على المسلمين مصر، وهى كثيرة الخير والطعام، وقد أُلقى فى رَوعى لما أحببتُ من الرفقِ بأهل الحرمَيْن، والتوسعة عليهم، أن أحفر خليجًا من نيلها حتى يسيل فى البحر، فهو أيسرُ لما نُريد من حمل الطعام إلى المدينة، ومكة، فإن حمله على الظهر يبعد، ولا نبلغ معه ما نُريد، فانطلق أنت وأصحابُك، فتشاوروا فى ذلك”.
ولما تشاور الوالى مع المُقربين، أثقلوا عليه حفر “الخليج” الذى ربما يُلحق الضرر بمصر، ثم أخبروه أن يُرسل للخليفة مُعظمًا ذلك الأمر عليه. عندها اشتد الخليفة على الوالى، وأمره أن يحفر “الخليج” مَهما كان الأمر، ومَهما كانت التكاليف، حتى قال له: “ولو أنفقتَ عليه جميع مال مصر”. وعلى هذا، أدرك الوالى أن لا حيلة له أمام رغبة الخليفة.
ثم جمع عمرو بن العاص العُمال لحفر “الخليج المصرى”، ويُقال إن العمل دام ستة أشهُر. وتذكر المصادر أن الوالى لم يكن يدرى من أين يبدأ الحفر، وأن الذى أرشده لموضع “القناة القديمة” قبطى من أهل مصر. وقد تكلف حفر الخليج أموالًا باهظة لإتمام هذا المشروع، وعن ذلك يقول، ابن زولاق: “وأنفق (الوالى) عليه (أي: الخليج) مالًا عظيمًا”. ولما تم حفر الخليج، سارت المراكب من مصر إلى الحجاز، وذات يوم خرج الخليفة عمر فى طريقه، وقال للناس: “سيروا بنا ننظرُ إلى السُّفن التى سيّرها الله إلينا من أرض فرعون حتى أتتنا”، فذهب وشاهد الخير القادم من أرض مصر.
ويقال إن طول هذا الخليج كان يبلغ نحو 140كم، وذلك منذ بداية مجراها عند “نهر النيل” وحتى “البحر الأحمر”. وكان “الخليج” يقع بحذاء شارع بنى الأزرق فى “الفسطاط”، فى منطقة “جنينة لاظ” فى الجهة الغربية من مسجد “السيدة زينب” رضى الله عنها. وكان يجرى فى امتداده حتى بلدة “أم دنين” (قرب الأزبكية حاليًا)، ثم يمتد قليلًا بعد ذلك نحو الشرق، ثم ينعطف نحو الشمال حتى أطراف المدينة، ثم يمر مجراه فى الأراضى حتى “العباسة” بشرق الدلتا، ثم يسير مجرى الخليج شرقًا إلى الأراضى التى يشغل موضعها إقليم الإسماعيلية بعد ذلك، ثم كان “الخليج” يتجه بعد ذلك حتى القلزم (السويس).
خريطة تبين مسار خليج أمير المؤمنين الرابط بين البحر الأحمر ونهر النيلخريطة تبين مسار خليج أمير المؤمنين الرابط بين البحر الأحمر ونهر النيل
إغلاق الخليج
تُعد فترةُ “أبى جعفر المنصور” (136-152هـ) من أبرز الفترات التى ارتبطت بـ”الخليج المصرى”، وقد بَدتْ ثمةُ رغبةٌ من جانب بعض الخُلفاء العباسيين غايتُها تَرمى لإغلاق “الخليج المصرى” رُغم أهميته، وكونه شُريانًا بحريّا حيويّا لمصر، ودوره فى رواج تجارتهم الخارجية، لاسيما أنه صار منفذًا تجاريّا رئيسًا بين كل من مصر، وموانئ بلاد الحجاز.
وتأسيساً على ماسبق نجد أن قناة السويس مرت بكل الحقب التاريخية المصرية
وذات تاريخ ضارب في أعماق التاريخ.
*باحث في التاريخ الحديث والمعاصر
مقدم التاريخ بالإذاعة المصرية
كاتب بعدة جرائد مصرية وعربية.