السيمر / فيينا / الثلاثاء 10 . 01 . 2023
هاتف بشبوش
مفيد عيسى أحمد شاعر سوري وكاتب قصصي يقطن بانياس حيث الساحل السوري، يكتب بالطراوة الشعرية والترافة مع الكلمات المضمخة بالمعاني والتفاسير وحب الأدب والأوطان بصياغة شعرية استطاعت ان تصل الى الرقي في البنية وشكل القصيد واذا ما اردنا تفكيكها فتعطينا الكثير من الشروحات.حين أقرأ مفيد ارى من انّ الشعرَ موهبة عصية ولايمكن لكل من أعلن فصاحته يستطيع أنْ يحترف الشعر ، كما وأنّ الشعر هو كلمات ملحّنة وأكثر التعريفات الأخرى ميتافيزيقية وعرضة للدحض . مفيد لديه توق للإبحار في سفينة الحداثة التي تأخذه الى الفن ومواطن الإبداع . أغلب نصوصه لاتوحي بالتكلّف ولا الضبابية ، إنها عبارة عن رحلة شعرية الى عوالم تكتنفها المخاطر والموت والغربة داخل النفس والوطن . يهتم مفيد كثيرا بمعاني الأشياء لا الأشياء ذاتها ، فمعاني الجمل التي يصوغها مفيد أهم من الجملة نفسها . مفيد حداثي بإمتياز على طريقة (عليكّ أن تكون جزءاّ من عالم كل ماهو صلب فيه يتبدد ويصبح كالأثير…كارل ماركس) . أما العدمية لدى مفيد أخذت الجانب الأكبر في نصوصه ولننظر فيما نؤكده في ادناه :
يمكن أن أموت من أطراف أصابعي ..
من جبهتي..
من نحري
من الوحشي في جسدي
يمكن أن أموت من شعري
من نفسي..
من الهواء الذي يعبرني
من أي موضع في جسدي
فأنا لست كما أنت يا “أخيل“
ثيمة بارعة في الإدهاش والمعاني التي إختصرها مفيد في هذه السطور القليلة لتعطينا جانباً هائلاً من الإلياذة ، وهنا يقول مفيد من أنه ذاك الإنسان العادي في أوطان يمكن ان نُقتل فيها من جميع أجزاء أجسادنا فكلها ليست مقدسة في أوطان يموت بها المرء على الهوية أو نظرا لإختلاف وجهات النظر ، هذا يعني أن الإنسان مباح في وطنه ، هذا يعني كل أجزاء جسده مباحة ويمكن أن تباع في لحظة ما وبما يعرف بتجارة الأعضاء البشرية المستشرية اليوم في أوطاننا . وفي البيت الذي يقول به ( يمكن أن اقتل من الوحشي الذي في جسدي) تعبير في غاية الألم فالإنسان به جانب خير وجانب شر والموضوع يتعلق بفصوص المخ والصراع بينهما ( مخ الثعبان ومهمته الدفاع عن النفس والهجوم ، مخ الثدييات وهو المعني بالمشاعر دون الذكاء ، المخ القشري وهو الأهم في تحديد الشعور بالشر والخير وهو مخ الذكاء ) فحين يطغي جانب الشر على انسان ما ، يمكن أن يقتل أخاه الآخر أو يقتل نفسه بمايعرف الإنتحار في لحظات اليأس أو يكون من الشخصيات (السايكوباثية) . ولذلك راح يقول لنا مفيد في الأخير ( فأنا لست كما أنت ياأخيل) . كان أخيل وهو البطل الأسطوري المعروف في الياذة هوميروس ، وكيف أرادت أمه أن تجعله من الخالدين فقامت بغمره في مياه نهر (ستيكس) المقدس ومسكت به من كعب قدمه فكان المكان الوحيد الذي لم يمسه الماء فظلت قدمه هي نقطة ضعفه حتى جاءت احدى العرافات وقالت لوالديه من انه يقتل في الحرب فهربته أمه الى ملك آخر بعد ان البسته ثياب امراة لكنها الأقدار جعلته محاربا ويقتل في حرب طروادة بعد اصابته في قدمه التي هي نقطة ضعفه بالرغم من كونه البطل الذي لايقهر فتخلّد معنوياً وتأريخياً دون تخليد الجسد . ويستمر مفيد في فلسفة الموت التي هي الأعظم والتي سببت الأرق والقلق لأغلب المبدعين على إختلاف إبداعهم . لنقرأه في الشذرة أدناه :
لا أخشى أن يقتلني أحد
لأني لم أقتل أحدا
لست بطلا و لا حتى محاربا عاديا
أكره كل الحروب الغبية
التي بدأت بفك حمار
و أمقت الحروب التي اندلعت من أجل امرأة
ليس في جسدي موضع مقدس
عصيا على الموت …
لذلك يمكنني أن اموت ببساطة يا “أخيل“
الحروب على خافقها ضفة أوجاع وكلها مكروهة ان كانت بسبب إمرأة كما حرب البسوس أو داحس والغبراء أو حروب الطائفية في الآونة الأخيرة لشعوبنا أو أي حرب تبدأ بفك حمار أو فك نعجة الذي نجعله يشبه المسدس كما كنا نفعلها ونحن أطفال في حروبنا الصبيانية التي تقلّد الكاوبوي الغربي . لذلك مفيد يخاطب آخيل فيقول : أنا لست كما أنت فأنا غير خاضع للأسطرة ولا القداسة حتى نراه من كثرة موقفه من التقديس لايهتم ولايرعوي إن جاء الموت بطرق مختلفة كما في الفلقة الآتية :
لست كما أنت ..
لن تخذلني القداسة
و لا أرغب أن أكون
لا أحب أن أعرف من أي موضع سأموت
و كيف..
فليكن الموت خدعة
او كذبة صادقة
يقول جاك بريفر ( كلنا نموت ، الملك من الضجر ، الحمار من الجوع ، وأنا من الحب) ..الموت بعضهم يقول : هو قمة السعادة في فلسفة مغايرة مثيرة وقابلة للجدل والإعتراف فالممثل المصري( جميل راتب) وهو يحتضر قالوا له ما رايك لو مت ووجدت هناك حياة أخرى ولكونه ذلك المثقف اليساري قال : ( شي بديع أن ترى اصدقاءك مرة اخرى ، لكن لم يوجد دليل على ذلك ولم يأت أحد من الدنيا الآخرة ليخبرنا عما يحصل هناك ) جواب محايد في الصميم . لذلك صرح مفيد بكل جرأة ( لن تخذلني القداسة) ولايهمه ان كان الموت كذبة صادقة أو خدعة لأنه في الحالتين وحسب نظرية (هيدجر) إن كان المرء حيا فالموت غيرموجود وان كان ميتا فالميّت لايشعر مما يعني أنّ الموت غير موجود في الحالتين . فعلينا أن نعيش الحياة بمافيها من الم وسعادة دون الإكتراث للمفاهيم الغامضة للموت والقداسة ، بل علينا أن نفكر بمصائرٍ أخرى مثلما يتحدث أدناه عن مآلات الفقراء وكيف ربط بوحه بما يتعلق والبنى الفوقية :
يا ابن مريم ..
أيها المسيح الجليل
سأصبح قريبا من الحفاة
فهبني دروبا من رماد
أو من ماء
ذات يوم قالها الحكيم الصيني كونفوشيوش ( كنت أبكي من كوني حافيا حتى رأيت أحدهم مقطوع القدمين فخفف ذلك عن همومي ) . فمن أين يأتي مفيد بدروب الماء والرماد وهذه وحدها معجزة لايمكن أن تتحقق فيبقى مرغما على المشي فوق الشوك الذي يزرعه لنا الطغاة والجلاوزة . ويستمر مفيد مع مناغاته للسماء ولكن هذه المرة مع أم المسيح وبنفس النبرة البوحية أعلاه لكنها عن حال مساكين هذا العالم الذين تركوا كما مركب هدّهُ التعب على السواحل وأصبح منسياً لايصلح حتى للمتاحف . لنستكشف مفيد أدناه بخصوص هذا المآل :
يا ابنة عمران …
هذه البلاد ممتلئة بالنخيل
و بالجوعى ..
هذه البلاد..
أعيتها الفصاحة
و لم يعد لها سوى البكاء
صرخة عظيمة بوجه الظلم بإعتبار أنّ مريم والمقولة القرآنية الشهيرة ( هزي اليك بجذع النخلة يتساقط عليك ثمرا جنيا ) . فهل هذه تنفع اليوم في إشباع الشعوب المغلوب على أمرها أم انها أوهام وأساطير أكل الدهر عليها وشرب وبقينا شعوب أعيتها الفصاحة لأننا أمة تثرثر وتجلجل فقط والضجيج لايأتي الاّ من العربات الفارغة . ويبقى مفيد معتداً بنفسه لكثرة ماتعلّمه من دروس الحياة التي لايمكن أن تتشكل بها القداسة لتكون هي المعيار الحقيقي في سلوكنا وأخلاقنا ، بل هو يتحدى ويقول قولته الصارخة بوضوح لاجدال فيه كما أدناه :
لم يعمدني أحد بماء مقدس
و لم أعرف ماء مقدسا سوى دمع أمي
ولماذا دمع الأم ، الا يتوجب علينا أن نقول سرور أمي ، لكنّ مفيد يريد أن ينقل لنا رسالته من أننا أمة دمّاعة بكاءة منذ الخنساء وحتى الآن ، بينما الفينيق هم شعوب الحضارة السورية التي إزدهرت وعاشت دهورا عظيمة . ومهما يكن فإن مفيد هنا قد توفق في حب الأم وتقديس دمعها فالأم الهمت أغلب الأدباء من محمود درويش ( أحن الى خبز أمي ) الى مظفر النواب وهو يقول (انقلوني الى حضن أمي لأنام) . ويبقى مفيد في ظل وطن يُرتجى له أن يتعافى وأن تهدّم كل الأسوار بشتى مفاهيمها . لنحدق الى ماقاله مفيد بهذا الخصوص في ثيمته التالية :
يمتد سور أمام بيتي
متداع بلون كالح
فتحت فيه فجوات و أبواب مشرعة
لكني
أحس دائما أن ما خلف السور ليس كما أمامه ..
يقول سعدي يوسف : على الأسوار ولدنا وتحت الأسوار نموت / لم نعرف في بابل غير القتل لأجل القوت) . ويظل المرء في أوطانٍ عبارة عن أسوار ضخمة منيعة وحصينة ورغم ذلك يتصور هناك أبواب مشرعة قابلة للإختراق والخلاص الى ما خلف السور الذي هو أيضا عبارة عن مجاهيل مخيفة مرعبة لانعرف الى اين تصل بنا لكننا نظل نحلم ونحلم في أن نطلق ساقينا للريح ونرحل الى تلك المجاهيل مهما كانت أهوالها . لنقرأ مفيد في حلمه وما إكتشف في صيرورته :
في الحلم
رأيت رجلا يشبهني تماما
كان ينظر إلي باستغراب
و أنا أنظر إليه باستغراب
قلت متلعثما :
هل تعرف مفيد عيسى أحمد ؟
تبدلت نظرته إلى الأسى
أما أنا .. فبكيت
هنا مفيد يخط لنا معنى المآلات التي نصل اليها من جراء إرهاصاتنا في أوطان أصبحت لاتطاق ومامن بد سوى العيش بها مرغمين مع أوجاع تعترينا نتيجة التقادم في السن على سبيل المثال وما تركته الأيام على وجوهنا من تجاعيد الحياة . ولذلك حين تلتقي نفسك أو مايشبهك وهذه تحصل عند لقاء المرء مع إنعكاس ذاته في المرآة وتبدأ المحاورة حتى تصل الى حالة التأسي والشفقة على النفس والبكاء على أطلال ماتبقى من نشيج في الروح التي أفسدها الدهر ولايمكن إصلاحها من قبل عطار أو طبيب . أو أن الواحد منا لايمكن أن يفهم شخصيته من خلال المرآة بل يرى أقنعة عديدة تعامل بها مع كل ظرف مجبر عليه في سبيل التعامل مع متطلبات الحياة وبني البشر المختلفين فيما بينهم حتى في التفاصيل الشيطانية الصغيرة . المرآة أحيانا تكشف لنا الجانب النرجسي في ذواتنا ، فكلنا مصابون بالنرجسية ولكن على مستويات مختلفة وأعظم مثال على ذلك كما رسمته لنا الإنطولوجيا هو الأمير( نيرسيس) حين نظر الى نفسه في مرآة الماء وجد نفسه من أنه الجميل الذي لايضاهى ولذلك لم يقبل بأي إمرأة أقل منه جمالا وظل ينظر في الماء حت إنحنى كما تنحني شجيرة النرجس على الماء ومنها جاءت كلمة النرجسية أو نيرسس . النرجسية خلقت في شعوبنا مالايصدق من المناكفات على الصعيد الشخصي وعلى الصعيد المنظوماتي وعلى صعيد الحكومات التي خلقت أوطاناً يعيش بها المرء بخوف مستمر من القتل أو الفناء . لنقرأ مفيد بما يخص ذلك :
يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع في الجــــــــــــــــــــــزء الثانـــــــــــــــــــــــــي