فيينا / الأحد 13 . 04 . 2025
وكالة السيمر الاخبارية
د. نضير الخزرجي*
كلُّ منا وهو صغير أو يافع أو مراهق خط للتو شاربه قد واجه سؤالاً مصيرياً من معلمه أو مدرسه أو مربيه أو حتى أبيه ومن هو أقرب إليه من ذويه، سؤال يبدو عفوياً ولكنه خطير الشأن، ومنتهى غاية السؤال: يا هذا ماذا تحب أن تصبح في المستقبل؟
مثل هذا السؤال بالتأكيد قابلته أنت بالمدرسة كما قابلته أنا عندما بدأ المعلم يسأل كل تلميذ عن الغاية من التعليم وماذا يريد كل منا أن يصبح في قابل السنين عندما نترك عتبة الجامعة إلى ساحة الحياة، قال بعضنا: أريد أن أصبح طياراً وقال الآخر أريد أن أصبح مهندساً، وقال الثالث أريد أن أصبح طبياً، وقال رابعنا أريد ان أغدو مثلك معلما ومدرسا، وهكذا تتوالى الأجوبة وتتشاكل في كثير منها، ونادراً ما سمعت أحدهم يقول أريد أن أصبح رئيساً أو وزيراً ربما للرعب المسيطر على العائلة العربية، والكثير من التلاميذ أو الطلبة تعاهدوا وأنا منهم على اختيار مهنة التعليم ربما تماهياً مع مهنة السائل واستحياءً منه حيث ننظر إليه بمقام الأب والمربي وأكثر، أو لأن شقيقي المرحوم سمير الخزرجي (1947- 1979م) مدرس اللغة العربية في إعدادية كربلاء، وشقيقتي المرحومة فضيلة الخزرجي (1945- 2000م) مدرسة اللغة العربية في بغداد، كانا عضوين في سلك التعليم، أو ربما لسلامة الفطرة التي تتناغم مع أهمية التربية التعليم التي هي مهنة الأنبياء والرسل، وما المربي الرسالي والمعلم والمدرس والأستاذ الجامعي إلا جنديٌّ من جنود وحي الله إلى خلقه وعباده.
في صيف عام 1974م زارنا في منزل الجد الحاج علي شاه البغدادي الخزرجي وسط مدينة كربلاء المقدسة حيث فيه ولدت ونشأت، زوج شقيقتي المرحومة أم طارق نداء (سميرة) الخزرجي (1954- 2023م) التدريسية السابقة في كلية الإدارة والاقتصاد بجامعة البحرين، وانتبه الأستاذ أبو طارق عبد الكريم العلوان المساعد السابق لعميدة جامعة البحرين لشؤون الطلبة إلى وجود دفتر ضمن دفاتر دراستي في بداية مرحلة المتوسطة تتدلى من بين صفحاته المنتفخة ذؤابات ورقية، فأخذه وفتحه ووجد فيه قصاصات صحف ومجلات كنت ألصقتها ووضعت تحت كل قصاصة ملاحظة مع تاريخ الحدث، فالتفت إلى شقيقتي وهو يتصفح الدفتر قائلاً: أرى أنَّ شقيقك هذا سيصبح في يوم من الأيام إعلاميا أو كاتباً وربما سياسيا.
في وقتها ابتسمت منتشياً للإطراء وكان لي من العمر 13 عاماً، وزادتني ملاحظته ارتياحا بخاصة وهو كان وما زال رعاه الله بشوشاً يترك في أي مجلس أثراً طيباً، وغابت عني حينها رغبتي في مهنة التعليم والتدريس التي حدثت بها نفسي ومعلمي حينما سألني عن رغبتي المستقبلية، وكنت شغوفاً بالقراءة وكتابة الخواطر الصغيرة، وواظبت وبشغف على قراءة واقتناء مجلة (مجلتي) وجريدة (المزمار) وكلاهما للفئة العمرية الصغيرة، وقراءة جريدة الراصد الأسبوعية للفئة العمرية الكبيرة، وفيما بعد متابعة الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية العراقية والعربية، فضلاً عن قراءة قصص الأطفال التي كانت توفرها مكتبة مدرسة العزة أيام الدراسة الابتدائية في منطقة باب طويريج، والمواظبة على قرع باب مكتبة متوسطة الكرامة في منطقة باب الخان، وفيما بعد مكتبة إعدادية القدس في حي العباس، فضلاً عن العمل لخمسة أعوام حتى خروجي من العراق مرغماً سنة 1980م في مكتبة الزهراء بشارع الإمام علي عليه السلام لصاحبها المرحوم أبو حيدر حسن الگلگاوي.
وتحققت نبوءة زوج شقيقتي فصرت إعلامياً، وكاتباً، وسياسياً، وفيما بعد أكاديمياً وباحثاً، ولكني حُرمت من تقديم خبرتي وتجربتي في العهد العراقي الجديد لتداعيات حزبية ومناطقية جائرة، وكذلك حُرمت من تقديم خدماتي الجامعية لبلدي بفعل قرارات سياسية راجلة نافرة للطاقات المهاجرة.
والآن بعد هذه المحطات المتعددة التي وقف عندها قطار العمر، بحلوها ومرها، بصالحها وطالحها بفرحها وترحها، ولو عاد بنا الزمن إلى أول سؤال عرضه علينا المعلم أو المربي عن أحلامنا وآمالنا في المستقبل، يا ترى ماذا سيكون الجواب؟!
بالتأكيد ليست الأماني قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان، وليس كل ما يتمناه المرء يدركه ويطاله، فالعبد يريد والرب يريد ولا يكون إلا ما كتبه الله ضمن سلسلة قوانين طبيعية لاختيارات المرء في تلافيفها مدخلية.
سؤال كان في أول محطة العمر مصيري وفي آخرها تحصيل حاصل، حيث بانت على خارطة خط المسير كل المحطات، ويبقى ما ينفع المرء العبرة والاعتبار ونقلها إلى الأبناء والأحفاد وإلى من يهمه أمره ومصيره.
تساؤل من وحي التجارب
مثل هذا التساؤل ولكن بطريقة أخرى سأله لنفسه وعرضه على غيره الفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب أسماه “لو وُلدتُ من جديد” صادر حديثاً (2025م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 44 صفحة، كراسة صغيرة الحجم كبيرة الأثر عظيمة المعاني والخطر، وهو سؤال لا شك يقف على أطراف لسان كل واحد منا قطع أشواطاً طويلاً من عمره ينظر إلى حصائد أعماله وما جنته يداه من خير أو شر.
ولأنَّ المرء مرهون بوالديه، فإن الفقيه الكرباسي وبلسان حال كل واحد منا، يذهب بعيداً إلى ما قبل الولادة متحدثاً عن رغبته فيما يريده لوالديه قبل ان تنعقد نطفته، ويضع سلسلة من الرغبات والأمنيات يعرضها على كل زوج وزوجة يريدان قطع مشوار الحياة نحو حياة أفضل للأبناء والأحفاد، وبتعبير الأديب اللبناني عبد الحسن راشد دهيني في مقدمة الناشر: (كثير من الناس في مراحل كثيرة من حياتهم يتمنون لو وُلدوا من جديد، إما ليعيدوا صياغة حياتهم صياغة أخرى، أو ليسلكوا دروباً كانوا قد ظنوا أنها ليست بمفيدة لهم أو بالعكس، أو ليتجنبوا شوائب علقت بهم نتيجة أخطاء ارتكبوها فأثرت عليهم دينياً واجتماعياً وأسرياً وغير ذلك. هذا في العموم، ولكن ما أراده مؤلف هذا الكراس سماحة آية الله الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي دام ظله أعمق بكثير، لأنه يعود بالمرء إلى ما قبل ولادته، ليتقدم بلائحة طويلة من المطالب لوالديه، ابتداءً من يوم اقترانهما إلى ما بعد ذلك ما يشمل كل المراحل في حياة الإنسان).
ويتناول المؤلف في التمهيد تحت عنوان “الخلقة والتكاثر” مراحل خلق الأرض وما فيها من حيوانات ونباتات وجمادات، وقد أفرد حديثا عن خلق الإنسان والبيئات الثلاثة التي اكتنفته، وهي أولا: البيئة التأهيلية: التي مهدت لسلامة الكرة الأرضية واستصلاحها لاستقبال ابن آدم، وثانيا: البيئة الحاضنة: التي احتضنت آدم بعد أن أهبطه الله إلى الأرض، وثالثاً: البيئة المربيّة: التي لها الأثر الكبيرة للخلقة السوية.
وواحدة من اشتراطات سلامة البيئة الثالثة كما يراها الكرباسي : (اختيار الشيء المناسب ليكون عِدلاً للشيء المناسب الآخر وإلا لفلت الأمر ووقع ما لم يُقصد، فإذا قالوا الشخص المناسب للمكان المناسب في الوظائف، فنقول هنا الرجل المناسب للمرأة المناسبة والعكس هو الصحيح، وهذا هو الذي نريد أن نعرضه في هذا الموجز الذي نرجو أن نكون بذلك قد تمكنا من الوصول إلى الهدف المنشود وعرضه على الفتيان والفتيات)، والغرض الرئيسي من وراء هذا الكتيب كما يفيدنا المؤلف أن: (هذه الفكرة لم تأت من عبث بل مرّت بتجارب مختلفة وبمُعاشرات متنوعة من قوميات عايشتهم ومن مذهبيات رافقتهم طوال سنين عجاف وأخرى سمان إلى أن ولدت فكرة الكتابة عنها، ووجدت نفسي أمام كم هائل من المعارف لو أُتيح لي المجال ببيئة مساعدة لكنت معطاءً ولكنت أكثر سعادة، وأقل شقاءً وأكثر إنتاجاً).
وألحق بالتمهيد تخميسة من نظمه، من بحر الرمل، أوجز فيها مراده:
لَوْ وُلِدْتُ اليوم فيكم من جديد
سِفْرُنا هذا أتاكم تحفةً في
حُقبَةٍ نرجو بها صدقاً سَيوفي
هذه في ذي الدُّنى تحكي سُيوفي
أصبحت عيني عليكم من جديد
واختتم الكتيب بتقريظ من بحر مجزوء الكامل المرفل للشاعر الجزائري المقيم في لندن الدكتور عبد العزيز مختار شَبِّين، قال في أوله:
رُؤْيا قديمٍ وَلَو بِبيدِ … وُلِدتُّ كالطَّيْفِ مِن جديدِ
ثم يُنشد مغرداً:
كنتُ على موعدٍ خضيلٍ … نادى إلى شوقه المديدِ
دَوْحي غفا منذُ كانَ طفلاً … معي على الأغنياتِ ميدي
وينهيها حاضناً بكفيه هام عمتنا:
يا نخلتي إفترَّ ثغرُ نايٍ … تبرعمَ الغُصْنُ للوليدِ
كَرباسُ عُد من مُهودِ ذِكرى … ترتَجُّ مِنْ نفخَةِ اللُّحودِ
إلى من يعنيه أمري
ولإن الإنسان ابن بيئته، ولإن الوليد ابن أمه وأبيه، فإن الكرباسي الذي يتحدث بلسان حال الوليد يتمنى على والديه أموراً وزعها على 101 أمنية تقاسمتها محطات حياته من قبل الولادة وحتى الممات، وأفرد لنفسه 14 أمنية، فكان المجموع 115 أمنية لو تحققت حتى ولو القليل منها لأمكن ضمان ولادة إنسان سوي ومجتمع قويم، ومما تمنى على والديه إن أرادا أن يولداه من جديد:
* الالتزام بالأحكام والآداب الإسلامية، وبالأخلاق الإنسانية، وبالنصائح الطبية، وبالمحبة والمودة.
* أن يختارا له بلداً تسود فيه الحرية والمعرفة وجمال الطبيعة.
* أن ينجبا له أخاً أو أختين مثله، ويختارا رفقة وصحبة مثله، ومراحل دراسية مثلى، وبيئة سليمة وأجواء حرة.
* وإذا أراد الإنجاب أن يدرسا فقه الجنين وتعلم فن التربية والتعامل، والأخذ بإرشادات الطبيب والتعرف على الأمور النفسية وما فيه صالح الوليد، ثم يتركا الباقي على رب العباد متوكلين عليه.
* أن يختارا وقتاً مناسباً إذا ما أرادا تقارباً لضمان ولادة سليمة في شهر سعيد في أجواء نفسية مريحة وعيش رغيد وسط مجتمع سليم.
* وإذا ما استقرت النطفة المخلَّقة في الرحم يرجو من والديه أن يرزقانه طيب الطعام وحلاله ويغمرانه بفرحهما وإسماعه كلام الله وذكره.
* وإذا ما حلت ساعة المخاض، أن ينتقيا مكاناً مناسباً للولادة وقابلة ومولدة مؤمنة، والقيام بالمراسيم الشرعية، ويعرضانه للفحص الطبي المفيد، والحفاظ على النظافة والطهارة، وأن يختارا له من الكنى الجميل ومن اللقب الخميل ومن الاسم النبيل.
* وفي أيام الحضانة يختارا له أنظف الثياب وأزهاها، ورضاعة طبيعية منظمة وإسماعه حلو الكلام.
* ولأن التربية مقدمة على التعليم فيرجوهما ان يربياه وفق أسس علمية وإسلامية، ويدفعانه إلى حب العلم والمعرفة، ويرشدانه إلى سلك دروب الحق ودحض الباطل، وأن ينميا فيه روح الشجاعة وتزكية النفس.
* وإذا ما مرت الأمور بسلام يدعوهما إلى تدريبه على حب الفضيلة وكراهة الرذيلة، وأن يختارا للهوه ألعاباً هادفة تنمي الذاكرة وتجلو الباصرة، ويطعمانه صحي الطعام وحلاله، ويلقيا في روعه كلمات الحب والتوحيد والمعرفة والرسالة، وأن يرشداه إلى معايير الاحترام والصفات الجميلة والمعاني السامية، وانتقاء أفضل الأصحاب.
* وعندما يحين موعد التعليم يتمنى عليهما أن يختارا له أفضل مراكز التعليم ابتداءً من روضة الأطفال، وأن يراقبا ما اختاره من أصحاب وأصدقاء، وأن يتابعا دراسته داخل المدرسة وخارجها، وأن يدربانه على خوض مجال العمل، ويدلانه على أبجدية التعامل مع الآخرين، وأن تكون الرحمة سلاحهما في التربية وينبذان العنف.
* وإذا تجاوز مرحلة التعليم ودخل مرحلة العمل والزواج، يطلب منهما أن يرشدانه إلى خير الأعمال للارتزاق وإلى خير النساء للعيش الهني، وأن لا يتدخلا في كل صغيرة وكبيرة من أمور حياتهما بمحض عاطفة دون عقلانية، وأن يتفهما حياة الزوجين لأن الجيل الجديد له رؤيته وتطلعاته، وأن يتعاملا مع الزوجة كصديقة ولا يقاطعانها إذا ما حلَّت مشكلة، وأن ينظرا إلى الأحفاد والأسباط بعين العطف والرحمة، وأن يكونا ناصحين غير آمرين، يضعان ولدهما وزوجته في ميزان واحد، وأن يكونا لهما عوناً ويشملانهما بدعائهما، فدعاء الآباء في حق الأبناء مستجاب بإذن الله.
* وإذا طوينا هذه المراحل بأمان، فتضحية الأبناء للوالدين قائمة راسخة، والأبناء وما يلدون خير خلف وامتداد لهما، وإذا استقام الأبناء نال الوالدان رضا الله، ورجعا إلى دار الآخرة بنفوس مطمئنة، ويخلد ذكرهما في الأولى، ويكونان قد أدَّيا مهمتهما في دار الدنيا على أحسن وجه ونالا الذكر الطيب وفي الآخرة الخلود، لأنهما بما عملا وأفادا بعثا الأمل في نفوس الأصحاب والأصدقاء وأوجدا مدرسة فكرية واجتماعية وعمقا حب الخير والرسالة الإسلامية في نفوس الأبناء، وسعيا إلى حل النزاعات بلسان اليسر والمحبة، وبذلك ساهماً بشكل كبير في نشأة جيل مسؤول، وبناء حياة سليمة، وحققا مفهوم خلافة الإنسان في الأرض.
وفي نهاية المطاف لو عاد المؤلف من جديد ومن نطق على لسانه وولد ثانية بعدما خاض تجارب الحياة فإنه سيخطو في هذه الحياة وهو كامل الإيمان برب الأرباب، ومن تبعات هذا الإيمان أن أكون عبداً مطيعاً لتعاليم السماء، وأن تكون الأخلاق هي سبيل التعامل والتعايش مع القريب والبعيد، وأن أكون خير صديق لنفسي مع غيري، وأن استفيد من كل لحظة دون أن تذهب هدراً، وأن يكون الإصلاح ديدني، والمودة والمحبة والرحمة مركبي، وان لا أتدخل فيما لا يعنيني، وأن أطرد الخوف عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالتي هي أحسن، وأن يكون الدليل والبرهان مرشدي، وأن يكون الموت نصب عيني والشهادة في سبيل الله أمنيتي، بعد أن أكون قد أحييت آخرتي بإعمار دنياي دون تهاون أو كسل، وأن أكون للناس خير داعية بحسن عملي وصالح سلوكي، فخير الناس من نفع الناس ونال رضى رب الناس.
ثم نعود ثانية إلى سؤال البداية، وفي البداية مفتاح لغز النهاية، ونحدِّث أنفسنا بصوت عال: وحيث فشل الواحد منا أن يكون كما رغب أن يكون وذابت شمعة أمنياته على نار التجارب المرّة، فلا أقل أنْ يسعى لأن يكون ولده خيراً منه، ويفتخر بما حقق له الوالدان وإن قل، فلا يأسى على ما فات ولا يغتر بما هو آت.
*كاتب وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات- لندن
وفق حرية الرأي والنشر يتم نشر هذه المادة والجريدة غير مسؤولة عما ينشر فيها من مواد واخبار ومقالات