السيمر / فيينا / الاحد 21 . 06 . 2020
ثامر الحجامي
لا أحد يدخلك التاريخ؛ أو تحظى بحرف في سجله، أن لم تقاتل من أجل ذلك.. بل ربما تزل قدمك في منتصف الطريق، فيظهر أسمك بصفحاته السوداء، تنالك ألسن الأجيال وأقلام المؤرخين، لكن كتابة التاريخ الناصع، تحتاج صدقا في النية وتوفيقا في العمل وأثرا على الأرض، وربما تتطلب دماء لتكون حبرا للكتابة، وضياء للاجيال يدلهم على الحقيقة.
جسدت الشهيدة أمية الجبارة ذلك وكأنها ولدت لتدخل التاريخ، وليكون لها سطور فيه بأحرف من نور، فمنذ ولادتها عام 1974 وحتى إستشهادها في اواخر حزيران عام 2014 كانت تنحت في سطور تاريخها، الذي سيظل جزءا من الإرث الكبير لبلاد ما بين النهرين، وقصة تحكي كيف وقفت النساء مع الرجال على سواتر المواجهة، للتصدي لاعتى هجمة إرهابية تعرض لها العراق في تاريخه الحديث، وكيف إمتزجت دماء العراقيين من اقصى الجنوب مرورا بالوسط والشمال، ومن مختلف طوائفه وقومياته..
ولدت أمية ناجي الجباره في مدينة العلم في محافظة صلاح الدين، من عائلة مرموقة يشهد لها التاريخ بالكرم والجود، وتقديم التضحيات والبطولات من أجل الوطن.. فوالدها أحد مشايخ عشيرة الجبور الكبيرة، لتكمل دراستها في مدينة العلم ثم تصبح معلمة في مدارس مدينتها، وتتزوج هناك ويكون لها اربعة اطفال، ابنان وبنتان، لكنها لم تكتفي بذلك فإلتحقت بجامعة تكريت وتخرجت منها عام 2011 بعد أن حصلت على شهادة البكالوريوس في القانون.
عملت الشهيدة في منظمات المجتمع المدني، فأصبحت مديرة ” منظمة المرأة العراقية والعربية” ومثلت محافظة صلاح الدين في برنامج الزائر الدولي في الولايات المتحدة عام 2011، وشاركت في حملة إغاثة النازحين، وكانت توصل المساعدات الى النازحين بيدها، كما كانت ناشطة في مجال حقوق الانسان منذ عام 2005، وهي إحدى المؤسسات لمنظمة “نساء بلا حدود” ، فإستحقت إختيارها مستشارة محافظ صلاح الدين للمرأة والرعاية الإجتماعية.
لعائلة أمية قصة مقاومة وثأر مع تنظيمات القاعدة التي تغلغلت في المحافظات الغربية بعد 2003، واستباحت كل معارض لنفوذها، أو مؤمن ببناء الدولة، فتعرض والدها الى الخطف عند مجيئه من الحج عام 2006 وتم اغتياله، حين كان يشغل منصب رئيس مجلس محافظة صلاح الدين، وبعدها أستشهد أخيها في سامراء عام 2007 عندما كان يشغل منصب قائد الصحوة، ثم عمها عبدالله الجباره الذي أستشهد في حادثة إقتحام مجلس محافظة صلاح الدين من قبل عصابات القاعدة عام 2011.
بعد إجتياح داعش للمحافظات الغربية رفضت عشيرة الجبور في ناحية العلم دخول المجاميع الارهابية الى المدينة، وكانت أمية في مقدمة المتصدين والمطالبين بتخليص محافظتها من الارهابيين، وهي التي كانت تقول” نحن أحفاد حمورابي، فكيف نسمح لبلدنا أن تحكمه شريعة الغاب؟ ” فحملت السلاح مع أبناء عمومتها للدفاع عن أرضهم، والتصدي لعصابات داعش التي صارت تهاجم المدينة محاولة اقتحامها.
أصبحت بطولات الشهيدة ووقوفها على سواتر المواجهة مع الارهاب، مثار إعجاب العالم وحديث الجميع، وصارت نبراسا للمتصدين لمحاربة داعش، وصوتها منبرا يستنهض الهمم ويشد العزيمة في مواجهة عصابات الكفر والارهاب، فتم تكريمها بمنحها هوية شيوخ العشائر، وهي أول إمرأة عراقية تمنح هذه الهوية، تقديرا لدورها البطولي وشجاعتها، ووقوفها كنخلة شامخة تأبي أن تنحني لرياح الكفر والظلام، وكانت مثالا للايثار والصمود حتى تحقق تحرير بلدتها مطلع عام 2015.
في 22 حزيران عام 2014 تصدت امية وابناء عمومتها الى ارهابيي داعش الذين حاولوا إقتحام البلدة، وإندلعت إشتباكات حامية بين ابناء العشائر والارهابيين، تمكنت خلالها أمية من قتل ثلاثة منهم، قبل أن تأتيها إطلاقة قناص داعشي، لتسيل دمائها على تراب وطنها وتمتزج معه.
ذهبت أمية الجبارة بعد أن نقشت إسمها في التاريخ، وسطرت ملحمة بطولية جعلتها رمزا وفخرا لكل النساء ولعشيرتها وأبناء مدينتها بل العراق كله، وأثبتت أن دماء العراقيين واحدة من شماله الى جنوبه، وأن الذي يريد وطنا مستعد أن يضحي بأغلى ما يملك من أجل ذلك.