أخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / حوار مفتوح: نحو مرحلة جديدة فى العمل العربى المشترك.. شروط القيادة.. الفكر القومى ومشروعه مجددا

حوار مفتوح: نحو مرحلة جديدة فى العمل العربى المشترك.. شروط القيادة.. الفكر القومى ومشروعه مجددا

د . لبيب قمحاوي / الاردن

د . لبيب قمحاوي مفكر عربي من الأردن

البحث فى الحالة القومية واستنهاض الفكر القومى امتد على مدى عقود ولم يصل إلى نتيجة حاسمة سوى اجترار الماضى وإعادة اجتراره بكل ما له وما عليه، والتشبث بالانتماء القومى ضمن المنظور الكلاسيكى، والإصرار عليه بالرغم عن التجارب السلبية والأخطاء المغلفة ببعض الإنجازات والتى رافقت التجربة القومية منذ النصف الثانى من القرن العشرين. إن الالتفاف على أى قضية، أو الاختباء فى ثنايا عباءة قدسيتها، لا يعطى المبرر للتغاضى عن الأخطاء التى غَلَّفت مسيرتها، أو يوفر العذر المُحِلّ للتمادى فى الخطأ تحت شعار الاستمرارية.
فى البدايات الرومانسية للمشروع القومى الوحدوى اتسع قلب العروبة القومى الشاب للعرب جميعا، ولكن التزمُّت والإقصائية جعلته مع مرور الوقت يضيق بتعددية المذاهب والأعراق والقوميات المحلية أو الفرعية المتواجدة ضمن الجسم العربى. لقد سقط التصور التقليدى الحالم للمشروع القومى تحت معول الواقع وأصبح مع مرور الوقت مدعاة للسخرية أو الاستخفاف من قبل البعض باعتبار أن من يؤمن بهذا المشروع هم ذلك النوع من البشر الحالم الذى يفتقر إلى الواقعية. وقد ساهم هذا الموقف بالنتيجة فى إزالة أى هالة من الاحترام أو القدسية للمفاهيم القومية كما سادت فى الحقبة الممتدة من أربعينيات القرن الماضى وحتى بدايات القرن الحالى مما سمح للبعض من المسئولين العرب بالتطاول مؤخرا وعلنا على العروبة وعلى الرابطة القومية .
إن سقوط السياسات التى ارتبطت بالمشروع القومى منذ هزيمة عام 1967 قد أدت إلى التخلى التدريجى على أرض الواقع عن منظومة القيم والمفاهيم المرتبطة بذلك المشروع. وهكذا، فإن فشل السياسات قد أفشلت المشروع وليس العكس، وهذا أمر يتوجب النظر فيه بدقة باعتبار أن الحفاظ على المفاهيم القومية الأساسية للمشروع القومى أمر يفوق فى أهميته أى سياسات مرتبطة بذلك المشروع .
أعداء المشروع القومى ساهموا فى تعظيم أخطاء السياسات التى ارتبطت بالمشروع القومى، وكان الهدف الخفى الحقيقى هو تدمير المشروع القومى نفسه وليس تغيير السياسات المرتبطة به. وفى ظل غياب قيادة قومية قوية بعد وفاة عبدالناصر، انفرد أعداء المشروع القومى من الحكام والأنظمة العربية بالساحة وأعملوا معاولهم التدميرية بالمشروع القومى .
***
إن فشل الفكر القومى فى التعامل مع الحالة القطرية كرافد للانتماء القومى يعود فى أصوله إلى النهج الإقصائى والجمود الفكرى الذى تعامل مع الانتماء القطرى باعتباره نقيضا للانتماء القومى عوضا عن التعامل معه كرافد لذلك الانتماء الأشمل. وهذا الوضع قد يفسر تفاقم الأمور فى بعض الحالات إلى حدود الصدام أو كسر العظم، خصوصا فى ظل تمادى العديد من الأنظمة العربية فى تكريس الحالة القطرية والانتماء القطرى كوسيلة للبقاء وحفظ المصالح، مما جعل من العقيدة القومية عدوًّا للمصالح القطرية وهى الأكثر قوة وإمكانات وأهمية من الانتماء القومى، وبالتالى جعل من مقاومتها جزءًا من برنامج الانتماء القطرى .
لعل النهج الإقصائى ومحاولة العديد من المفكرين القوميين التغاضى عن هذا القصور فى النهج عوضا عن التصدى له والعمل على إيجاد معادلة عادلة وفعالة تجمع بين الانتماء القومى العربى من جهة وواقع انتماء العديد من المجموعات العرقية العربية إلى قوميات أو حضارات أو طوائف أو مذاهب مختلفة من جهة أخرى .
***
لا داعى للخوض فى الأسباب والمسببات التى عصفت بالعقيدة القومية والفكر القومى، فهذه أمور أُشبعت تحليلا ودراسة. الأمر الهام الآن يكمن فى الأفكار الجديدة المطلوبة والتى يجب ألا يتم طرحها كبديل للفكر والعقيدة القومية السائدة، ولكن كمدخل نحو التحديث والتطوير وبما يُمكِّن من استنهاض الحركة القومية وتحويلها إلى إطار فاعل ومقبول من الجميع .
لا ريب فى أن المطالبة بهذا النهج فى التغيير والإصلاح سوف تُقابَلُ بمقاومة شديدة من جهتين: الأولى هى القوى القومية التقليدية التى لا تريد أى تغيير فى النهج القومى التقليدى؛ والثانية هى القوى الجديدة الطاردة التى تطالب بإلغاء أى انتماء عربى وفك الارتباط تماما بالقومية العربية والهوية العربية. وفى هذا السياق فإن المطلوب توافره هو الرؤية السليمة والقدرة على الخروج بنهج جديد يمنع الانهيار ويحافظ على الحد الأدنى اللازم للمحافظة على المصلحة العامة للشعوب والأوطان العربية. فأى عملية تبدأ بهدم القديم تماما تمهيدا لاستبداله كاملا سوف تصب فى اتجاه الشرذمة من خلال هويات فرعية صاعدة، مذهبية أو طائفية أو عرقية، والتى سوف تسارع إلى ملء الفراغ الذى سينشأ عن عملية الهدم .
إن أهم مشكلات العقيدة القومية العربية تتمثل بتركيزها الواضح والمستمر على البُعْد السياسى دون سواه، فى حين أن الهوية العربية عَبَّرت عن نفسها بارتياح وسهولة واضحين فى مجالات أخرى كالفنون والآداب والثقافة العامة، حيث ذابت الفروق وطفا على السطح شعور عام بالانتماء إلى هوية واحدة فى أرجاء الوطن العربى جميع، وحتى فى المهجر .
المطلوب الآن تحويل العقيدة القومية من أيديولوجيا عقائدية عربية إقصائية ومتزمتة إلى هوية عربية مرنة شاملة وجامعة تتسع لكل أبناء الأمة دون أن تفرض عليهم التنازل عن خصوصيتهم وخصائصهم سواء أكانت وطنية أو عرقية أو عشائرية أو طائفية أو مذهبية أو أى شىء آخر. يكفى أن يعتبر المواطن نفسه عربيا، بمعنى أن يعترف طواعية بتلك الهوية وأن يتصرف باعتباره عربيا دون أن يعنى ذلك أن عليه أن يتنازل عن كل شىء آخر يعكس خصوصية ما. فالعراقى الكردى يستطيع مثلا أن يكون ذا هوية عربية وعراقيًا وكرديًا فى نفس الوقت دون أن يكون هنالك أى تعارض بينهم.
***
الهوية العربية هى المستقبل والعقيدة القومية هى الماضى بما له وما عليه. خصائص الهوية عامة وليست محصورة بالسياسة ولكنها طوعية بطبيعتها كونها تشمل أى شىء يرغب الفرد فى تأكيده وتكريسه مثل اللغة أو التاريخ المشترك الجامع أو الثقافة والفنون والآداب أو المصالح المشتركة .
المطلوب أيضا فى هذه الحالة هو البحث عن وسائل وآليات وأفكار تسهم فى وضع إطار مَرن يستوعب الواقع لا مطرقة تعيد تشكيله. إن القدرة على توفير إطار واسع مرن وفضفاض يتسع لكل أشكال التنوع الثقافى والإثنى والدينى الموجود فى الجسم العربى، ويسمح للمجموعات المختلفة بالتعبير عن نفسها بحرية ضمن إطار هوية واسعة جامعة مقبولة لا مفروضة، هى من علائم الحل الحقيقى لإعادة صياغة مفهوم العروبة وتحويلها إلى هوية مرنة وسَلِسَة تتسع للجميع. وفى هذا السياق فإن التجوال بحرية ضمن إطار هوية عربية جامعة ومرنة يفتح الباب أمام الجميع للاستجابة لمشاعرهم، العرقية منها أو الوطنية أو الدينية أو المذهبية أو السياسية، دون أن يؤدى ذلك إلى تفتيت الدولة والمجتمع، لأن الهوية العربية المرنة لن تتناقض فى هذه الحالة مع كون حاملها مثلا كرديًا أو تركمانيًا أو بربريًا أو مسلمًا أو مسيحيًا أو شيعيًا أو علويًا….إلخ ولا يُفْرَض عليه أن يختار بين هذا وذاك .
ترتبط هذه الرؤية الداعية إلى تكريس مفهوم الهوية العربية بالدعوة إلى نظام فيدرالى عربى ديموقراطى عوضا عن الإصرار على التشبث بدولة الوحدة كدولة مركزية يذوب فيها كل شىء. الدولة الفيدرالية التى تقبل بخيار الهوية العربية، وفى الوقت نفسه تحتفظ بحق الانتماء الوطنى القطرى هى الحل الأكثر واقعية .
وهكذا، فإن الهوية العربية بثوبها الجديد المنشود يجب ألا تكون إقصائية كى تتمكن من أن تكون جامعة. والهوية الجامعة لا يمكن أن تتحول إلى حقيقة إلا فى أجواء ديمقراطية تُشعر الجميع بالأمان، وبأنهم سادة مصيرهم، وأن مقدراتهم هى بأيديهم لا بيد حاكم مستبد أو عقيدة إقصائية .

اترك تعليقاً