الرئيسية / مقالات / غزةُ… ألا مِن حُرٍ يسمعُ صراخَها ويلبي نداءهَا

غزةُ… ألا مِن حُرٍ يسمعُ صراخَها ويلبي نداءهَا

السيمر / فيينا / الاحد 06 . 09 . 2020

د . مصطفى يوسف اللداوي

فهي رغم الجوع صامدة، ورغم الحرمان باقية، ورغم الحصار مقاومة، وهي تتحدى بضعفها جبروت الاحتلال، وتتصدى بإرادتها سياساته العدوانية، وتقف بصدور أبنائها العارية وقبضاتهم القوية في مواجهة العدو والحد من عدوانه، فأسقط شبابها ونساؤها بطائراتهم الورقية طائراته العسكرية، وتحدوا ببالوناتهم الحارقة صواريخه الفتاكة المدمرة، ومرغوا بمبتكراتهم المحلية البسيطة منظوماته الحديثة، وأفسدوا قبته الفولاذية، وعطلوا صافرات الانذار المتقدمة، وأربكوا حياة مستوطنيه وجعلوا حياتهم كوابيس لا تطاق.

غزة لا تعاني من قصف العدو وغاراته فقط، وهو قصفٌ مدمرٌ وغاراتٌ قاتلةٌ، بل باتت تعاني اليوم من عدواه الوبائية، ومن أخطاره الصحية، ومن أمراضه الكارثية، فبعد أن خلت لشهورٍ طويلةٍ من الجائحة، ونجت من الوباء الذي أصاب العالم كله، وسلمت من الكارثة التي حلت بالمنطقة وجيرانها، سهل العدو دخول فيروس كورونا إليها عبر معابره الأمنية، التي يضيق فيها على المواطنين الفلسطينيين، المرضى والطلاب والتجار وغيرهم، ويعرضهم لمخاطر الإصابة دون أن يوفر لهم سبل الحماية والوقاية، ثم يمتنع عن تزويد السلطات الصحية في غزة بما يلزم لمواجهة الوباء، وبما يحتاج إليه المواطنون لإجراء الفحوصات الطبية لهم، ويشدد الحصار عليهم ويمنع إدخال الأدوية والمعدات الطبية، ويتعاون مع غيره لمنع وصول المساعدات إلى القطاع.

الغريب في الأمر أن العديد من الأنظمة العربية باتت تكذبنا وتصدقهم، وتبتعد عنا وتقترب منهم، وتجافينا وتصادقهم، وتقاطعنا وتصالحهم، وتعاقبنا وتنفتح عليهم، وتطردنا وتستقبلهم، وتضيق علينا وتتعاون معهم، وتشطب اسم بلادنا وتثبت إسرائيل مكانها، وتنزل علمنا وترفع علمهم، وتزعجهم كوفيتنا وتسعدهم قلنسوتهم.

هذا ما بات يحزننا حقاً ويؤلمنا، ويشعرنا بالوحدة والغربة، والجفوة والخذلان، ويجعلنا نتساءل بحرقةٍ وألم ما الذي أصابنا وحل بنا، ولماذا كل هذا الكره والغضب، أهو عيبٌ فينا وخطأٌ عندنا، أم أنهم هم الذين ضلوا وتاهوا، وانحرفوا وانقلبوا، وبدلوا وغيروا، وكفروا وارتدوا، أم أن ما هم فيه الآن هو الأصل والحقيقة، وهو ما كانوا عليه في سرهم قبل أن تجهر به ألسنتهم.

رغم الصورة العظيمة التي يرسمها الفلسطينيون عموماً وأهل غزة على وجه الخصوص، والمعاناة التي يقاسونها، والصعاب التي يتكبدونها، والتحديات التي يواجهونها، والانتصارات التي يحققونها، إلا أنهم أكثر من يعاني من جفاء الأنظمة العربية وحيف حكامها، وأكثر من يقاسي من سياساتهم التي أصبحت تتحالف مع العدو ضدهم، وتتفق وإياه عليهم، وتتآمر معه ضدهم، وتتخلى عنهم لصالحه ليفرض وجوده ويشطبهم، وينزع هويتهم وينفي روايتهم، وينتزع أرضهم ويشتتهم، ويزيد في معاناتهم ويكذبهم، ويضيق عليهم ويخنقهم، ويحاصرهم ويقتلهم، وكأنه وحده من يستحق الحياة ويستأهل العيش الكريم، وهو الغاصب لأرضنا المحتل لبلادنا، الوافد إلى وطننا والمستوطن في ديارنا، ولكنه يريد فرض روايته علينا، والإيمان بحقه في بلادنا ومقدساتنا، بحجة أنها كانت يوماً لهم.

غزة تشعر أيها الأحرارُ بالوحدة وترى نفسها بين مخالب عدوها وأنيابه، يستفرد ويستقوي عليها، يبطش بها ويصب جام غضبه عليها، ويشعر وكأن العالم قد سمح له وأذن، وقبل بمهمته ورضي، ووافق على سياسته وسكت، فمضى قدماً يقصف ويدمر، ويهدم ويخرب، ويحاصر ويعاقب، ويضيق ويخنق، ويحرم ويمنع، ويقتل ويعتقل، في الوقت الذي تستمر فيه حياة دول العالم بصورة طبيعية، وكأنه لا يوجد شعبٌ يقتل، ولا يوجد أناسٌ يسحقون وتحت سنابك الجوع والحصار يطحنون.

وزاده جرماً وشجعه على اقتراف ما هو أكثر، جيرانه العرب الذين سكتوا وصمتوا، أو ربما صموا وعموا، أو أذنوا وسمحوا، فوافقوه على عدوانه، ورضوا على سياسته، وصفحوا عن جرائمه، ثم هبوا للتطبيع معه والاعتراف به، والتعاون معه والاشتراك وإياه، ظانين أنه حملٌ وديعٌ سيساكنهم، وجارٌ صادقٌ سيؤمنهم، وما علموا أنه ذئبٌ سيفترسهم، وثعلبٌ سيمكر بهم، وأفعى خبيثة ستخدعهم وتلدغهم، وأنه عما قريب سينقلب عليهم وسيتفرغ لهم، وسيفترسهم حتماً وحينها لن يجدوا من يقف معهم.

بيروت في 6/9/2020

  • كاتب من ارض فلسطين المحتلة

اترك تعليقاً