السيمر / فيينا / الجمعة 04 . 12 . 2020 —- الحوار الصحفي مع رئيس الحكومة السابقة، عادل عبدالمهدي، والذي كشف فيه الكثير من كواليس فترة حكمه، وما رافقها من أحداث وتداعيات.
وجاء في نص الحوار الذي نقله موقع “عراقي نيوز” (4 كانون الأول 2020) عن مجلة حوار الفكر:
كيف تنظرون إلى موضوع التدافع الدولي وعدم نضوج مشروع عراقي لاسيما عند توليكم الحكومة؟
دولة السيد عادل عبد المهدي
اعتقد ان ما جرى هو تجربة غنية جداً علينا ان نتعمق ونأخذ من دروسها الشيء الكثير، فالمتغيرات الداخلية والخارجية ليست متكاملة. هل يوجد علاقة متوازنة ما بين الداخل والخارج ؟ بحيث عندما نتكلم عن داخل وكإنما هو متكامل، وعن خارج كإنما هو حيادي، وكأن عندنا منظومة قيم وقواعد فاعلة وموحدة، ماعلينا سوى أن نستلهمها ونطبقها في بلداننا؟!
من الصعب الخوض بقضايا الهوية وبناء الدولة والتأسيس والدستور والنظام السياسي، فالعراق تشكل بعد سايكس بيكو 1917م كعراق معاصر، أما العراق الذي نعرفه تاريخياً (عراق خلافة) له منظومة قيم وقواعد في الحكم وفي السلطة وفي مفاهيم (السكان)، يختلف في ذلك عن مفاهيم ما بعد الحرب العالمية الاولى وسايكس بيكو.
بعد الحرب العالمية الاولى في الحقيقة حسب رأيي لم تحصل محاولات جادة للتأسيس. فدستور عام 1925م، الذي حدد شكل نظام الحكم بالنظام الملكي(الدستوري)، يجعل الملك مصاناً غير مسؤول، وهو مستلهم من النموذج الغربي عموماً في تنظيم الدولة الحديثة. لكن هذا النظام لم تسنح له الفرصة الكافية والشروط اللازمة ان يتأسس بحيث نستطيع ان نتحدث عن تأسيس الهوية العراقية بشكل متكامل، او النظام العراقي بشكل متكامل. السبب في رأيي ليس عدم المحاولة. فمركز القوة العالمي نفسه خلال فترة قصيرة اصابه الضعف. فتلك بريطانيا العظمى من العشرينيات الى حقبة الخمسينيات القرن الماضي ضعفت وتراجع دورها الدولي خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية.
العقل البريطاني كان هو الحاكم في العراق
التأسيسات الأولى، منذ مطلع عقد عشرينيات القرن الماضي وحتى مطلع الثلاثينيات وتحديداً عام 1932 كانت مرحلة الانتداب. وعموماً العقل والتشريع البريطاني كان هو الحاكم في العراق في الخلفيات السياسية والمناهج عامة سواء تعليمية أم تنظيمية أم إدارية …الخ. ثم بعدها بدأ تأثير بعض النفوذ الالماني في العراق لاسيما في حكومة بكر صدقي وحركة مايس، والتي هي انعكاس لصراع اوربي داخل العراق، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية وأثرها في تراجع دور بريطانيا وفرنسا والمانيا عالمياً، وما تبع ذلك من تصاعد دور وتاثير كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في النظام الدولي.
اذا كان المؤسس والمركز العالمي اصابه الضعف والتصدعات ، فهذا سينعكس قطعا على العقل و المشروع الداخلي، الذي استلهم كثيراً من مبادىء الحياة السياسية البريطانية، حتى ان مبنى البرلمان العراقي المفترض اكماله آنذاك (مبنى وزارة الدفاع حالياً)، استلهم التصاميم العمرانية البريطانية. فالوقت وتجذر التجربة واستمرار حالة الضعف والتفكك لم يسهما في تأسيس شيء متكامل لدينا، بحيث نستطيع ان نقول ان العراق امتلك خصائص تكوين هوية عراقية متكاملة وهذه حدودها، على عكس تركيا و إيران، فالعراق خصوصاً والدول العربية عموماً لم تنجح حقيقة في ان تكتسب كلياً مثل هذه الصفات.
المحاولة التأسيسية الأولى لم تتشكل ولم تكتمل ملامحها، اذ جاءت ثورة 14تموز بمفاهيم جديدة، وهي الجمهورية والثورة، ومع الجمهورية بدأت تبرز الافكار القومية الحديثة، كالقومية العربية التي نظر لها القوميون العرب والبعث، والتي اصبحت السياسة الرسمية لمصر خصوصاً بقيادة الرئيس المصري الاسبق جمال عبد الناصر، وكذلك العراق وسوريا، وبدأت ايضاً افكار القومية الكُردية تأخذ ابعاداً اخرى تختلف عن الابعاد القديمة التي كانت تعيشها الشعوب ذات الالسن المتعددة في مراحل الخلافة العثمانية والعباسية والخلافات الاخرى وما قبلها.
بين العدل والظلم
ان مرحلة الجمهورية ايضاً كانت قصيرة خلت تقريباً من محاولات تأسيس جدية. فالدستور بقي مؤقتاً. ونفس الشيء في المرحلة البعثية الاولى ثم المرحلة العارفية. نعم حصلت محاولات مع مجيء البعث مرة ثانية لتأسيس معالم نوع من الهوية، وان كان تحت حكم الاستبداد والقمع والحزب الواحد. لكن وقائع التاريخ كما تعرفون هي تداول وتداخل بين العدل والظلم. فتقيم الوقائع لنفسها ركائز وتصبح امراً مستقراً على الاقل على مدى معين من قرون وعقود معينة، بحيث يمكن تسميته نظام وهوية مستقر صاحب “شرعية” مقبولة، بالقسر والاخضاع او الممالئة او الرضا كما يقولون.. الولايات المتحدة بلد مهاجرين تأسس بشكل ظالم على حساب السكان الاصليين، وقام على قمع وظلم وعبودية لكن بمرور الزمن والوقت اخذ “شرعيته” واخذت هذه المنظومة هويتها ودورها وتأسست دولة لها مرتكزات قوية وواضحة، بل اصبحت نموذجاً يقتدي به كثيرون عالمياً. والتاريخ سيحكم كم ستستمر كما هو شأن الحضارات والامم الاخرى، تقدماً او تراجعاً.
ان محاولات البعث (1968-2003) للتأسيس ايضاً اصبحـت لها مرتكزات جدية، لكن ايضاً لم تستطيع ان تبلغ من القبول و النضج ما يلبي مطالب الشعب العراقي او على الاقل السكان الذين يعيشون على ارض العراق. اعطاء الحكم الذاتي للأكراد محاولة لموضوعة المسألة الكردية ذات الطابع القومي في اطار العراق. في تعريف الدستور العراقي في فترة “البعث” فان الشعب العراقي يتكون من قوميتين، وهذه ايضاً محاولة لترسيخ توصيفات معينة للهوية العراقية ونظام الحكم. لكن الحقيقة ان النموذج العراقي، دخل في صراع مع مركبات ومكونات اخرى، فلا هو قادر على قهرها وتسييد نفسه عليها ولا على استيعابها واستبطانها، خصوصاً في البعد المذهبي والقومي والحقوقي الانساني، لذلك رفعت معارضة صدام حسين شعاراً ثلاثياً هو: ان النظام هو نظام دكتاتوري ،عنصري و طائفي.
دكتاتوري، يمس كل الشعب العراقي؛ عنصري، يشير إلى القضايا القومية؛ والطائفي، يشير إلى القضايا المذهبية. فلم يستطع النظام السابق ان يؤسس رغم ادواته ورغبته وحلمه بذلك، ثم جاءت مرحلة ما بعد 2003م. وعندما جاء الامريكي كان عنده مشروع متكامل، لبناء المجتمع والدولة كما يسميه هو، الا انه واجه مقاومة داخلية وخارجية. وكانت نظرته الاولى انه باق في العراق لفترة غير محددة، فاراد تأسيس نظام جديد يقوم على المجمعات الانتخابية التي تعد الدستور للبلاد وعلى نموذج قائم على القيم الغربية بشكل عام، وخصوصاً القيم والمفاهيم الامريكية الجديدة.
فتوى السيستاني
كلكم تعرفون فتوى الامام السيستاني دامت افاضاته الرافضة لهذه الاجراءات وهذه الاساليب وعدم القبول بالاحتلال وباي دستور، الا بعودة السيادة وان يُعد الدستور من قبل جمعية منتخبة من الشعب العراقي. وهذا الذي كان والذي اخذ فترة صراع اكثر من سنتين. في هذه الظروف كُتب الدستور وقبله كُتب قانون إدارة الدولة الذي فيه الكثير من الافكار الحديثة التي لا تخلوا من بصمات الرؤية الأمريكية. وليس صحيحاً ما اشيع من ان كل شيء اعد في مكاتب في الخارج، خصوصاً فيما يتعلق بالدستور. قانون إدارة الدولة البصمة الأمريكية فيه واضحة وقوية. أما الدستور فقلل من ذلك رغم انه يناغم الكثير (وليس كل) المفاهيم المتداولة في منظمة الامم المتحدة. قام الدستور على مشاورات كثيرة وكبيرة بين المؤسسات العراقية، اذ وصلت اكثر من 600000 رسالة الى لجنة اعداد الدستور وجرت مشاورات ومناقشات واسعة حوله… الخ. وفي مرات عديدة كانت هناك اعتراضات أمريكية على اكثر من فقرة في الدستور وفي صياغات رئيسية. منها علاقة الدين بالدولة، علاقة المكونات بعضها بالبعض الاخر، هل النظام المركزي او لا مركزي، النظام برلماني ام رئاسي؟، وحقوق الانسان، خصوصاً الباب الاول والثاني، كذلك في الفصل بين السلطات، وحقوق المواطن والكثير من المبادىء الاساسية التي هي مفاهيم اساسية متقدمة تصلح للتأسيس، لكن لم تستكمل من ناحيتين. من ناحية القوانين التي كان من المفترض ان تفعل المباديء الدستورية وبقي اكثر من 55 قانوناً دون تشريع لم تشرع نهائياً او شرعت بعجالة وتجاذبات خلافاً لمبادىء اساسية وردت في الدستور، ومن ناحية بقاء بعض المبادىء عاجزة عن تقديم حلول وسياقات عمل، لعدم وجود نهايات لها. فلم تكن هناك رؤية واضحة في كيفية وضع نهايات لهذه الامور، فكتبت اشياء بدون نهايات وتركت للقوانين التي لم تشرعن. ولأن العملية لم تستكمل لذلك بقينا نحكم عبر دستور، كُتب بايد عراقية عموماً لكنه لا يخلو من تأثيرات خارجية مباشرة وغير مباشرة، يفتح المجال لكل انسان ان يفسر المبدأ كما يشاء، وهذا ما اوجد منذ البداية خلافات كبيرة بين الفرقاء السياسيين في تفسير المواد الدستورية، كالمادة 140، وموضوع الكتلة الاكبر، واذا استقال رئيس الوزراء وحكومة تصريف الامور، وقضايا الهوية وانسجامها مع الواقع عملياً وليس نظرياً….الخ، من مبادىء معينة لم توضع لها نهايات فبقيت سائبة ، او ان تحال للمحكمة الاتحادية، والتي لعبت دوراً مرجعياً يعود اليها الفرقاء ونجحت مرات وفي مرات اخرى كان تفسيرها متأثراً بضغوطات اللحظة فتبقيها معلقة كتفسير يمسك العصى من الوسط، لا يعطي حلا بهذا الاتجاه ولا الاتجاه الآخر لذلك برزت كثير من الفراغات في التجربة السياسية العراقية.
وصلنا اليوم الى هذه المرحلة واعتقد انجزنا اشياء كبيرة لا يُستهان بها. ان التجارب العالمية كلها أخذت قروناً وعقوداً إلى ان استقرت إلى مجتمعات معينة. فالعراق مشى بهذا الاتجاه، وسيصعب عليه ان يضع لنفسه معادلة داخلية متينة بدون ان تستقر الاوضاع المحيطة به على الاقل. اذ لا يمكن ان نتكلم وكانما نحن في فراغ. فهناك من الكرد من يقول اريد ان انفصل، ومن الشيعة من يريد الامتداد مع الهلال الشيعي، ومن السنة من يريد اقليماً، ومن التركمان من له خريطته الخاصة، لكن الجميع لا يجيب على اسئلة اساسية في الاقرار بالعيش المشترك عملياً وليس نظرياً، وفلسفة النظام العملية والمقبولة الاقتصادية والأمنية واللوجستيكية وفي العلاقة بالاخرين.
العلاقة بالمحيط
ان علاقاتنا بالمحيط، على الاقل بدول الجوار، علاقة عضوية، وليس مجرد علاقة بلد مجاور لبلد آخر، وإنما علاقة متداخلة؛ دينية، ثقافية، نسبية، اقتصادية، الخ. فالعراق لقرون طويلة جزء من الامبراطورية العثمانية، ودافع عنها ضد الغزو البريطاني، وصدرت فتاوي عراقية بهذا الخصوص. وكذلك التدافعات بين الصفويين والعثمانيين. فهل ان إيران والدول العربية وتركيا مثلاً مجرد علاقات، كالبرتغال مثلاً؟ هذه اسئلة مهمة.
لا يمكن نقاش الوضع الداخلي بدون الوضع الخارجي والعكس صحيح. خصوصاً ان العراق كان لقرون طويلة هو مركز للمنطقة وليس بلد في الاطراف وإنما في المركز والقلب. لذلك سميت بغداد بدار السلام ومدينة السلام والحكمة، الخ. العراق قبل الاسلام هو كرسي حكم لكثير من الامبراطوريات الكبرى، وفي الفترة الاسلامية، خصوصاً الخلافة العباسية كان مركز الخلافة وكان دائماً في قلب المشروع الموجود في المنطقة، وبالتالي ليس بـ”جرة قلم” نتكلم عن العراق كأنما هو أخذ هذا الشكل، وعلينا مجرد ان نبحث من هذا الموقع. اعتقد ان هذا سيرتد علينا، بمعنى عدم فهمه جيداً. وستبرز لنا المتطلبات والضغوطات من جديد بشكل او آخر. كما لو اردنا اهمال المسألة الكُردية والواقع الجيوبولتيكي الكُردي وارتباطاته المختلفة الداخلية وبالدول الاخرى، او الواقع المذهبي الموجود في العراق والمنطقة، او الواقع الثقافي والتيارات الحقيقية في المنطقة. فهذه كلها متشابكة ولها امتدادات تأثر في الداخل العراقي. وان جزءً مما عشناه من مظاهرات او ما نعيشه من تداعيات وتدافعات ومواقف من مختلف الدول له حسابات اقليمية، والعراق له ايضاً حسابات اقليمية مع الآخرين. وسيبقى العراق ضعيفاً تتجاذبه النزعات، إن لم يكتشف عوامل قوته الداخلية ومع اقليمه ويستخدمها لتعزيز مكانته ولعب دوره الذي يتناسب مع طبائعه ومصالحه والذي لعبه تاريخياً.
المشروع العراقي الصيني
حوار الفكر:
السؤال الاستراتيجي المهم؛ الذي هو يتعلق بحركتكم الخارجية، و فيما يتعلق بالانفتاح على دول الجوار كانت حركة موفقة جداً. الحديث عن الصين، و عن القمة الثلاثية(مصر، الاردن، العراق) و عن العمق الاسلامي، و العمق العربي، لكنها ايضاً اصطدمت بإرادة عظمى، والتي هي الولايات المتحدة الأمريكية.
السيد عادل عبدالمهدي يعرف وليس بعيداً عن الصراعات الدولية في المنطقة، لكن الكل يتحدث عن المشروع العراقي- الصيني بمبادرة الحزام والطريق هي التي ابعدت السيد عبد المهدي عن محاولات بناء الدولة ومؤسسات القانون.
لديكم رؤية بإن شكل النظام الدولي الاحادي قد تم كسرها، إذ اليوم تزايدت ادوار فاعلين آخرين، كالاتحاد الأوربي وروسيا الاتحادية والصين، بالمقابل، ان الولايات المتحدة كان لها دور اساس في الوقوف امام مشاريع عراقية خالصة، منها الانفتاح على قوى يمكن اعتبارها قوى ليست مهيمنة وانما مؤثرة في النظام الدولي؛ كيف تقرؤون دور وتأثير الولايات المتحدة في شكل النظام، هل لاتزال هي القوة المهيمنة او السوبر ام ان شكل النظام قد كُسر وان المعادلات قد اختلفت؟.
دولة السيد عادل عبدالمهدي:
لم يكن مجيء حكومتنا بسبب امتلاكنا كتلة نيابية. انا تركت المجلس الاعلى في 2015م. وان الموجة التي شهدناها بالبحث عن مستقلين، قد مثلت -في رأيي- حلاً للآخرين وليس حلاً للازمة التي وقفت عندها البلاد في 2018. حاول الاخرون الوصول إلى نتيجة لتجاوز انغلاق مسارات تفسير الكتلة الأكبر، او الوصول لتوازنات مقبولة من قبل القوى السياسية. فكنا حلاً مؤقتاً لهم، حل لأزمة سياسية موجودة في البلد، رغم انني كُنت ممتنعاً وكتبت عدة مقالات تبين ان الشروط غير متوفرة. قالوا ان البلاد تقف على حافة الهاوية والفتنة الكبرى، فوافقنا. وبمجرد ان شكلت الحكومة تركت مكشوفة وبدون غطاء سياسي حقيقي، فالحكومة لم تكن لها قاعدة سياسية وبرلمانية بل لها فقط علاقات تاريخية مع هذا الشخصية او تلك القوة، اكثر مما هي التزامات لمشروع كبير كمشروع الحكم والدولة.
ان التنافس الذي كان موجوداً قبل تشكيل الحكومة وجد لنفسه مظلة للاستمرار، خصوصاً ان الحكومة لم تكن انتقامية او سلطوية. فبدأت من جديد ومنذ الايام الاولى عوامل العرقلة والمزايدات واصبحت هذه العوامل هي الحاكمة، اكثر من عوامل الدعم والتيسير في الاجراءات والمعادلات السياسية.
انا اقول وهذا كتبته واكدته عدة مرات، خصوصاً في الرسائل الأخيرة بعد الاستقالة في نهاية تشرين الثاني 2019.. فعندما اثار السيد مقتدى الصدر عدة مرات مقترح الانتخابات المبكرة، قلنا بالعكس في رسائل مكتوبة: توصلوا إلى مرشح، وستستقيل الحكومة في اليوم التالي.. فلا توجد اية رغبة في التشبث بإي شكل كان. وبعد الاستقالة مرت خمسة اشهر وبذلنا جهوداً كبيرة لمساعدة المكلفين ولم نعرقل، سواء مع الاخ (محمد توفيق) علاوي او الاخ (عدنان) الزرفي وأخيراً الاخ (مصطفى )الكاظمي.
في ظروفنا، تشكيل الحكومة في العراق يعتمد في رأيي على عاملين اساسيين:
الأول: التوازن الداخلي، فالمرشح يجب ان يحضى بتإييد من الاغلبية الشيعية الفاعلة والسياسية. وليس بالضرورة الجميع، لكن صاحبة الكلمة في وسط الاغلبية. ومن ثم تأييد المركبات والمكونات الآخرى كالسنية والكُردية والتركمانية وغيرها. فتأييد المكونات الاخرى ضروري لكنه لاحق لاختيار الاغلبية لمرشحها. وهذه نقطة مهمة ارجو ان نقف عندها.
بدون أي بعد طائفي او مذهبي، فان وجود اغلبية داخلية شيعية سكانية كان دائما موجوداً، لكنه كان بالامكان حكم البلاد بطرق آخرى، اما بالتراضي كما حصل في المرحلة الملكية، فالملك فيصل الاول، حاول ان يتراضى مع الآخرين. وكلنا نعرف ان الشيخ محمد رضا الشبيبي هو من ذهب لاستقدام فيصل الأول، وكلنا نعرف ان المرجعية باركت لفيصل الأول على الرغم من انه من غير مذهبها، رغم انها وقفت ضد الاحتلال والانتداب بشكل عام، وقادت ثورة العشرين التي قهرت، فكان ما كان.
لم يطرح هذا الامر اية مشكلة بالنسبة لمن يختلف في المذهب او القومية او الدين مع الملك فيصل الاول. لذلك جاء الملك فيصل الاول بناءً على التراضي وبايعه كبار علماء الشيعة والسنة. الخلاف كان مع الاحتلال والانتداب والانكليز الذين ساهموا ايضاً بتنصيب الملك. لكن الامر لم يكن هو نفسه بالنسبة لكثيرين من النخبة الذين جاؤوا معه، والذين حملوا معهم انتماءات مذهبية محددة، فلم يميزوا بين مذهبيتهم وكونهم اصبحوا حكاماً عليهم احترام ثقافة وانتماءات الاغلبية، دون الكلام عن الاخرين ايضاً. وهناك امثلة وتطبيقات وتداعيات كثيرة لكننا نشير بسرعة لموضوع الجنسية.
لا استقرار دون ضمان مصالح الأغلبية
عند انفكاك العراق عن الخلافة العثمانية كان لابد من تحديد هوية العراقي. والجنسية هي ابرز عناوينها. فحدد دستور 1925 العراقي باعتباره (أ) من حملة الجنسية العثمانية، او (ب) ممن سكن العراق في تاريخ وفترة محددتين. لم يحدد دستور 1925 اي تمييز او امتياز بين (أ) و (ب) فالتراتبية هي للتعداد فقط وليس لاي غرض اخر. لكن اطراف النخبة بدأوا يتعاملون وكأن (أ) هو الاصيل و (ب) هو التابع او ما صار يعرف لاحقاً بـ”التبعية”. وقد جاءت تعليمات وزارة الداخلية في اوائل الاربعينات لتعزز مفاهيم منحرفة لموضوع الهوية والجنسية. فحصلت مشاكل عديدة، وحُرم ملايين من حقوقهم ومواطنتهم واملاكهم، واستمرت مضاعفات هذا التحريف في مقاطع عديدة من حياة هذا الشعب وتسببت بمعاناة عانى -وما زال يعاني منها الكثير- من العراقيين.
في اي بلد من العالم اذا لم تضمن مصالح الاغلبية لا يمكن للبلدان ان تستقر. وهذه حقيقة في كل الدول(علمانية او دينية). اليوم يندر في فرنسا مثلاً توقع مجيء رئيس بروتستانتي، ولا في امريكا مجيء رئيس كاثوليكي ماعدا حالة كندي، و الرئيس المنتخب (بايدن)، رغم انها كلها بلدان قطعت شوطاً في تغيير هوياتها السابقة المكوناتية ان كانت مذهبية او دينية، وان حالة اوباما ذو البشرة (الملونة) ما زالت استثناء في تاريخ امريكا، بسبب الاغلبية البيضاء.
نعم قد تتغير الامور بمرور الوقت بشكل طبيعي وتدريجي، او قسري وعنيف ويتم قبولها او الخضوع والاستسلام لها نهائياً (كما في حالة السكان الاصليين في المستعمرات والمتسوطنات الجديدة) لكن هذه الامور لا تحصل في لحظة واحدة ولا بقرارات من النخبة، فلابد من عملية هضم او استسلام اجتماعي لتصبح مقبولة او سائدة.
ان اي بلد في العالم عندما لا تضمن مصالح الاغلبية فيه فهذه الأخيرة ضامنة لمصالحها فهنا نقع في مشكلة. والعكس صحيح، فالاغلبية لن تستقر ان لم تضمن بدورها مصالح الاخرين. وهكذا يبقى الجميع -ومعهم المجتمع- متوتراً ومتنازعاً يستضعف بعضه بعضا.
تجدون اليوم عندما نأتي الى اختيار شخصية رئيس الوزراء، الكُردي والسني وغيرهم يقولون ياشيعة اختاروا، هذا مثال بسيط، بعدما تغيرت المعادلة بعد 2003م. الشيعة ليست مفردة مذهبية فقط، وليسوا مجرد اغلبية سكانية. الشيعة لهم ثقل كبير في الثقافة العامة، في التاريخ، وفي التقاليد ناهيك عن الامور الاخرى. صدام حاول مثلاً ان ينسب نفسه للامام الحسين(ع) وهذه ليست مسألة عادية. هذه مسألة تشير لمحاولة الحاكم التماهي مع الأغلبية، كذلك الخليفة العباسي المأمون هو الآخر حاول التقرب من الامام الرضا(ع) . فاما التماهي او التصادم والقمع و الاستبداد. فإذا لم يعرف المكون الشيعي مصالحه، ولم يكن منصفاً وعادلاً مع الآخرين فمن الصعب حكم العراق. اذا لم يفهم الشيعي الوضع الكُردي او الواقع السني او المسيحي او العلماني والثقافات المختلفة فسيضر بمصالحه ومصالح الاخرين والبلاد. لكن على الاخرين ايضاً ان يعرفوا مصالحهم لانه بدون ذلك لن تستقيم المعادلة. فهناك افاق وحدود لكل مكون ومركب فان لم تحدد افاق وحدود الجميع فان الالفة الاجتماعية لن تتحقق وسنؤسس لنظام متصادم وليس منسجماً ومتصالحاً. فعلى العقل الشيعي، والعقول الاخرى ايضاً، فعلاً ان تكون ناضجة اذ اردنا الوصول الى الحكم الراشد العادل والاستقرار ليترك لمفهوم المواطنة ان تنجج وتصبح حاكمة ومستدامة ما دامت مستبطنة لمصالح الجميع.
فاذا لم تعرف الاغلبية الشيعية وكذلك بقية المكونات مصالحها وحدودها وافاقها، وبقي كل طرف مغلق على نفسه ومنفصل في وعيه وسلوكه العميق عن الاخرين فمن الصعب تحديد الوطنية وتفعيل قوة الشعب والمجتمع والدولة ومرتكزات اساسية للحكم في العراق. وهو ما يتطلب الفهم العالي والصراحة والجدية وتقدير مصالح الاخر والانا في آن واحد والابتعاد عن الشعارات العامة والشعبوية. ولنا في التجربة الامريكية اليوم خير مثال. فالرئيس ترامب لعب على لغة التطرف لدى الاغلبية البيضاء، لكنه خسر شرائح مهمة من المكونات الاخرى، بل خسر احجاماً كبيرة من الاغلبية البيضاء التي تنافسه على الحكم (كلنتون في 2016 وبايدن الان). وان مجيء اوباما باصوله الافريقية وما يجري اليوم من صدامات وتجاذبات هو ان المجتمع الامريكي يعيد تركيب نفسه بعد التطورات الاجتماعية الكبرى التي حصلت فيه وفي العالم. وهذا مثال للاستفادة من تجربة كبيرة ومهيمنة، فكيف بنا في مخاضاتنا الحالية. علماً ان الامثلة تضرب ولا تقاس.
اعتقد ان هذه المعادلة واضحة جداً وعلمية جداً. في البداية (في فترة المعارضة) كان الكلام فقط عن اضطهاد الشعب العراقي. ورغم هول اضطهاد الشعب لكن الشعارات العامة لم تحرك الاحاسيس المباشرة والخاصة. فكان لابد من مخاطبة الحس الخاص لكشف الطبيعة الخاصة للنظام الذي كان نظاماً طائفياً وعنصرياً واستبدادياً. فتغير الخطاب في نهاية الثمانينات واخذت الشعارات تلامس بشكل اكثر مباشرة الحالات المشخصة. فصار الشيعي يشعر انه سيأخذ حقوقه لأنه يتعرض لاضطهاد طائفي، وصار الكردي يشعر انه سيأخذ حقوقه لأنه يتعرض لاضطهاد عنصري، وصار السني والجميع يشعرون انهم سيأخذون حقوقهم لانهم يتعرضون لاضطهاد استبدادي اضافة للاضطهاد المركب الاخر. بل فرض هذا الفهم الجديد نفسه على لقاءات قوى المعارضة ومؤتمراتها وبياناتها وقراراتها ونسب التمثيل فيها لتعكس وزن المكونات وحقوقهم ومطالبهم جميعاً بشكل بعيد عن المجاملات والشعارات المجردة.
إلى الأردن
الثاني: اشكر د. خالد( عبد الاله). فلقد عبرنا دائماً عن الرؤية التي نعبر عنها الآن وهي، بدون خارجنا سيكون داخلنا معطلاً، وبدون داخلنا سيكون خارجنا معطلاً. وحاولنا وضع هذه المعادلة موضع التطبيق.
ذهبنا إلى الاردن وحاولنا ان نحل المشاكل معها، قالوا كيف تبيعون النفط للأردن وقد يؤثر ذلك على انتاج بعض السلع عندنا. قلنا هذه علاقات استراتيجية يدخل فيها تبادل السلع والامن والسياسة وحركة الاستثمار مما سينمي القطاع الزراعي والصناعي وغيرهما بالكليات وليس بالجزئيات. فلقد احتسبنا كل ما سنتبادل به مع الاردن بحيث لا يؤثر على اي انتاج لدينا بل سينميه. هذه افاق كبيرة. ثم في نفس الاتجاه عقدنا قمة ثلاثية مع مصر والاردن، ولم تكن محوراً ضد احد ولكن لتفعيل المشتركات بين الثلاثة. ثم ذهبنا للسعودية بنفس الاتجاهات. ومع ايران والكويت وتركيا وغيرهم. بهدف علاقات ممتازة، ومبدؤها، نعم لدينا خلافات؛ مع الكويت، لكن عندنا مشتركات وثيقة، وعلى ضوئها نبني علاقات وثيقة وانجازات نكون اقدر واقوى بعدها على حل الخلافات. البقاء على الممارسات السابقة في الوقوف عند الخلافات معناه تعطيل التاريخ، وتعطيل المصالح واستمرار حالة الضعف والتمزق الداخلي والخارجي. معناه التراجع، وخسارتنا جميعاً، ولن يكون اياً منا رابحاً ولن نحدث اي تراكم ايجابي، لذلك ذهبنا إلى هذه العلاقات.
بعد 2003 لعب العامل الخارجي دوراً مهماً في تشكيل الحكومات كلازمة مع الشرط الاول وهو العامل الداخلي. ولاسباب عديدة باتت امريكا وايران بلدين اساسيين مؤثرين في العراق (ولعبت دولاً اخرى ادواراً لكن اقل اهمية) وفي القرار السياسي العراقي، ولهما ثقلهما الكبير في السياسات الجارية. وهذا واقع وليس خياراً، يجب ان نضعه بالحسبان. ومن يقفز على هذه الحقيقة ستختل حساباته، دون ان يعني ذلك ان هذه المعادلة لن تتغير، بل يجب ان تتغير. ومن يعرف بواطن السياسة العراقية بعد 2003 يعرف بالاسماء والتواريخ واللقاءات والمواقف مدى تداخل هذه الامور وضغطها على قراراتنا وسياساتنا.
نحن عشنا مراحل اخطر، ما قبل 2003م وبعده. ففي الصراع الأمريكي–الإيراني، كانت أمريكا تعرف الخطوط الحمراء الإيرانية في العراق فلا تمسها. فالشهيد قاسم سليماني(رحمه الله) كان دائما مكشوفاً وكان يمكن استهدافه بسهولة، لكن لم يكن هناك قرار بمستوى الذي حصل في مطار بغداد. بالمقابل الإيراني يعرف الخطوط الحمراء الأمريكية. الطرفان كانا يتصارعان ولهما مواقف مختلفة حول العراق ودورهما فيه ويقومان باعمال محدودة ومحسوبة لا تقترب من الخطوط الحمراء. لكن الذي حصل في حكومتي، ان الادارة الأمريكية غيرت قواعد السلوكيات والعلاقات. واذا عدتم إلى المنهاج الوزاري الذي قدمته إلى مجلس النواب، قلنا نحن لسنا جزء من نظام العقوبات ولسنا جزء من مقاتلة بلد عندنا معه علاقات دبلوماسية ونشير بذلك إلى أمريكا. دولة العراق ليست جزء من محور المقاومة. والكلام هنا عن الدولة اما الجمهور او قسم من الجمهور فله نقاش اخر.
العراق يرغب ان تكون له علاقات جيدة بالجميع، وعمق العلاقات وتطورها لا يعتمد على العراق فقط بل على ما يعرضه الاخرون ايضاً وموقفهم من مجمل القضايا التي يكون العراق طرفاً فيها. الحكومة تشكلت بتاريخ 24/10/2018 لكن العقوبات بدأت تأخذ جانبها التنفيذي في 5/11، اي بعد 10 ايام من تشكيل الحكومة. بدأ الأمريكان بالقول ليس لدينا ابيض واسود. اما ان تكون معي او ضدي. قلنا لهم: “يمعودين يا جماعة احنا ما نكدر نصير معك لو ضدك”. العراق (كحكومة ودولة) دائماً موقعه متوازن بين الطرفين، و مبدأ (معي أو ضدي)، يجعلني أما أن اذهب بالضد من جيراني وهذا لا يمكن، او اذهب بالضد منكم وهذا ايضاً لا يمكن، فالعراق دولة ولها التزامات داخلية وخارجية، قالوا لنا ليس عندكم خيار الا ان تكونوا معنا او ضدنا.
سياسية ترامب: ضغط ومضايقة
على أثرها بدأت سياسة الرئيس ترامب التي لا تحتاج إلى براهين بالضغط والمضايقة، فهي مكشوفة للغاية ويصرح بها دائماً وعلناً، اما معي او ضدي.
كنت على اتصال دائم بكبار المسؤولين خصوصاً وزير الخارجية السيد بومبيو، وكنت اقول له انتم بلد صديق وانا عندي بلد جار، كيف اقف معك ضد جاري او كيف اقف مع جاري ضدك، او اقول له انت تبعد عني 5000 ميل، ولي تاريخ 5000 سنة مع ايران فكيف اقف ضد ايران… الخ. هذا غير منطقي، عليكم ان تراعوا الوضع العراقي كون الانحياز الى جانب طرف على حساب آخر غير ممكن. وتصوري ان الامريكان بعملهم هذا يدفعون الكثير من القوى الى صف خصومهم.
هنا بدأت العلاقات بيننا تتوتر، فقد كان اما ان اتراجع عن هذا المبدأ واعرض البلد الى شيء خطر جداً وهذا غير ممكن، او ان ابقى اوازن قدر الامكان، وهذه المسألة دفعنا ثمنها.
بخصوص الحشد الشعبي، عند مجيئنا فان اول الاعمال التي قمنا بها هي المساواة بين مرتبات الحشد الشعبي والقوات المسلحة، فمن غير المعقول ان قوة مقاتلة تقف و تقاتل وتستشهد، لكنها تاخذ نصف الراتب مما تأخذه بقية القوات المسلحة.
الحشد الشعبي
ان للحشد الشعبي دوراً مهماً و كبيراً في العراق، وعندما نغيب الحشد الشعبي نرجع إلى نفس قصة عام 2014م. في عام 2014م كان عندنا ثلاث فرق عسكرية في الموصل. بالمقابل مئات الدواعش احتلوا الموصل. فالروح القتالية وليس العدد هي الاهم، فاذا لم تتوفر كما توفرت لاحقاً عندما التحم الحشد ببقية القوات المسلحة فلن يتحقق النصر في معاركنا. فمسألة الحشد وشيطنته معناها خيانة لمصالح ليس فقط الشيعة وأنما عموم الشعب العراقي. كم قدمت المناطق السنية من تضحيات وكم قدم الحشد الذي يضم شيعة وسنة وغيرهم لتحريرها. نعم بعد أي حرب وخلال الحرب تحصل اخطاء. الجيوش بما فيها الامريكية والاوروبية وغيرها ترتكب اخطاء وجرائم ايضاً. ففي كل الحروب وبعدها هناك اخطاء. لكن جوهر الحرب هو الانتصار، وجوهر الانتصار هو عدالته وادامته بتصحيح الاخطاء لا بشيطنة القوى التي حققت النصر. هذا هو الاساس.
لو اخذ “داعش” بغداد، لصارت لدينا تداعيات ما يسمى بلعبة “الدومينو” ولانهار البلد كله ولسقطت اربيل وغيرها، كما سقطت الانبار ونينوى ومناطق اخرى. ماذا كان سيحصل بعد ذلك، لذلك يجب طرح اسئلة جدية، وعدم الشيطنة والبقاء في الشعارات والتهريج والتجييش ضد الاخرين الذين صنعوا النصر.
فالمشكلة مع الخارج هو ان السياسة الأمريكية تغيرت بشكل جذري مع مجيء ترامب، فنحن لم نتغير. السياسة الامريكية اصبحت تطلب منا السير على قدم واحدة. والسير على قدم واحدة من السهل ان يضرب احدهم القدم الباقية فنقع كلياً. وهذا ما حصل. فما كان بالامكان ان نقبل سياسة معاداة ايران. لم نقبلها مع الديمقراطيين ولم يكن بالامكان قبولها مع الجمهوريين. لذلك في الترشيحات للبدائل من بعدي، وهو ما كتبته ايضاً في بيانات علنية؛ كنت احبذ ان يأتي شخص مرضي عنه غربياً وموافق عليه شرقياً حتى نعيد بعض التوازنات. على الامريكي ان يراجع مواقفه. ففي هذه الاوضاع الخطرة وجدنا ولا زلنا نجد انه يجب توفير مستلزمات الشرطين الداخلي والخارجي، وفي هذا تفسير لمن لامنا على بعض مواقفنا.
حوار الفكر
العراق لا يُنظر إليه من الارض، ينبغي ان يُنظر إليه من السماء كون موقعه جيوبولتيكي و تجري فيه عملية التأثر والتأثير كما وصفتم. اما نحن فنرتبط بعلاقات عضوية وليس بعلاقات جغرافية، والاولى هي علاقة اعتماد متبادلة تأثير وتأثر، سواء على المستوى الديني الأجتماعي، الثقافي، القومي والعرقي..الخ. منذ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة إلى الآن فقدنا هذه الميزة بسبب اغلب صُناع القرار.
كما اشار جنابكم ، احد اسباب سقوط الملكية هو قصر النظر في عملية قراءة البيئة الخارجية وهذا ادى فيما ادى إليه من تداعيات. والأمر الآخر؛ الذي يتعلق بالهوية، في الحقيقة يوجد مشكلة في الهوية العراقية والملك فيصل اشار إلى هذا الموضوع وذكر حنا بطاطو في كتابه (الطبقات) بأننا لا نتعامل مع شعب واحد بل مع مجموعة(سنية، شيعية، كُردية) وبقية الأنتماءات الفرعية الآخرى. يُريد ان يُبين انه لايوجد هناك امة كما يعرف جنابكم، عندنا في طريقة تكوين الهوية طريقتان: واحدة منها ان الهوية او الأمة تكون دولة وهذا ما اتبعته كل من فرنسا واسبانيا وغيرها من الدول الأوربية كذلك طريقة الولايات المتحدة الأمريكية، والآخيرة تُعد من افضل النماذج للأندماج الأجتماعي. القصور الى اننا و منذ انشاء الدولة العراقية إلى الوقت الحاضر عند بناء الهوية يُتبع اسلوبين، الخشن والناعم في هذا البناء، وفي العراق فان السلطة الحاكمة دائما كانت تتبع الأسلوب الخشن، لاسيما نظام صدام حسين، اذ اعتمد الأخير الاسلوب الخشن لاعتقاده انه سيكوّن هوية، لكن كانت مآلاته عكسية على الدولة العراقية وبناء الهوية العراقية.
الأمر الآخر، ان النظرية البنائية في العلاقات الدولية، تركز على البنى الأجتماعية المتمثلة في اللغة والهوية والثقافة والحضارة … الخ، في العلاقة البينية سواء بين الافراد داخل المجتمعات ام بين شعوب الدول. المشكلة اغلب الحكام بعد 1958م إلى الوقت الحاضر لم يأت حاكم يؤمن بالجغرافية العراقية وحدوها، وكيف يوظف علاقته العضوية في خدمة هذه الهوية. دائما ماتكون ارتباطاتنا عابرة للحدود مما ادى إلى استنزاف مواردنا والدخول في حروب كما فعل النظام السابق وخاض ثلاثة حروب دامية استنزفت مواردنا المادية، ولم يستطع الحاكم العراقي ان يوظف هذه الافكار العابرة للحدود؛ مرة نوصل للمحيط الاطلسي ومرة نوصل للبحر الابيض المتوسط ومرة نذهب إلى الجبال. القصد من الكلام، في بعض الاحيان الحاكم يؤثر كثيراً في بناء الهوية، اذ لم يؤمن بالهوية.
سيادتكم ذو خبرة كبيرة وتعامل مع اغلب القيادات السياسية والتيارات الحزبية، هل التيارات السياسية العراقية اليوم فقدت جاذبيتها؟ وهل فعلاً اليوم بحاجة انا لا نؤمن بالشخص وانما بالمؤسسة وما يكون بعد هذه المؤسسة، هل نحن بحاجة إلى تيارات مختلفة ام تطور هذه التيارات، حسب تجربتكم الشخصية؟
و كيف يرى سيادتكم المستقبل القريب في ظل هذه الظروف والاوضاع المعقدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحتى صحياً؟
دولة السيد عادل عبدالمهدي:
نحن أمة معلقة وفيها انقسامات وشعبنا ودولتنا تنقصهما الكثير من المستلزمات ليكونا فاعلين حقيقة، ليس لعدم وجود المشتركات الكثيرة والتي كانت فاعلة تاريخياً، لكن لانغلاقنا على انفسنا لعوامل داخلية وخارجية. لهذا هذه الدولة لم ولا تمتلك قابلية توظيف المواطنة والامة بشكل فاعل ووظيفي، كما ذكرت في اول الكلام. لم نستكمل مرحلة التأسيس الحقيقية (بعد سقوط الخلافة) لتؤسس للمواطن والمواطنة المفاهيم اللازمة. المواطن الشيعي مثلاً عندما يقف امام تاريخه الممتد تتشكل لديه ذاكرة متقطعة. فلا يتسنى له دراسة التجربة العباسية لاننا نخلط بين العقيدة والحضارة. فنتعامل مع التاريخ بالعقيدة فنرفض المرحلة العباسية بمجملها ونحكم عليها سلباً ولا نعتبر انجازاتها جزءاً منا، لان حكامها اضطهدوا ال البيت عليهم السلام. وهذا ما يطرح اشكالية تكون الذاكرة الموحدة المتواصلة والممتدة.
بينما الإيراني ذاكرته متواصلة مع قبل الاسلام وبعده، مع مراحل التسنن والتشيع فيه، الخ، لانه يضع الانجازات في جانب وسلوكيات الحكام في جانب اخر. فللعقيدة مساحتها وللحضارة مساحتها المتداخلة لكن المتمايزة ايضاً. كيف نتعامل مع الخلافة العثمانية بما لها وما عليها فلا ارفضها كليا او اقبلها كلياً. فكيف سيتعامل الشيعة مع السنة او بالعكس ان لم نميز بين العقيدة من جهة والحضارة والحياة والسياسة والاقتصاد والعلم وعالم الروايات والاساطير (الميثولوجيا) من جهة اخرى؟ كلها مختلطة لدينا بدفعة واحدة، فلذلك ابقى تائهاً لا اعرف طريقي من والى اين انا ذاهب. وهذه مشكلة في المناهج بما في ذلك في الجامعات، فنستعير تجارب اخرى يسهل تقديمها وفهمها رغم صعوبة تطبيقاتها، ولا نقايسها على واقعنا وتاريخنا ووقائعنا الذي نمزقه بايدينا فيصعب توظيفه وتفعيله لنؤسس لنموذجنا الحضاري. هذه مشكلة حقيقية وكبيرة.
ما قاله الدكتور(عادل) البديوي صحيح في السؤال عن ان العراق يجب النظر اليه من السماء ايضاً وليس من الارض فقط. خذ سويسرا مثلاً في طبيعة تكوينها بتاريخها وجوارها. ماذا سيبقى من الثقافة والهوية في سويسرا اذا ازلت اللغة والثقافة الفرنسية والألمانية والأيطالية التي تشكل اكثر من 99% من لغة وثقافة السكان. اما اللغة الرابعة، اي “الرومانشية” فهي لا تمثل سوى نصف بالمئة من السكان واقل منهم عدد السكان الاصليين الناطقين بالرومانية. فسويسرا دولة قوية ومتماسكة بتنوعها وانفتاحها على جوارها، اما نحن فيريدون اضعافنا ويحولون تنوعنا الذي هو نعمة الى نقمة فنضعف انفسنا لنتصادم فيما بيننا ومع جوارنا. هذا كله يجب ان نضعه على الطاولة الآن، وان نتعامل مع التاريخ والمحيط كجزء من داخلنا، كما نتعامل مع داخلنا كجزء من خارجنا. وان لا نقص الاثنين بمقص فندمر مقوماتنا الاساسية لتعريف ذواتنا ولتفعيل امكانياتنا. هذا غير ممكن، بهذا الوضع لن نصل إلى نتائج ولو بعد الف سنة.
بدون هذه المقدمات لا نستطيع صياغة تعايش للعراقيين بمختلف تكويناتهم وانتماءاتهم.
عقلية المعارضة
بسبب فترة المعارضة الطويلة بقت احزابها تحمل عقلية المعارضة حتى وان اصبحت في السلطة. كونها اعتادت اسلوب المعارضة. فالمعارضة سهلة. وانت تبقى متوحداً بشكل ما حتى وان كان لكل عمله المختلف. فمنا من كان يعمل في مجال حقوق الأنسان والآخر يعمل في الكفاح المسلح، الخ. فلا توجد مشاكل معطلة بيننا، فكل واحد يؤدي دوره، ونلتقي عند اسقاط النظام، لا فرق بين معارض من هذا المذهب او تلك القومية او علماني او اسلامي او مسيحي، الخ. بينما قيادة الدولة تريد عقلية اخرى توحد بما يسمح بالعمل والانجاز والتقدم، والاتفاق على منهاج سياسي وأمني واقتصادي واجتماعي وعلاقات خارجية. وعليه بقينا كأحزاب معارضة وليس كاحزاب دولة تعمل موالاتها ومعارضتها باساليب تختلف عن اساليب مراحل اسقاط النظام. في احدى اجتماعات الائتلاف الوطني العراقي (2006) بعد فوزه في الانتخابات وحصوله على 128 مقعداً وكان الكتلة الاكبر. كان علينا اختيار رئيس الوزراء وجرت داخل الائتلاف انتخابات. حصل الدكتور ابراهيم الجعفري 64 صوتاً، وانا حصلت على 63 صوتاً. وفي كلمتي امام أعضاء الائتلاف قلت: يا اخوان انتم انتخبتم على اساس هذا من “حزب الدعوة” وهذا من “المجلس الاعلى”. هل سألتم المرشحين حول مناهجهم الأمنية، الاقتصادية، السياسية..الخ؟، لم تسألوا كيف تكون ادارة الدولة وانتم اليوم الطرف الحاكم. فلا انتم عبدالكريم قاسم ولا انتم صدام حسين، انتم اليوم كتلة الاغلبية النيابية، فكيف سندير امور وشؤون الدولة؟.
النظام الذي قبلكم كانت احدى ديناميكيات حكمه للمجتمع والدولة هي القوة او العصى والقمع، وهذا امر مضحك مبكي. فعند تشييد جسر معين مثلاً، فاي تلكأ في العمل قد يعرض مهندسين لعقوبة الاعدام. أذ كان القمع احدى ادوات تحرك النظام. نحن الآن لا نريد استخدام القمع. فكيف سيتحرك النظام. النظم تتحرك بالدوافع والحقوق. فهل عرّفنا الدوافع والحقوق ووضعنا اصحابها في مواقعهم الصحيحة لتتحرك عندنا المركبات الأجتماعية، ان كانوا مواطنين او نقابات او عشائر وغرف تجارة وصناعة وإعلام والاموال والعمالة، الخ. فعندما يندفع كل من هؤلاء للدفاع عن حقوقه ومصالحه ومن مواقعهم المناسبة، وترعاهم الدولة وتحميهم فان المجتمع سيتحرك معهم حسب الدوافع والحقوق التي نظمها الدستور. وهذا ما لم نقم به نحن.
فالقوى السياسية لم تراجع نفسها، واصبح همها الفوز بالموقع وتعتبره هو النجاح، ولم يكن همها بناء الدولة والمجتمع، وإعادة تركيب الحياة السياسية في البلد في ظروف جديدة. فمعيار النجاح اصبح وجود احدهم في الموقع وليس مقدار ما يحققه في مشروعه الوظيفي من بناءات، فالقوى السياسية دفعت الثمن وانفصلت عن جمهورها. فلم تصمم القوانين الانتخابية على اولوية انعكاس ارادة الشعب في الانتخابات، فكل الهم، هو: كم ساحصل وما هي نسبتي من هذا النظام، وعلى ضوئه اقيّم موقفي من القائمة المغلقة او الدوائر الصغيرة او غيرهما. فالمعيار كم ساكسب من الاصوات وهذا لا يصح.
ان المقارنة بين الاحزاب في العراق والأحزاب في دول اخرى، ان الأحزاب هناك استطاعت التماشي مع جمهورها، والاخير اصبح يؤثر في برامجها وقياداتها، بينما عندنا انفصال و هوة بين الحزب والجمهور. فالجمهور لدى الاحزاب اداة وليس هدفاً. يُنظر اليه كشاهد على حفلة زواج، اكثر مما هو شريك في صناعة قراراتنا. والجمهور في نظر الاحزاب مجرد اداة للوصول الى الحكم واضفاء الشرعية، وهو ليس شريك نتعلم منه ويساهم في صناعة سياساتنا وقيادتنا وتنظيماتنا ومواقفنا. صحيح ان القيادات تبادر وتقترح وتنضج وتطرح، لكن الجمهور له دوره في ذلك كله، ولا يمكن اقامة علاقة صحيحة مستدامة ومتفاعلة ما لم يتحقق الامران وليس امراً واحداً فقط.
اليوم في معظم احزاب العالم، الجمهور -بشكل مباشر او غير مباشر- يساهم في صياغة منهاج الحزب وفي اختيار قياداته. بينما عندنا بقيت الاحزاب مغلقة وذات قيادات تجدد لنفسها وغير ديمقراطية داخلها بينما تقول انها تريد بناء ديمقراطية البلاد. لهذا كان انفصالها عن الجمهور هو الامر الطبيعي، وهذا ما حصل لدينا. وهذا انعكس كاحدى الاسباب لتظاهرات تشرين التي استغلت هذا الموضوع بحسن او سوء نية.
معظم الحكومات في الخارج حكومات حزبية تفوز بالانتخابات وتحكم بمفرده او مع ائتلافات. فهذا حزب العدالة والتنمية في تركيا الذي بدأ من القاعدة وفاز بالانتخابات ويحكم بالتواصل مع جماهيره. وكذلك الاصلاحيون والمحافظون واندكاكهم مع جمهورهم في ايران. كذلك الديمقراطيون والجمهوريون بأمريكا، وكيف تكون هناك انتخابات اولية يساهم بها الجمهور في صناعة السياسات وقيادات الحزب والمرشحين.
لم نؤسس لهذه الممارسات. قمنا بمحاولتين، قام بالاولى “التيار الصدري” والثانية “المجلس الأعلى” في 2010. فقام “المجلس الاعلى” بانتخابات تمهيدية، وقام “التيار الصدري” بانتخابات شعبية. الحقيقة هي ان الكثير من القيادات لا تريد فقدان مراكزها ولا ان تحاسب وتراقب من جماهير لانهم يعتبرونها اقل فهماً وعلماً وخبرة منها. ويخطىء من يعتقد ان هذه العملية يجب ان تتم بالفوضى، ولهذا يجب على القوى السياسية تطوير تجاربها والتشريعات المعمول بها خصوصاً في قانون الاحزاب لتأسيس مثل هذه العلاقة الفاعلة والمستدامة والتي تربط بين الجمهور والحزب او القاعدة والقيادة، والتي يمكن ان تأخذ عشرات الاشكال وليس بالضرورة بتقليد نموذج معين بالذات.