السيمر / فيينا / الجمعة 04 . 12 . 2020 —- الجزء الثاني من الحوار الصحفي، مع رئيس الحكومة السابقة، عادل عبدالمهدي، والذي تطرق فيه إلى واقع الكتل السياسية، وظروف إصدار قرار انسحاب القوات الأميركية من العراق، الذي اتخذه البرلمان العراقي.
وجاء في نص الحوار التالي والذي شمل سؤالين، نقله موقع “عراقي نيوز” (4 كانون الأول 2020) عن مجلة حوار الفكر:
حوار الفكر يسأل:
ما يُلاحظ في طبيعة التفاعلات الأجتماعية، ضعف عنصر الانتماء لدى الجيل الجديد( الحالي) جيل ما بعد 2003م، هذا الجيل كثير منه في ساحة التظاهرات بغض النظر عن مستوياتهم وطبقاتهم، هذا الجيل يشعر بعدم الرضى على اداء الكتل السياسية، او الحكومة او مجلس النواب… الخ. بعد 2003 هو بشكل او بآخر لم يتأثر بنظام صدام اذ لم ير ظلماً، ومهما يتخيل فلن يتخيل حجم الظلم الذي تعرض له الناس التي عاشرت نظام صدام.
هذا الجيل لا يستطيع تحمل مسؤولية لا يعرف ان هناك تطوراً ، بل يشعر ان هذا النظام سبب له مشكلة، فكيف لي ان اطالبه بهوية وانتماء ، فلا يوجد عنصر قبول ولا عنصر رضى .
معظم مراكز الابحاث الأوربية والسعودية، تدرس حركة الاجيال و يحاولون ان يركزوا على كل جيل ماذا يريد. آخر دراسة لأحدى المراكز السعودية، يتحدث عن جيل الثورة الاسلامية في إيران وجيل مابعد الثورة، وكيف يتحرك كل جيل.
نحن لحد الأن كتلنا السياسية وتوجهات الحكومة ومجلس النواب لم تعِ هذه المسألة، بدليل نحن لازلنا نؤمن بالعائلة وليس بالفرد؛ بمعنى انني عندما اريد ان اعمل اي اصلاح افكر بالبطاقة التموينية واعطاء المال للعائلة.
العراق دولة لا تستطيع ان تكون حيادية ولا تستطيع ان تكون دولة تؤدي ادوار الوسط، بسبب؛ اولاً: العراق ليس دولة عملاقة تمتلك المؤهلات وما يكفيها من قوة لحماية نفسها ولا القوى المحيطة بالعراق تقبل ان يكون العراق دولة حيادية مثلما قبلت اوربا بان تكون سويسرا دولة الحياد. ان الحياد اصبح عنصراً صعباً.
كلما تفرض الولايات المتحدة عقوبات على إيران يكون العراق هو تنفيس لها، وكلما تحاول أمريكا ان تحتوي وتضيق الخناق على إيران يكون العراق هو المنفذ للآخيرة.
كباحث ومتابع فان توجه حكومتكم ، نحو المعسكر الشرقي اكثر من الغربي. علاقتكم قوية جداً مع الصين ، اذ اسستم مذكرة تفاهم كذلك علاقتكم مع إيران نفس الحالة، أمريكا فسر هذا التوجه عدم انضباط من العراق في علاقاته الخارجية.
الاهتمام الأمريكي بتقوية علاقة العراق مع كل من مصر والاردن هل هي مدخل باتجاه التطبيع؟ اذ من المعروف ان مصر والاردن الدول العربية العرابة للاتفاقيات العربية – (الإسرائيلية) .
دولة السيد عادل عبدالمهدي يجيب:
اولاً انا اتفق معك في موضوع الحيادية؛ ليس كل بلد يستطيع ان يكون حيادياً. وانا لم استخدم كلمة حيادية. مرة سُئلت في احدى المؤتمرات، قلت لا العراق ليس حيادياً، فعنده سياسة وفي طبيعتها لا تطبق نصف لهذا ونصف لذاك. فقالوا انت ماسك العصى من الوسط قلت انا ليس كذلك. فعندما اقول ان العراق مصالحه ان يكون جيداً مع دول الجوار، ويكون جيداً مع المجتمع الدولي، فهذه ليست سياسة أمريكية او ايرانية، بل اولويتها الانطلاق من المصلحة والرؤية العراقية. فانا لست حيادياً بين الاثنين. فالانطلاقة محورها وضعنا انياً ومستقبلاً ومن تعريف موقعنا ومصلحتنا الوطنية، فنقيم العلاقة كما نراها لمصلحتنا وليس كما يراها بالضرورة الاخر، فهذه ليست حيادية. فاذا كانت لدينا مصلحة اقتصادية مع امريكا فسنتجه لذلك، ما دمنا لا نضر باشياء اخرى الان والمستقبل. والأمر نفسه مع ايران او غيرهما. واذا كان لدينا مصالح اقتصادية او سياسية مع ايران دون الاضرار بمصالح سياسية واقتصادية مع اصدقاء اخرين فسنتجه لذلك. لذلك عندما نرفض الوقوف مع العقوبات الامريكية على ايران فلان مبدأ العقوبات خاطىء، اضر ودمر العراق في الماضي، ولانه يضر بمصالح العراق حالياً وتاريخياً ويدفعنا الى موقف عدائي، وهذا اخطر من عدم الخضوع لسياسة امريكية خاطئة ستتغير يقيناً كما يعلمنا التاريخ. علماً ان المرء قد يتخذ احياناً بعض القرارات التي يقدر انها قد تضره مؤقتاً لكنها تنفعه مستقبلاً، والعكس صحيح. فالقضية تقدير موقف وهذه ليست حيادية.
“أميركا حاولت منع انعقاد جلسة البرلمان لمناقشة الانسحاب الاجنبي”
مررنا منذ 2003 بخلافات كبيرة مع عدد من صناع القرار الأمريكيين، وكنا نجلس مع الرئيس الطالباني والجنرال سليماني رحمهما الله. الأمريكان كانوا يحملونا رسائل، لكن ادارة ترامب تختلف تماماً. هنا المشكلة ولسنا نحن. عندما جئنا إلى انسحاب القوات الامريكية فاساسه ان هناك قرارا من الحكومة العراقية بمجيء القوات، وقيل لي في اجتماع مجلس الامن الوطني الذي سبق جلسة مجلس النواب بخصوص الانسحاب بيوم، ان طلباً بالانسحاب من هذا المجلس كافي لتغطية قرار الحكومة بطلب الانسحاب. قلت لا، كون حكومتي تصريف امور يومية فسيكون قراراً هشاً وضعيفا. لذا يجب ان نذهب إلى السلطة التشريعية. عملت أمريكا المستحيل لمنع انعقاد جلسة مجلس النواب. لكن انعقدت الجلسة والقينا خطابنا، وقلنا فيه ما يجب ان يُقال بكل امانة وصدق وصراحة، فبلغنا الامريكان بقرارنا، قالوا وبرسالة رسمية سنرسل وفدنا في حزيران، والوفد سوف يناقش في أمرين، اقتصاد واعادة انتشار القوات خارج العراق. اكدوا لي ان إعادة الأنتشار ليس داخل العراق وانما خارجه، ليس بالكلام فقط بل برسالة رسمية ايضاً.
تشكلت الحكومة الجديدة (حكومة السيد الكاظمي) وساد نوع من الغموض في قضية الانسحاب والتوقيتات فبدأ الامريكان بالمماطلة في موضوع الانسحاب وجدولته. بات طرحهم من جانب واحد فقط، ولم يتفقوا على اية توقيتات. الرئيس ترامب يقول نسحب كذا قوات خلال ثلاث سنوات من دون آخذ رأي الجانب العراقي، رغم ان العراق هو الطرف المعني.
كنا نقول للأمريكان عندما كانوا يتعرضون لاعمال القصف بالكاتيوشا، من 2011 لغاية 2019م لم يستهدف السفارة صاروخ واحد. كان عدد القوات 170 الف جندي وكنتم تخسرون باليوم الواحد من 3 – 4 ضحايا وعدد من الجرحى. فاذا لم يستطع 170 الف جندي حمايتكم، فكيف سيحميكم 5000 عسكري الان؟ بينما المفترض ان وجود القوات هو لحماية العراق والعراقيين وليس لحماية القوات والسفارة فقط. فاذا تم التركيز على ايران وجعلتم محاربة “داعش” امراً ثانوياً، فمعنى ذلك ادخال العراق في مشكلة او مشاكل. الآن تريدون جلب “باتريوت” للحماية، هنا الإيراني سيفكر بصاروخ اقوى لتجاوز “باتريوت”، هنا ادخلنا العراق في صراع او حتى حرب، والعراق يقول كفى حروباً وان البلاد غير مستعدة لخوضها.
رفضت ادارة ترامب هذا المنطق، و كنت اردد على كبار المسؤولين الامريكان ان امن السفارة والبعثات الاخرى هي معادلة سياسية وليس عسكرية. لذلك وجدنا السفير الامريكي والقائم بالاعمال وسفراء الدول المختلفة يرتادون في 2018-2019 المطاعم العراقية والمقاهي بدون حمايات لان المعادلة السياسية سمحت بذلك. لكن تغير سياسة الرئيس ترامب والتصعيد الذي حصل مع الحشد والعقوبات ثم عملية قصف القائم واغتيال الشهيدين المهندس وسليماني ورفاقهما غيّر المعطيات ولم يعد من مجال للخروج من هذا المأزق سوى الانسحاب وجدولته.
“لا يمكن جعل العراق منصة لاعمال لا قرار لنا فيها”
عندما يكون للأمريكي مهام في سوريا ومعه حلف الناتو وكذلك دول الخليج، فهذا يعنينا تماماً فنحن لسنا اصحاب قرار في هذا الموضوع رغم اننا المعنيون اساساً بهذه الاوضاع. وعليه لا يمكن ان يكون العراق مجرد منصة عسكرية لاعمال لا قرار لنا فيها مع جيراننا سواء في سوريا او ايران او الخليج او تركيا وغيرهم. ما يجري في المنطقة وبين دولها يهمنا جداً، ونحن صريحون مع ايران وتركيا وغيرهما. فنحن لسنا طرفاً في خطط احد ما لم نشاور على ذلك، ودستورنا يمنع علينا ان نكون ممراً او منطلقاً لاعمال لا نوافق عليها. بالطبع قد تحصل اعمال دون علمنا او دون قدرتنا على ردها، لكن هذا شيء ومشروعية المواقف شيء اخر.
ان القمة الثلاثية (العراق، مصر، الأردن) لها عدة ابعاد. فهي توفر من ناحيتنا الاطمئنان باننا لسنا مع محور واحد وانما منفتحين على الجميع ايجابياً. فمصر بلد كبير والاردن بلد مهم. الطرفان لديهما علاقات جيدة مع الغرب. وهذا قد يخفف كثيراً من المخاوف التي تثار بسبب العقوبات الامريكية على ايران وموقفنا منها.
“الاردن ومصر يرغبان بالاستفادة من العراق”
قد تكون للطرفين الاردني والمصري اهداف أخرى. قد يفكرون بالتركي وبالمتوسط ويفكرون باليونان وقبرص. الطرفان يرغبان بالاستفادة من ثقل العراق، ويرغبان في الاتفاق مع العراق على رؤية فيها مصالح مشتركة. وبالتأكيد لديهما مصالح، لكن لدينا نحن ايضاً مصالح، فهو يفكر ويدافع عن مصالحه ونحن كذلك.
العراق في قمة الرياض رفض سياسة المحاور في المنطقة ضد إيران. فطبعاً الأمريكان لن تريحهم هذه المواقف. و عندما جاء الرئيس ترامب الى قاعدة “عين الأسد”، لم يكن من الممكن، لرئيس وزراء العراق، وهو في بلده، ان يستقبل الرئيس الامريكي في معسكر امريكي. وعندما اذيع خبر مجيء الرئيس تسارعت بعض القوى لانتقادنا واصدروا بيانات بذلك، لكن عندما عرفوا التفاصيل تراجعوا واشادوا بالموقف. لقد سعينا الالتزام بما تعهدنا به في المنهاج الوزاري وهو العقد مع ممثلي الشعب. وانا تعهدت بما ورد في المنهاج الوزاري، وانا مُحاسب عليه. فالغاية من المنهاج الوزاري ليس مجرد كلمات. بالنسبة لنا هو عقد وهو الذي نلتزم به وهذا ايضاً متضمن لمسألة أمريكا والعقوبات. انتم صوتم علينا فاصبح ملزما لكم كما هو ملزم لنا. واصبح المنهاج سياسة الدولة التي يمكن لمن يختلف معها ان يغيرها بالانتخابات او تغيير الحكومة ومنهاجها ولكن وفق السياقات الدستورية. ويؤسفني القول ان هذا الموضوع بعيد عن تطبيقات الرئاسات وكثير من القوى السياسية والكتل النيابية. فحالما تتشكل الحكومة يأخذ كل طرف وكل مؤسسة تشرعن باجتهاداتها بعيداً عن التزامات العقد او العهد الذي صوت عليه ممثلو الشعب والذي يمثل السياسة الرسمية للدولة. ان واقع الكثير من القوى السياسية في الحقيقة بعيد عن هذا الشيء.
“سياسات التطبيع لن تنجح وستفكك”
امر اخر مهم في رسم سياساتنا وهو تقديراتنا للتطورات العالمية. فالعالم في طور التغيرات الكبرى والعراق جزء من هذه التطورات. وهذه لها علاقة بمسألة التطبيع مع “اسرائيل” ومحاولات احتواء العراق وجره لهذه السياسة او تلك. فالكل يرتب اوضاعه لما بعد التغيير. والعراق ايضاً في طور التغيير، وهذا جزء من تغيرات عالمية. فالمعسكر الغربي لم يعد يمتلك النفوذية العالمية القديمة رغم مكانته وتأثيراته، وكذلك الولايات المتحدة التي قد لا تفقد مكانتها في العالم كدولة كبرى لكنها تفقد دورها كدولة عظمى. فعلى العراق ان يفكر ايضاً بمستقبله في واقع عالمي قد يتطور من عالم احادي القطبية الى عالم متعدد الاقطاب ويعرّف دوره ومكانته. لهذا حاولنا الابقاء على علاقات طيبة مع الولايات المتحدة ولكن ايضاً فكرنا بعلاقات استراتيجية مع اوروبا والصين واسيا، و مع ايران وتركيا ودول الجوار العربية وغير العربية، و رفضنا سياسات التطبيع وصفقة القرن لانها تمثل النظرة القديمة المتراجعة واحادية القطبية العالمية التي لم تنجح سابقاً ولن تنجح مستقبلاً وستتفكك لانها تقوم على قبول الاحتلال والهيمنة وفرض الامر الواقع الاحادي الجانب.
لهذا رأينا في سياسة التطبيع من قبل الاخرين استباق لما يحصل في المنطقة والعالم. ورأينا ان الغاية من هذا التسارع هو استباق التطورات اكثر منه حل مشكلة الارض والسلام وفلسطين والاستقرار والامن في المنطقة. فهم يعلمون انه سواء افاز ترامب او بايدن فان هناك ثوابت اكيدة في العلاقات الاقليمية والدولية لابد من مراعاتها. بايدن يؤكد في منهاجه انه سيعود إلى الأتفاق النووي، وكذلك يصرح ترامب بانه سيفاوض ايران بعد فوزه باسبوع. فلم يعد الشعار اسقاط النظام الايراني بل احترام المعادلات الاقليمية والدولية وهذا يعني التفاوض اساساً وليس الحرب. إيران اصبحت اليوم قوة كبيرة كما هي تركيا، وهذا الواقع يفرض نفسه بكل نتائجه التي يجب اخذها بنظر الاعتبار. فالتطبيع قد يجر بالكارثة على السودان او دول الخليج المطبعة. أما تطبيع مصر والاردن فكان مقابل الانسحاب من سيناء ووادي عربة.
حوار الفكر يسأل:
بدأ حديثكم بإن التجربة في العراق لاسيما تجربة عادل عبدالمهدي هي تجربة غنية ويجب ان نتعمق بها.
على ضوء المحاكاة اذا تكررت المتغيرات يمكن ان تكرر نفس التجربة؟، بمعنى اذا ذهبنا في المسارات التي انتهجها عادل عبدالمهدي في الحكم والتي يجب ان نذهب بها والآخذ بها كونها مسارات صحيحة؟، هل التجربة ستعاد من جديد؟ اعتقد ان عادل عبدالمهدي مجبر على هذا المسار في ضوء المتغيرات. الذي اريد قوله، بعد مغادرتك للحكومة ما هي الاشياء التي اتضحت فيما بعد انها من الممكن ان تحدث وكان من الممكن ان تعملها و ما عملتها؟، وهذا ضروري ان نستمع له حقيقياً.
القضية الثانية: دكتور انت عشت المعادلة لعقود وعشت مع السياسيين، تعتقد ان الوضع الداخلي في العراق بعد 17 سنة اصبح اكثر تعقيداً من قبل؟ ، نحن نعتقد كلما تتقدم السنين كلما من الممكن يكون الوضع اقل تعقيداً نحن الآن نكتشف ان الوضع بعد 17 سنة في العراق اصبح اكثر تعقيداً خصوصاً في النقطة التي ذكرتها حضرتك، الأغلبية الفاعلة وهي شرط من شروط الحكم يكون متوازن وقوي يجب ان تكون الأغلبية فاعلة. اليوم احنا عدنا الاغلبية اصبحت اقل فاعلية وبدأت هذه الاغلبية تنقسم ليس على اساس طائفي، فكيف يمكن اعادة هذه الفاعلية؟، هل هذا ممكن في ضوء التدخلات الخارجية؟.
دولة السيد عادل عبدالمهدي يجيب:
نحن مستمرون بعملنا وفق الظروف الموجودة، وكان لي شرف ان اخدم كنائب رئيس جمهورية ووزير مالية ووزير نفط ثم رئيس وزراء. لذلك يصعب ان اتخلى عن الساحة، لكن الساحة ليست مناصب ومسؤوليات سياسية فقط، بل هي مملوءة بنشاطات ومهام يمكن القيام بها. اما ثانياً، فانني عندما توليت مسؤولية رئاسة الوزراء وكانت احدى الشروط التي وضعها علي السيد مقتدى الصدر هو (ان لا استقيل)، وقال لي 100 يوم وادخل الخضراء. قلت له في اللقاء الذي جرى بيننا في النجف الاشرف قبل التكليف الرسمي، سيدنا ان شاء الله تدخل الخضراء بـ”الكيات”. ولن نحتاج لرفع “الصبات” والحواجز لانني سافتح الخضراء. فعلاً فتحنا الخضراء واتخذنا من بناية الجمعية الوطنية في العلاوي المكتب الرئيس لرئيس مجلس الوزراء. ابدت السفارة الامريكية مخاوفها ابتداءً رغم ان نائب الرئيس السيد “بنس” عبر في محادثة جرت لاحقاً بيننا عن تهانيه للخطوة. وقال جناب السيد مقتدى الصدر في هذا اللقاء بان المدة بيننا هي سنة (ان كانت ذاكرتي جيدة) لاتخاذ موقف من الحكومة. قلت له ان سنة كافية لي، فالاوضاع صعبة للغاية ولم اضع ان بمقدور الحكومة في هذه الظروف تقديم حلول كاملة لها، لكن بالامكان بناء بدايات واساسات الحلول المستدامة لاصلاح الاوضاع وتقليل الاعتماد على النفط وازمات الموازنة. وكنت اقول هذا الكلام للمحيطين بي. وكنت اقول لهم اننا نتحرك اسرع من اللازم رغم اتهامنا بالتباطؤ تقديراً منا ان الوقت قصير امامنا بسبب اوضاع البلاد والقوى السياسية. لهذا توجهنا لتحويل المنهاج الوزاري بسرعة الى برنامج حكومي يمثل سياسة الدولة ووسيلة لمراقبتها، وتنظيم مجلس الوزراء واليات العمل فيه عبر ادخال تعديلات على نظامه الداخلي ومنح الصلاحيات للوزراء ليتحملوا مسؤوليتهم، واعداد مدونة لم تفعل لتنظيم العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتقنين حالة الحشد الشعبي وتطوير القوات الامنية والقيام بحملات وعمليات لمواجهة تصاعد نشاطات “داعش”، والانفتاح داخلياً ليس برفع الحواجز وتسهيل الحركة والاتصالات فقط بل الانفتاح ايضاً على القطاع الخاص ومع دول الجوار والدول الاخرى اساساً، وسياسة زراعية جديدة تعتمد على المخرجات اكثر من المدخلات، والعودة لاستكمال ميناء الفاو والاتفاق مع الدول الاخرى وابرزها الصين والمانيا وذلك تحت شعار النفط مقابل الاعمار ولحل ازمة الكهرباء المزمنة، وتشكيل فرق متابعة ميدانية في كافة المجالات مرتبطة برئيس الوزراء مباشرة خصوصاً الكهرباء والمياه والخدمات لمتابعة تنفيذ الاعمال.
“حكومتي ارست مقدمات لاسس اصلاحية عميقة”
قلت مراراً انني لن اعبر السنة، ويشهد لي بذلك المحيطين بي، فانا اعرف مسبقاً ان الظروف صعبة. عندما كلفوني رأوا بـ”عادل عبدالمهدي” حل لأزمتهم، لكن بمجرد ان قبلت وبدأنا بالعمل فان معظمهم تخلى وعاد الى ممارساته القديمة. كنت اعتقد ان المرحلة لن تسمح بالبقاء لفترة طويلة. لن يقول باطلاً من يعتبر ان الحكومة لم تنجح في امور كثيرة، لكن المنصفين سيقولون الحق بذكرهم ان الحكومة ارست مقدمات لاسس اصلاحية عميقة ومستدامة في شؤون شتى سيصعب التخلي عنها. لهذا قسمنا منهاجنا الوزاري وبرنامجنا الحكومي على 3 مراحل سريعة ومتوسطة وطويلة. فالسريعة وبعض المتوسطة عمرها ستة اشهر وعام. والباقي يتطلب وقتاً اطول للتنفيذ. وفي خضم الاحداث التي اندلعت في تشرين 2019 وانسداد الوضع تماماً سارعت استجابة لطلب المرجعية الدينية العليا لتقديم حلول بتقديم استقالتي لفسح المجال لغيري لمواصلة المسيرة مستهلاً قرار الاستقالة بالآية الكريمة “يا ابت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين”. امانة كنا نشعر باننا تركنا بمفردنا، الا من القليل الذي عبر عن مواقف متفهمة ومساندة. فالاحزاب في معظمها تراعي مصالحها، ولكل منها وضعه وخطابه. هم يستطيعون في آن واحد المشاركة والاستفادة من جهة والنقد والتنصل من جهة اخرى. لكنك في موقع التنفيذ لا تستطيع ذلك. عليك ان تتخذ يومياً قرارات، وهذه القرارات بحاجة لاجهزة تساندها وتنفذها. فالغطاء يجب ان تتلقاه من القوى السياسية الساندة والجمهور، والتنفيذ يجب ان تتلقاه من جهاز الدولة. واقول بصراحة ان هناك اشكالية معطِلة بالنسبة للاثنين. وهذه ليست مشكلة “عادل عبد المهدي” فقط بل هي مشكلة الحكومات السابقة واللاحقة.
وتصوري ان المنهاج الوزاري عندما يُقر يصبح ملزماً للقوى التي اقرته، كما يصبح ملزماً للدولة كسياسة واجبة الاتباع وهذا يشمل الرئاسات بما في ذلك رئاسة الجمهورية ومجلس النواب. فاذا وجدت رئاسة الجمهورية او النواب نفسها في تقاطع مع المنهاج الحكومي او البرنامج الحكومي فقد خولهما الدستور امكانية نزع الثقة عن رئيس مجلس الوزراء. عندها سيفصل مجلس النواب الأمر فينزع الثقة عن رئيس مجلس الوزراء، فيتغير العهد والمنهاج، او أن يؤكد ثقته بالعهد القائم، فتنصاع الرئاسات للسياقات الدستورية التي تمنح رئيس الوزراء ومجلس الوزراء صلاحيات تخطيط وتنفيذ السياسة العامة للدولة، فلا تنخرط في سياسات ذهبت احياناً خارج السياقات الرسمية المرسومة للدولة بشكل دستوري، مما اثار ويثير الكثير من الارتباك والتشويش والتعطيل الذي يشكو منه الجميع. والا لا معنى للمنهاج الوزاري الذي على ضوئه تمنح الحكومة الثقة والعهد. لهذا اشارت التطبيقات الفعلية ان الدولة من الرئاسات الى اجهزة الدولة تتبع مناهج وسياسات لا تقررها سوى الاجتهادات الموقعية او الشخصية او الحزبية. كذلك بالنسبة للقوى السياسية التي دعمت الحكومة، فانها دعمت وفق المنهاج الذي صوتت له وليس وفق اجتهادات ومطالبات متغيرة وسريعة وغير مقرة. لذلك اذا كنا دولة فعلى القوى المصوتة للحكومة ان تلتزم بالمنهاج ومن ثم البرنامج الحكومي وتراقبه وتحاسبه وتعاقبه ان اقتضى الامر بموجب ذلك. وعملنا يجب ان لا يستبطن اساليب الثورة (اسقاط الحكم عبر الجمهور او الشارع) لان ذلك سينسف منطق الدولة. وقلت هذا في المنهاج الوزاري فاما ان نذهب كلنا الى اساليب الدولة ويكون البرلمان والاجراءات القانونية والمطالبات والمظاهرات في اطار القوانين، او نذهب جميعاً الى اساليب الثورة التي قانونها داخلي وخاص، اي تصنعه هي حسبما تراه يحقق مصالحها. فاما نخوض كلنا معركة الدولة والديمقراطية ووسائلها او ان نخوض كلنا معركة الشارع والجمهور والثورة ووسائلها. فلا بديل للاصلاح الا بالتمسك بالقواعد الدستورية، فان كانت ناقصة او معطلة فالدستور نفسه وضع اليات للتعديلات اللازمة، والا سنصبح دولة اجتهادات متصادمة، وخطط فردية بعيداً تماماً عن اية مأسسة حقيقية يلتزم بها الجميع. هذه النظرة اضافة الى اهمية الخروج من اسس الدولة الريعية الفاسدة والمعطلة والمحتكرة، والذهاب الى دولة المواطنة والخدمة العامة، تمثل جوهر نظراتنا التي لا تغيير فيها. نعم قد نغير في الاشخاص والمواقع او التوقيتات، وهذا شيء اخر.
فمثلاً لا شيء يمكن تغييره في اعداد مدونة مع مجلس النواب او تعريف مهام رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء او استقلالية القضاء والفصل بين السلطات واحترام الحكومات المحلية، ولا في علاقاتنا بدول الجوار او دول العالم، كذلك في الزراعة باعتماد المخرجات او تسديد مستحقات المقاولين واعادة العمل للكثير من المشاريع المعطلة، ولا في السعي لايجاد الضمانات الحقوقية لمن هم خارج القطاع العام وخصوصاً قضايا العقود والشراكة بين القطاعين الخاص والعام، ولا في اهمية متابعة الاعمال واهمية تطوير هذا الجانب في العمل التنفيذي للدولة العراقية، او في الاتفاق مع سيمنز وجي اي وايران لحل اشكالات الكهرباء وهي الازمة المزمنة، ولا الانفتاح مع بقية الشركات لانجاز ميناء الفاو او غيرها من مشاريع اساسية للبلاد. ولا في الاتفاقات مع بقية الدول خصوصاً دول الجوار او بقية دول العالم وخصوصاً الولايات المتحدة والغرب واليابان وروسيا وكوريا او مع الصين والتي كلفنا الاتفاق معها كثيراً.
ان تأكيد اهمية العلاقة مع الصين (او مع غيرها) هي جهد مشترك ومتواصل للحكومات المتعاقبة ويجب ان يستمر كذلك، رغم انه اخذ زخماً تنفيذياً مهماً وحقيقياً بعد زياراتنا للصين في ايلول 2019. ودليل كلامي ان العلاقة الاقتصادية بالصين طُرحت في البيان الختامي عند زيارة الرئيس طالباني للصين عام 2007 وتابعتها الحكومات اللاحقة، وطور عندما توليت انا وزارة النفط في 2015، وقبل زياراتنا للصين في وفد الدكتور العبادي الى الصين في ذلك العام. وقد اطلعت السيدين رئيس لجنة الطاقة يومذاك بهاء الاعرجي وعضو اللجنة الدكتور حسين الشهرستاني رؤيتنا لاستثمار صادراتنا للصين كوسيلة للنفط مقابل الاعمار. وكان الاثنان متحمسين للفكرة. قامت وزارة النفط باعداد المذكرة التي طُرحت اثناء زيارة الدكتور العبادي، ولم اغادر مع الوفد عند مغادرته الصين بل بقيت هناك ايام اخرى مع اخوة من وزارة النفط للتباحث في تفاصيل تلك العملية. تابعت السفارة الصينية في العراق الاتفاق، ثم جاء وفد صيني كبير الى العراق بعد استقالتي من وزارة النفط، وقدموا ورقة سلمتها الى مدير مكتب السيد العبادي الدكتور نوفل ابو الجون. اهتمت حكومة د. العبادي بالامر ووقعت مذكرة بين المالية العراقية والجانب الصيني. وعند تحملنا المسؤولية في تشرين الاول 2018 اولينا الموضوع اهمية خاصة، وتابعنا تفاصيله وادخلنا العديد من التعديلات بناء على توصيات مؤسسات الدولة المختلفة. وبالفعل تم التوقيع واستكمال كافة التفاصيل اثناء زيارتنا للصين في ايلول 2019، وبدأنا منذ تشرين الاول 2019 بايداع المبالغ المعادلة لـ 100 الف برميل يومياً، في حسابات خاصة تخصص لتنفيذ المشاريع المقترحة، وان تفتح الصين ائتمانات باضعاف هذا المبلغ حسب رغبة العراق. واعلمنا البنك المركزي العراقي بكتابه في 30/12/2019 بايداع مبالغ شحنات تشرين الاول وتشرين الثاني للعام ذاته والبالغة اكثر بقليل من 418 مليون دولار في الفيدرالي الامريكي، وواصلنا العملية لحين تسليمنا المسؤولية لحكومة الاستاذ الكاظمي. وكان من المفترض ان تحول الايداعات الى فرع احد البنوك الصينية في نيويورك، واعلمنا البنك المركزي ايضاً بانه قام بفتح اربعة حسابات وغرضها تحريك كافة اليات الاتفاق ومنح العراق المرونة حسب اوضاعه المالية والعملية، وكذلك الصين لتنفيذ الاتفاق في شتى المجالات. اما في بغداد فاستمرت الاجتماعات بين المختصين لاختيار شركة استشارية دولية لمراقبة الحسابات، وكذلك اجتماعات دؤوبة لاقتراح اول حزمة من المشاريع، وبالفعل قدمت وزارة التخطيط والمحافظات وبقية المؤسسات عشرات المشاريع الهامة، ويقيناً ستواصل الحكومة الحالية الجهود التي بذلت في هذه الاتجاهات الصحيحة والتي اصبحت مطلباً شعبياً كبيراً. صحيح انه كان لي ولاخواني دور بارز في الاتفاق، لكن من الغبن والظلم اغفال دور الحكومات السابقة، لهذا نأمل من الحكومة الحالية استكمال ما بدأنا به جميعاً. ومثال الصين كان مقدمة لايجاد شركاء بمصالح متبادلة. وكنا نفكر بالهند واليابان (بالفعل قدمنا مذكرة لليابان بهذا الشأن) وكوريا الجنوبية وغيرهم باعتبارهم مستوردين اساسيين للنفط العراقي، ناهيك عن دول غربية قد تبدي اهتماماً بهذا الاسلوب الذي اطلقنا عليه النفط مقابل الاعمار، والذي يتضمن فكرة ما يشبه “الادخار الاستثماري” الضروري للتنمية. وبالفعل جاءني سعادة السفير المصري في العراق قبل فترة قصيرة من انتهاء مهامي وطلب دراسة مشروع مشابه بين العراق ومصر. وذكرت له اننا سبق ان تكلمنا مع الاخوة في مصر باستغلال طاقاتهم في المصافي والمشتقات النفطية، حيث لديهم طاقة معطلة يمكن استثمارها لصالح الطرفين، فنقلل المبالغ المصروفة باستيراد المشتقات، فنحقق الفوائد معاً. وبمثل هذه الاليات نكون قد حللنا الكثير من اشكالات التخطيط والبيروقراطية العراقية والرقابة والمشاريع الاستثمارية التي تمر بازمات مع كل موازنة سنوية ومسألة السيولة، وحسابات الكلف وسرعة وتكنولوجيا وتقنيات التنفيذ وانجاز المشاريع.
“اتفاقية الصين ستبني بنية تحتية متكاملة للعراق”
سيسمح مثل هذا الاتفاق مع الصين وغيرها لامكانية بناء بنية تحتة متكاملة والتي العراق بامس الحاجة لها، والتي لا يمكن التفكير بالاعمار والتنمية المستدامة دون انجاز ذلك. مشاريع طُرحت ايضاً في حكومة الاستاذ المالكي كالموانىء والسكك الحديدية والطرق والمواصلات والاتصالات والمجاري والسدود والمياه والمدن الصناعية والمجاري والمدارس والمستشفيات وغيرها من منشآت اساسية يحتاجها اي اقتصاد ومجتمع.
انني سعيد ان ارى ان كثيرين يطرحون اليوم المشاريع التي طرحتها حكومتنا كمشاريع اساسية للاصلاح كالزراعة وميناء الفاو واتفاق الصين واهمية القطاع الخاص لان بذلك فقط يمكن مواجهة العقل الاقتصادي المتكلس داخل اجهزة الدولة بل لدى قطاعات مهمة من الجمهور والذي تربى على فلسفة خاطئة تقول بان الاقتصاد والتنمية هي مجرد الخزينة والموازنة وليس الاقتصاد والمجتمع. فالدولة يجب ان ترتكز عليهما لا ان يرتكز الاقتصاد والمجتمع على الدولة والموازنة. لذلك في توصية لاحد الخلفاء لعامله يقول له “ابق لهم لحوماً تنمو عليها شحوماً”، اي ان خزينة السلطان تعتمد على نشاطات المجتمع لذلك خذ الشحوم (الجباية) واترك ما يجددها (اللحوم) فلا تقترب من الاصول التي تدمر دورتهم الانتاجية الحياتية.
تتركز النقاشات على ان الدولة مفلسة، والسبب هو ما تواجهه الخزينة من صعوبات. وصعوبات الخزينة والموازنات موجودة في كل دول العالم، بما في ذلك في الدول الكبرى التي هي الاكثر استدانة. لكنهم يبحثون عن الحلول في اقتصادياتهم، اما نحن فنبحث عن الحلول في الاستدانة لسد العجز ومواجهة النفقات او في تعطيل القطاع الخاص او انتظار ارتفاع اسعار النفط، ونبتعد اكثر فاكثر عن اي حل اقتصادي حقيقي يمكن ان يصحح الاوضاع ويحل المشكلة المزمنة للخزينة والموازنة والرواتب، الخ. فالقروض حلول ان كانت مرتبطة بالانتاجية التي يمكن ان تجلب موارد جديدة للبلاد، لا بمجرد تمويل النفقات الجارية.
يقول جنابك انك تختلف معي في التفاؤل. نعم هناك صورتان ظاهرية سلبية وباطنية ايجابية. عندما نتكلم بالارقام والوقائع وانتم مركز “مرايا” الاحصائي فما الذي تراجع؟ عدد الجامعات؟، صحيح ان كفاءاتها ليست كلها عظيمة، لكن هناك جامعات تتقدم. وهل تراجعت الحريات العامة؟ نعم هناك اراء هشة، لكن هناك اراء عميقة تتشكل وقناعات ممتازة تفرض نفسها. هل تراجع مستوى الدخل عما كان قبل 5 او10 سنوات، حتى بالاسعار الثابتة. نعم قد تكون هناك ازمة بسبب الجائحة او الرواتب لكن يجب عدم القياس على هذه اللحظة فقط، فالعالم كله يعاني.
في كل العالم هناك ازمات شبابية واقتصادية ومجتمعية. هذه امريكا وفرنسا والمانيا. في كل العالم توجد ازمات. فالعالم يتكاثر بشكل واسع، ووسائل التواصل تعبوية وتساهم احياناً في جعل اللاحقيقة حقيقة. وهناك تطورات جديدة بحاجة لان تهضم من جديد، لبناء منظومات جديدة تستطيع مواكبة التطورات. حتى الجائحة علينا ان نتعلم كيف نعيش معها. وامامنا الكثير من الامور الواجب تصحيحها، وهي امور لم نكن نفكر بها. فكلامكم صحيح اذا اخذنا جانب من السطح. فالشكاوى والتذمر واسعين، واحساس الشباب حول مستقبلهم مجهول. هذا كله صحيح؛ لكن تحت هذا السطح هناك اشياء ايجابية تتحرك.
“الضرورات ستدفع لايجاد الحلول”
لا نعرف بالضبط كيف ستتطور الامور. لكن الحاضر يصنع المستقبل والضرورات ستدفع لايجاد الحلول المناسبة، وقوانين المجتمعات كقوانين الطبيعة تصحح نفسها، ويجب ان نرى كيف ستتصرف لنساعدها في ترتيب اوضاع جديدة تلائم الظروف الجديدة. هذه ليست المرة الاولى ولن تكون الاخيرة. رغم اجواء الاحباط لكن لنراقب في النشاطات الاقتصادية والمبادرات والاعمال التي تحاول ان تؤسس لنفسها واقع جديد. اليوم كم شركة سجلت في 2019 مقارنة بما كان يشكل في فترة صدام حسين. الاحصاءات تقول انه كانت تؤسس 400 شركة في السنة واحصاءات 2019 كانت تؤسس اكثر من 8000 شركة. هل كلها جيدة وكفوءة؟ بالطبع لا. لكن هناك مبادرات ومشاريع عظيمة ايضاً. وهذا حراك له مداليله. وعليه انا متفائل لانني احاول ان لا ارى ظاهرة واحدة سلبية بل اسعى لرؤية بقية الظواهر ودراسة الاثار المترتبة.
ازدادت التوترات، صحيح. وهذا امر طبيعي في كل الازمات والمنعطفات. لكنني اعتقد ان حرب المدن مستبعدة، فقد تحصل اشتباكات عشائرية او حتى سياسية لكن محدودة في الوقت والمكان. مظاهرات تشرين 2019 كانت عنيفة وسقط فيها الكثير من الضحايا من المدنيين والعسكريين. مظاهرات تشرين 2020 كانت اقل عنفاً وسقط عدد اقل بكثير من الضحايا. لا اقول هذا عظيم، لكننا اجتماعياً وسياسياً يجب ان نأخذ هذه التطورات بنظر الاعتبار. فالقناعات تغيرت كثيراً، وهناك فهم افضل لكثير من القضايا. ففي تشرين 2019 كان الكلام عن حرب شيعية شيعية، وعن اسقاط النظام. هذا لم يحصل. فرغم الانقسامات السياسية التي لم تدخر مكوناً او ساحة فاننا نشهد الكثير من الاجتماعات وآفاق التحالفات، ليس بين الشيعة فقط بل بين ساحات وتشكيلات مختلفة. والكل يفكر بالمستقبل والانتخابات والحلول المطلوبة لاصلاح الاوضاع. الظروف ليست مثالية. لكن لدينا تجربة غنية فيجب ان لا ندمرها بجلد الذات وعدم الثقة بانفسنا والدروس المستخلصة من كل هذه الاوضاع والوقوف عند السلبيات فقط دون الارتكاز لكثير من الايجابيات. فقوانا كبيرة ومعبئة تعبئة غير بسيطة ويجب استثمار ذلك. كثيرون يراجعون انفسهم . فلقد تلقينا دروساً قاسية، وتحطمت مفاهيم كنا نراها مقدسة، وزالت الكثير من الهيبة عن الكثيرين منا، وهذه قد تكون معوقاتنا السابقة مما قد يدفعنا للتفكير ببدائلها للانطلاق نحو المستقبل. فالتصعيد داخل المكونات وبينها يجب ان يدفع للبحث عن حلول اجدى، فالصيغ القديمة ادت واجبها وقد يكون جزءاً منها قد انتهى، ويجب ان نبحث عن البدائل الصحيحة اللازمة. فليس كل تصعيد يؤدي الى الحرب او القتال، فقد يقود الى حوارات وحلول جدية وهذا ما نأمله.