تفاوتت ردود الفعل العربية إزاء الكارثة التي حلّت بالسوريين، بين استجابة عاجلة وتنسيق سريع من قِبَل بعض الدول مع دمشق، وتَواصل غير مباشر من دول أخرى، واستثمار سياسي لتصعيد الضغوط على الحكومة السورية من أطراف ثالثة على رأسها قطر، استكمالاً لحملة سياسية دولية تقودها الولايات المتحدة منذ فترة. فهل تفتح الفاجعة التي حلّت ببلد يعيش حرباً مدمّرة منذ نحو 12 عاماً، الباب أمام احتضان عربي حقيقي؟ بالنسبة إلى دمشق، فإن الملفّ الإنساني يتصدّر قائمة اهتماماتها حالياً، وهي التي بدأت، منذ اللحظة الأولى لوقوع الزلزال الكبير، استنفاراً كاملاً، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ضمن الإمكانات المتاحة القليلة أصلاً، سواء بسبب الحرب المدمّرة، أو بسبب ما تَبِعها من عقوبات اقتصادية حالت دون ترميم النواقص.وجاءت الواقعة المفجعة في وقت كانت قد بدأت فيه تَظهر بوادر انفتاح عربي على دمشق، توازياً مع تطوُّر انعطافة تركية نحوها، مدفوعة روسياً وإيرانياً، وفي المقابل، انطلاق نشاط مُعاكس تقوده واشنطن، شمل مضاعفة العقوبات على سوريا، وإعادة استثمار ملفّات عديدة؛ من بينها ملفّ «الكيماوي». على أن الساعات التي أعقبت الزلزال بدأت تشهد مجموعة من الخروقات السياسية، من بينها الاتّصال الذي أجراه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بنظيره السوري، بشار الأسد، وما تَبِعه من بدء إرسال مساعدات إنسانية عاجلة. وجاء الاتّصال المصري، الذي يُعدّ الأوّل من نوعه منذ بدء الحرب السورية، بعد تواصل أمني متقطّع بين البلدين، وخصوصاً إبّان محاولة الجزائر، التي استضافت القمّة العربية في تشرين الثاني من العام الماضي، إعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة، قبل أن تواجَه بحملة أميركية – قطرية مناوئة أجهضت جهودها تلكوتزامَن الموقف المصري الحذر نسبياً، مع آخر سعودي مماثل، في وقت كانت فيه الإمارات السبّاقة إلى الاتّصال بدمشق، بعدما كانت قد استعادت علاقاتها معها، وتصدّرت حراكاً عربياً لكسْر الحظر عنها، عبر وساطة مع السعودية، وتعاوُن مع سلطنة عمان التي كان لها دور في تدفئة الصِلات. أمّا الأردن، الذي استرجع علاقاته الاقتصادية مع سوريا، فقد دخل في دوّامة تردّد سياسي، إثر تعثُّر خطّته «اللاورقة» التي قدّمها للولايات المتحدة، والتي تهدف إلى البدء بـ»التطبيع» مع الحكومة السورية بشكل تدريجي، في ظلّ فشل إسقاط النظام، واستعصاء الحل السياسي.

وبدت لافتة، في أعقاب وقوع الزلزال، الاستجابة العاجلة من دول عربية عدّة، سواء العراق الذي فتَح جسراً جوّياً وأرسل قافلة نفطية لتلبية حاجات منظومات الإسعاف وآليات إنقاذ المحاصَرين تحت الركام، أو الجزائر والإمارات التي كانت من أولى الأطراف استجابةً، فأرسلت مساعدات وكوادر بشرية. وفيما أعلن لبنان فتْح مرفأَي بيروت وطرابلس ومطاره لاستقبال المساعدات من الدول التي تخشى إرسالها بشكل مباشر نحو دمشق خوفاً من العقوبات الأميركية، شرعت مصر وأطراف عربية أخرى في إرسال مساعدات وفِرق إنقاذ بشكل متتابع. أمّا السعودية، فقد أظهرَت تريّثاً أكبر، بادئةً بالعمل على المستوى الإنساني عبر فتْح باب جمْع التبرعات وإرسالها، من دون تواصل سياسي علني مع دمشق. على المقلب الآخر، أطلقت قطر حملة إعلامية مدروسة ضدّ الحكومة السورية، في محاولة لاستثمار الكارثة. وظَهر ذلك بوضوح في أداء وسائل الإعلام القطرية أو تلك التي تدعمها الدوحة، والتي نشرت تقارير عدّة تُقارن ما عاشته سوريا خلال الحرب من دمار، بالدمار الذي خلّفه الزلزال، ضمن عملية واعية لاستثارة الأحقاد، ومنْع أيّ انفتاح قد تَخلقه الظروف الإنسانية الصعبة على الأرض.

بالنسبة إلى دمشق، التي وضعت الملفّ الإنساني في صدارة اهتماماتها، مُتجاوِزة السياسة وحساباتها، تبدو الأمور واضحةً تماماً، وملخّصها: ثمّة وضع إنساني يحتاج إلى احتضان حقيقي، ويتطلّب إزالة للعوائق التي تنصبها الولايات المتحدة وحلفاؤها عبر العقوبات المفروضة على سوريا، من أمام عمليات الإنقاذ. غير أن النداءات الإنسانية التي أطلقها مسؤولو الاستغاثة السوريون لم تلقَ حتى الآن آذاناً صاغية بما يكفي، لتبقى الدول المتردّدة أمام اختبار قدرتها على التقدّم نحو دمشق، أو البقاء على المسافة القائمة حالياً. ويعني ما تَقدّم أن الكُرة الآن في ملعب تلك الدول، وأن أيّ محاولة لقراءة مستقبل هذا الحراك مرهونة بإرادة الآخرين لا بدمشق، التي أعلنت صراحة مدّ يدها نحو أيّ دولة عربية، مهما كان موقفها خلال الحرب، ومهما كان الأذى الذي تسبّبت به لسوريا.