عبد الباري عطوان*
بعد اسبوعين من كارثة سقوط رافعة على الحجاج في منطقة الحرم المكي الشريف راح ضحيتها 110 من زوار بيت الله الحرام، افقنا صباح هذا اليوم على كارثة اكبر راح ضحيتها اكثر من 800 حاج (حتى كتابة هذه السطور)، ومئات الجرحى بالقرب من مكان رمي الجمرات في المشاعر المقدسة.
نؤمن بالقضاء والقدر، مثلما نؤمن بمشيئة الله عز وجل، ولكننا نؤمن ايضا بأن تكرار مثل هذه الكوارث، هو برهان اكيد على انعدام كفاءة المشرفين على تنظيم موسم الحج، من اعلى قمة الهرم السعودي، وحتى اصغر جندي مرور.
تحميل الحجاج مسؤولية هذه الكارثة من خلال اتهامهم بالجهل، او عدم الانضباط، من قبل بعض الاعتذارين للحكومة السعودية، واجهزتها الامنية والادارية، والمدافعين عن تصورها وعجزها، وانعدام كفاءة المسؤولين فيها “اهانة”، لا تقل خطورة عن الكارثة نفسها، فمثل هذه الاعذار والتبريرات هي التي جعلت مثيلاتها تتكرر كل بضعة اعوام وسط حالة من اللامبالاة وانعدام الضمير، ووفاة آلاف الحجاج الابرياء.
***
مواسم الحج تحولت الى هاجس ومصدر قلق وخوف للحجاج وذويهم بسبب تكرار هذه الكوارث، وغياب اي ضمان حقيقي بعودة هؤلاء او بعضهم سالمين الى بلدانهم بعد اداء فريضتهم.
قبل تسع سنوات (عام 2006) وقعت المأساة نفسها عندما لقي 346 حاجا حتفهم نتيجة التدافع اثناء رمي الجمرات، وقيل بعدها انه تم حل هذه المشكلة من خلال اقامة جسور متعددة الطوابق، مما يعني ان المشكلة ليست في وجود الجسور من عدمها، وانما في سوء الادارة، وغياب التخطيط والتنفيذ، ونحن لا نتحدث هنا عن حرائق، وتفشي الامراض، وسوء الخدمات.
الحكومة السعودية قالت انها حشدت اكثر من ثلاثين الف جندي، وعشرات الآلاف، من رجال الدفاع المدني لتأمين موسم الحج من اي اعمال ارهابية، لنفاجأ بان ضحايا اليوم سقطوا من جراء عمل ارهابي اكثر خطورة، وهو سوء الادارة والتنظيم والاهمال.
بعض التبريرات التي سادت على لسان مسؤولين، او اعتذاريين في وسائط التواصل الاجتماعي، او على شاشات التلفزة، تمحورت حول نقطة جوهرية تقول بعدم امتلاك السلطات السعودية الخبرة اللازمة في “ادارة الحشود” في ظل تدفق اكثر من مليوني حاج على المشاعر، ورمي الجمرات دفعة واحدة.
انها “حالة انكار” غير مسبوقة، وتبريرات غير مقبولة، وغير مقنعة في الوقت نفس، فاذا كانت السلطات السعودية وبعد اكثر من ثمانين عاما من الاشراف على مواسم الحج، لا تملك خبرة كافية في ادارة الحشود، فمن يمتلكها اذا؟ واذا كان الحال كذلك فلماذا لم تستقدم الخبراء المسلمين والاجانب للقيام بهذه المهمة، وهي التي تملك جيشا منهم في مختلف المجالات الاخرى، علاوة على ان هؤلاء الحجاج وزوار الاماكن المقدسة يدرون دخلا سنويا على الخزينة السعودية يقدر 8.5 مليار دولا، حسب البيانات الرسمية.
في العالم بأسره هناك مباريات رياضية، ومهرجانات فنية، واحتفالات دينية، يؤمها مئات الآلاف من المريدين، يدخلون الى الملاعب والساحات، في وقت واحد، ويغادرونها في وقت محدد، ولا تحدث مثل هذه الكوارث الا في النادر، فلماذا لا تتم الاستعانة بهؤلاء الذين يشرفون على تنظيم هذه المباريات والمهرجانات؟ ولماذا لا يتم ارسال مهندسين واداريين لدراسة هذا العلم في الخارج من ابناء البلد، وهناك الآلاف من الشباب السعودي الذكي والمؤهل لهذه المهمة، او ما هو اكبر منها؟ من الامراء والعامة في الوقت نفسه.
***
الجواب هو الاهمال، واللامبالاة، وغياب الادارة الرشيدة، والغطرسة، وانعدام المحاسبة، والتحقيقات الشفافة، وكنس هذه المآسي تحت سجادة العجز والانكار في كل مرة تحدث، لان المسؤولين عنها في غالب الاحيان هم من امراء الاسرة الحاكمة، بشكل مباشر او غير مباشر.
نترحم على كل الضحايا، ونحسبهم شهداء عند الخالق جل وعلى، ولكننا لا يمكن، ولا يجب، كعرب ومسلمين، ان نغفر او نتسامح مع الذين يتحملون مسؤولية هذه الكوارث مهما علا موقعهم، ونطالب بتحقيق جدي وعلمي وشفاف، لمعرفة كل الحقائق، ومحاسبة جميع المسؤولين، فقد طفح كيلنا، والغالبية الساحقة من المسلمين، ان لم يكن كلهم، وحان الوقت ان تتوقف هذه الكوارث كليا، وان يتحول موسم الحج ومشاعره الى مكان آمن.
رأي اليوم