الرئيسية / مقالات / لم تعقم الأمة، فلماذا الجمود؟ / مماحكة في خصوصيات المذاهب

لم تعقم الأمة، فلماذا الجمود؟ / مماحكة في خصوصيات المذاهب

السيمر / الثلاثاء 19 . 07 . 2016

صالح الطائي

مع كبير احترامنا وتقديرنا للأئمة الكرام الذين أسسوا المذاهب الإسلامية، ومع اعترافنا بفضلهم على الأمة جمعاء، وثناؤنا عليهم أبدا، إلا أننا نرفض أن يُحصر الدين في حدود ما جاءوا به، ويُحجر عليه، بحجة أنهم، وفوا، وكفوا، فلا يسمح له بالتقدم والتماهي مع التطور الحضري والإنساني، لأن الحجر عليه سيجعله مجرد مشروع متخلف بال متهرئ لا يصلح لشيء. وأنا هنا لا أدعوا إلى تأسيس مذاهب فقهية جديدة، ولا أدعو إلى توحيد المذاهب بمذهب واحد، فقد اكتفينا مما سببه لنا التشتت إلى مذاهب وفرق، ولم تعد لدينا طاقة لتحمل المزيد، ولا نملك نية حتى لو تكن كاذبة لنتفق فيما بيننا، وإنما أدعوا وبفخر وإخلاص كبيرين إلى استخدام معطيات الحضارة المعاصرة لتفكيك قواعد الأحكام التي جاء بها الأقدمون، وإعادة صياغتها وفق نمط عصري حضاري جديد، لا يخرج عن حدود روح الدين، ولا يخالف مباني شريعة الأولين، ولكن له قدرة التماشي مع التطور والتقدم والتحضر، وله إمكانية التأثير في الحياة العامة لا للمسلمين وحدهم، ولاسيما وأنهم أصبحوا أيادي سبأ، وإنما في حياة الشعوب والأديان الأخرى؛ التي تحتاج هي أيضا إلى من يجدد لها مناهج حياتها دون أن يعكر صفائها.
المشكلة أن ما سببه الانقسام الفرقي بين المسلمين، ولاسيما بعد أن تحول الخلاف الفكري بينهم إلى خلاف جذري لا يمت إلى العقل والمنطق بصلة، لدرجة أنه وصل إلى أن يكفر بعضهم بعضا، من خلال شاشات الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، دفع بعض المذاهب والفرق إلى التنديد بأي محاولة تجديد مقترحة، واتهام من ينوي القيام بذلك بالمروق من الدين والكفر البواح، وهي تهم كبيرة تجعله هدفا مكشوفا أمام مرمى ألسن وأيدي وأسلحة المتشددين التكفيريين.
فأنا يقينا لا أعتقد أن الدعوة إلى التمسك بما جاء به الأوائل، ومنع الخروج عليه لأي غاية وهدف ممكن أن تستساغ في عصر التحرر والتنوير الذي نعيشه، فكيف إذا ما اصطدمنا بقواعد تحصر التعبد بأربعة مذاهب فقط، وتعد ما سواها من المذاهب الأخرى باطلا وليس من الإسلام، ولا يجوز التعبد بها؟ هذه المشكلة التي تطال مئات الملايين من البشر، وتسيء إليهم في عقيدتهم، ولاسيما وأن هذا الحصر كان وليد التشدد لا أكثر، ويمثل تمسكا جموديا بما جاء به السلف، يتمظهر به العنف والإقصاء. ولا يعدو كونه أكثر من محاولة للقضاء على فسيفساء الإسلام. وإلا ماذا يعني وضع قواعد فقهية تذهب إلى أنه لا يجوز الخروج على إتباع أحد أئمة المذاهب الأربعة، تحت أي ذريعة؟ وما يعني تكرار هذا الحكم القاسي من قبل الكثير ممن نتوسم فيهم رغبة الحفاظ على وحدة الأمة، البيضاوي؛ الذي نقل قول تقي الدين أبو عمرو عثمان ابن المفتي صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الکردی الشهرزوري الموصلي الشافعي؛ المعروف بابن الصلاح: “أنه يتعين تقليد الأئمة الأربعة دون غيرهم، لأن مذاهب الأربعة قد انتشرت، وعُلِمَ تقييد مطلقها، وتخصيص عامها، ونشرت فروعها، بخلاف مذهب غيرهم(1).
فلماذا هذا الحكم القاسي والبيضاوي نفسه يعرف قبل غيره أن تبني الحكام للمذاهب الأربعة، وتحويلها إلى مذاهب رسمية في العاصمة والإقليم هو سبب شهرتها وانتشارها، وليس لأنها أكفأ من غيرها، وإلا من غير المعقول أن تتعارض أحكامها مثلما تتعارض مع أحكام المذاهب الأخرى غير المعترف بها، ثم تشتهر بهذا الشكل وتتحول إلى مذاهب رسمية، ويعفو الزمان على غيرها!
إن المشكلة التي تخلقها مثل هذه الأحكام الحدية لا تقف عند حد معين، فلطالما تجد من يعيد صياغتها، وشرحها، وتسويقها، والتأكيد على أهميتها، فالشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي في شرحه لقول ابن الصلاح، أراد أن يجعل هذا الحكم مستساغا مقبولا، فقال: “قد بنى ابن الصلاح على ما قاله إمام الحرمين قوله بوجوب تقليد واحد من الأئمة الأربعة دون غيرهم…. بل الحق أنه إنما منع من تقليد غيرهم، لأنه لم تبق رواية مذاهبهم محفوظة ….إن امتناع تقليد غير هؤلاء الأئمة الأربعة من الصحابة وغيرهم، لتعذر نقل حقيقة مذاهبهم، وعدم ثبوته حق الثبوت”(2)
وفي هذا الرأي وسابقة إبطال لشرعية المذاهب الإسلامية الأخرى، وتوهين لعقائدها؛ وهو التكفير بعينه، حتى وإن لم يكن مشهرا معلنا! المشكلة أن هذه الآراء لم تكن يتيمة دهرها، فهناك آراء أخرى، تدعمها، منها ما صرح به المقريزي حول فرض هذه المذاهب نفسها عنوة على واقع حال المسلمين، بقوله: “ولي بمصر أربع قضاة، وهم: شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة خمس وستين وستمائة، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى المذاهب الأربعة وعقيدة الأشعري. وعملت لأهلها المدارس، والخوانك، والزوايا، والربط في سائر ممالك الإسلام، وعودي من تمذهب بغيرها، وأُنكر عليه، ولم يُوّل قاضي، ولا قبلت شهادة أحد، ولا قدم للخطابة، والإمام، والتدريس أحد ما لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب. وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طوال هذه المدة بوجوب إتباع هذه المذاهب ، وتحريم ما عداها، والعمل على هذا النحو إلى اليوم”(3)
وأسأل هل يستوجب هذا الأمر تحريم تقليد باقي المذاهب؟ وعلام استند العلماء في هذا التحريم؟ أليس هو مجرد رأي لإنسان ممكن أن يخطأ مثلما ممكن أن يصيب؟ أليس حكمه مجرد فكرة من نتاج عقل بشري قابل للسهو والخطأ والكذب والتعصب والتعنصر والتحيز أيضا؟
النكاية الكبرى أن هذا الحكم إن كان قد لمَّح إلى التكفير تلميحا ضمنيا، فهناك من جهر بتكفير المذاهب الأخرى صراحة، بلا وازع من ضمير لمجرد أن يجعل هذا الأمر مقبولا، فالتهاوندي الحنفي لم ينظر إلى أبعد من أرنبة أنفه حينما قال: “من ترك هذا التقليد، أي تقليد واحد من المذاهب الأربعة، وأنكر إتباع السلف، وجعل نفسه مجتهدا أو محدثا، واستشعر من نفسه أنه يصلح لاستنباط الأحكام وأجوبة المسائل من القرآن والحديث في هذا الزمان، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، أو كاد أن يخلع، فأيم الله لم نر طائفة يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية إلا هذه الطائفة المنكرة لتقليد السلف، الذامة لأهلها”(4)
ومثله ما ذهب إليه الكردي الإربلي بقوله:” ومما يجب اعتقاده أن أئمة الدِّين كلهم عدول، ومن قلّد واحداً منهم نجا. وتقليد واحد منهم فرض .. ولا يجوز تقليد غيرهم بعد عقد الإجماع عليهم؛ لأن مذاهب الغير لم تُدوَّن، ولم تُضبَط؛ بخلاف هؤلاء. ومن لم يقلد واحداً منهم، وقال: أنا أعمل بالكتاب والسنة!! مدعياً فهم الأحكام منهما، فلا يُسَلَّم له، بل هو مخطئ ضال مُضل، سيما في هذا الزمان الذي عمَّ فيه الفسق، وكثرت فيه الدعوى الباطلة؛ لأنه استظهر على أئمة الدين وهو دونهم في العلم والعمل والعدالة والاطلاع”(5)
وكم هو غريب أن تجد أكثر الجماعات الدينية تشددا؛ وهم السلفيون يدلون برأي يختلف عن هذه الآراء، ذهبوا فيه إلى أنه: “لا يجب على المسلم إتباع مذهب بعينه من هذه المذاهب الأربعة، والناس متفاوتون في المدارك والفهوم والقدرة على استنباط الأحكام من أدلتها، فمنهم من يجوز في حقه التقليد، بل قد يجب عليه، ومنهم من لا يسعه إلا الأخذ بالدليل”(6)
وهو ما أكد عليه جماعة فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بقولهم: “القادر على الاستنباط من الكتاب والسنة يأخذ منهما كما أخذ من قبله، ولا يسوغ له التقليد فيما يعتقد الحق بخلافه، بل يأخذ بما يعتقد أنه حق، ويجوز له التقليد فيما عجز عنه واحتاج إليه. ومن لا قدرة له على الاستنباط يجوز له أن يقلد من تطمئن نفسه إلى تقليده، وإذا حصل في نفسه عدم الاطمئنان، سأل حتى يحصل عنده اطمئنان… ومن قال بوجوب التقليد على المتعلمين مطلقاً فهو مخطئ جامد سيئ الظن بالمتعلمين عموما، وقد ضيق واسعا. ومن قال بحصر التقليد في المذاهب الأربعة المشهورة فهو مخطئ أيضا، قد ضيق واسعا بغير دليل(7).
وفي جوابه على سؤال: هل يجوز لمن كان يلتزم مذهبًا معينًا في عباداته أن يعدل عنه ويتمسك بمذهب آخر متى شاء؟ قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: “الإنسان الذي عنده الاستطاعة لمعرفة واستنباط الحكم من الأدلة، لا يجوز له التمذهب بمذهب، بل عليه أن يأخذ الحكم من الدليل إذا كان عنده الاستطاعة والمقدرة على ذلك، ولكن هذا نادر في الناس لأن هذا منصب المجتهدين من أهل العلم الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، أما من لم يكن كذلك لا يستطيع أخذ الأحكام من الأدلة، وهذا هو الكثير والغالب على أحوال الناس لاسيما في هذه الأزمان المتأخرة، فإن هذا لا حرج عليه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة، وأن يقلد أحد المذاهب الأربعة، لكن ليس تقليدًا أعمى بأن يأخذ كل ما في المذهب من خطأ وصواب، بل عليه أن يأخذ من المذهب ما لم يتضح أنه مخالف للدليل، أما إذا اتضح أن هذا القول في المذهب مخالف للدليل فلا يجوز للمسلم أن يأخذ به، بل عليه أن يأخذ ما قام عليه الدليل ولو من مذهب آخر، فترك المذهب إلى مذهب آخر هذا إن كان طلبًا للدليل لمن يحسن ذلك، فهذا أمر طيب، بل هذا الواجب؛ لأن اتباع الدليل هو الواجب”(8).
وقبالة هذا الرأي، نقل الشنقيطي عن أبي العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي في نفائس الأصول في شرح المحصول قوله: “قال إمام الحرمين عبد الملك بن أبي محمد الجويني، (ت: 478 هـ): “أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلّقوا بمذاهب الصحابة، بل عليهم أن يتّبعوا مذاهب الأئمة الذين سَبَرُوا ونظروا وبَوَّبوا “(9).
ما أريد قوله إن التعنصر للمذهب أو التعنصر للاتجاه العام لمجموعة مذاهب هو الذي تحكم بمثل هذه القرارات الحدية القاسية؛ التي تعمل على مصادرة عقل الأمة بدعوة الناس إلى الجمود على ما جاء به الأقدمون، دون إتاحة الفرصة لمحاكمته ومعرفة حقيقته. وأعتقد أن الاتجاه العام لأئمة المذاهب الأربعة، كان الدافع لولادة هذه الأحكام، لتكون سدا بوجه باقي المذاهب الإسلامية الأخرى مثل: الشيعة، والزيدية، والإسماعيلية، والإباضية، والأشعرية، لكي لا تتنافس معها بدليل أن بعض هذه المذاهب، أبقت الباب مفتوحا ولم تقيد أتباعها بضرورة الجمود على حكم واحد طالما أن عقل الإنسان يتجدد والحياة تتجدد، وكان الشيعة أنموذجا جميلا لهذا التوجه، إذ قال الشهيد مطهري: فإذا أخذنا فقهنا كمثال، نرى أن الشيخ مرتضى الأنصاري؛ الذي جاء متأخرا بعد الشيخ الطوسي والشيخ المفيد والشيخ الصدوق بتسعمائة سنة، أقدر منهم على شرح أقوال الرسول(ص) وتفسيرها، فهل يعني هذا أن الشيخ الأنصاري كان انبغ من الشيخ الطوسي؟
كلا بل إن علم زمانه كان ـأوسع من علم زمان الشيخ الطوسي، فبتقدم العلوم يمكن الوصول إلى أعماق أبعد في الأحاديث الشريفة. كذلك الأمر سيكون في المستقبل، ففي القرن أو القرنين المقبلين قد يظهر أشخاص يستطيعون شرح أقوال الرسول خيرا مما شرحها الشيخ الأنصاري بالنظر لتمكنهم من الغوص أعمق في أسرارها ومعانيها”(10).
الذي أراه أن مصير العالم والإنسانية كلها لم يعد موقوفا على فكر أو فئة أو قضية، فالانفتاح العام، أزال الكثير من الحواجز؛ التي كانت تقيد البشر من قبل، وهناك اليوم من يحاول الخروج من دينه كله، والعيش بلا دين، أو الالتحاق بدين آخر، يجده أكثر تجاوبا مع تطلعاته، بعد أن وجد أن في المذهب أو الدين الذي يتعبد به الكثير من الفجوات التي لا تتناسب مع طريقة تفكيره ورؤيته إلى الكون!
فضلا عن ذلك أجد أننا كمسلمين بكل مذاهبنا وفرقنا ندعي أننا نمثل الله في الأرض وأن عقيدتنا هي الوحيدة التي تقود الإنسان إلى الله، وأننا الفرقة الناجية، وكثير من أمثال هذه الأباطيل الساذجة؛ التي خدعت القدماء، ثم لما حاصرها التقدم، بطل سحرها، وصارت خديعتها أيسر وأسهل.
لذا أرى أن على المذاهب الإسلامية بمجموعها، إذا ما كانت حقا حريصة على الدين وبقائه واستمراره أن تعيد النظر بسياسة الإقصاء الموروثة، وان تسعى إلى إعادة ترتيب البيت الإسلامي وفق رؤى حداثوية جادة، تتماهي مع التطور العالمي، دون أن تخرج على حدود الشريعة، وأنا أعتقد، وأعتقد أنهم يعتقدون مثلي أن كثيرا من أنصاف المتعلمين المعاصرين أكثر ثقافة وعلما من علماء العصور الغابرة، وأن العلماء المعاصرين يبزون خلفهم أعظم العلماء القدماء، فضلا عن أن معطيات الحضارة المعاصرة وفرت لنا سبلا وآليات وبرامج ممكن أن تعيننا في الوصول إلى نتائج ما كان لمن سبقنا أن يتوصل إلى عشر معشارها. وأرى أن الجمود على ما جاء به القدماء خيانة للدين والأمة، وقد آن لنا أن نغادر أجوائهن ونعيش في أجواء الانفتاح والرحابة التي ستوصلنا إلى أعلى مراتب الإيمان، فالدين النصيحة! والله من وراء القصد.

الهوامش
(1) عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي، ناصر الدين البيضاوي، نهاية السول في شرح منهاج الأصول، ج4/ص623.
(2) الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي، سلم الوصول شرح نهاية السول، ج4/ص631.
(3) أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني العبيدي، تقي الدين المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ج2/ص334.
(4) الشيخ ظفر أحمد بن لطيف العثماني التهانوي، قواعد في علوم الحديث، ص 462.
(5) محمد أمين الكردي الإربلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب.
(6) الشيخ محمد صالح المنجد، الإسلام سؤال وجواب.
(7) فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء، فتوى رقم 3323.
(8) الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، موقع طريق الإسلام.
(9) سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي، نشر البنود على مراقي السعود.
(10) مرتضى مطهري، السيرة النبوية.

اترك تعليقاً