فيينا / الخميس 16 . 05 . 2024
وكالة السيمر الاخبارية
د. لبيب قمحاوي / الاردن
تشكل أحداث 7 أكتوبر علامة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية وفي معادلة الصراع الفلسطيني– الاسرائيلي. فالقضية الفلسطينية التي كانت عشية السابع من أكتوبر قيد الشطب من أجندة الاهتمام العالمي ومهددة بالتالي بالزوال بعد أن قامت اسرائيل وأمريكا بطمس معالمها وبعد أن قامت معظم الأنظمة العربية بسحبها من التداول لصالح التطبيع مع اسرائيل، عادت هذه القضية إلى مركز الصدارة في أجندة الاهتمام العالمي والانساني وأصبحت مؤشراً واضحاً على عدالة قضية الشعب الفلسطيني، وعلى الظلم الذي لحق به وما زال. ما يجري الآن حقيقة هو عملية تصفية لذيول حرب الابادة التي تشنها إسرائيل وفشلها من جهة، وعملية إخراج لنهاياتها والنتائج المترتبة على تلك النهايات من ناحية أخرى. وقد تتطلب الأمور بالنتيجة السماح للحرب على غزة بأن تموت تدريجياً بصمت ودون الاعلان الاسرائيلي رسمياً عن وقفها حتى يتم تجنيب اسرائيل وصمة عار الهزيمة من حربها الوحشية على شعب أعزل ومحاصر.
تعتقد اسرائيل أن الحرب على إقليم غزة الفلسطيني قد جاءت، سواء بأساليبها الوحشية أو التدمير الممنهج الذي مارسته، منسجمة من منظورها الاسرائيلي مع ما يعتبره الاسرائيليون نهج “الهزيمة الكاملة” التى تهدف إلى كسر إرادة الفلسطينيين وإرغامهم على الرضوخ للمخططات الاسرائيلية الهادفة إلى تهجير سكان إقليم غزة أو معظمهم. وقد ثبت فشل هذا الأسلوب بشكل واضح وفاضح أمام العالم كله حيث بقي الفلسطينيون ثابتين على أرضهم رافضين لأي عملية تهجير ومقاومين للعدوان وأساليبه الوحشية وأهدافه الشرسة في الإبادة والتدمير.
إن ما يجري الآن، وبعد إنقضاء أكثر من سبعة أشهر على العدوان، يعكس بشكل عام المحاولات الحثيثة المحمومة لتحويل الهزيمة العسكرية الاسرائيلية إلى نصر سياسي من خلال التأثير على نتائج تلك الحرب والتلاعب بمخرجاتها بحيث تقترب تلك المُخْرَجات من المخططات الاسرائيلية وتبتعد بالمقدار نفسه إن لم يكن أكثر عن الأهداف الوطنية الفلسطينية.
من الواضح أن الحرب قد انتقلت الآن من المعركة العسكرية إلى المعركة السياسية. هنالك مساعٍ جادَّة لايجاد مخرج لتلك الحرب بطريقة تُحوِّل فشل اسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة من الحرب من وضع الهزيمة إلى وضع “اللاهزيمة” نظراً لصعوبة الادِّعاء بنصر اسرائيلي في هذه الحالة، وكذلك تحويل إنتصار حماس الفعلي إلى وضع “اللاإنتصار” نظراً لإستحالة السماح الامريكي والغربي لحماس بالانتصار وفي نفس الوقت صعوبة الإدعاء بهزيمتها.
هنالك عدة مؤشرات على الخسائر التي تكبدها الكيان الاسرائيلي نتجة التغييرات التي حصلت في الحقبة ما بعد 7 أكتوبر ونتيجة للعدوان الاسرائيلي الذي تلاها وما زال. وأهم هذه التغييرات هي :-
أولا : فقدان اسرائيل لمصداقيتها في العالم وإدانتها من قبل معظم دول العالم ومؤسساته الدولية وسقوط أكذوبة “اسرائيل الدولة الصغيرة المسالمة” حيث تَبيَّنَ للعالم أن العكس هو الصحيح وأن اسرائيل هي مصدر التهديد للشعب الفلسطيني ولدول الاقليم.
ثانياً : سقوط الادعاء الاسرائيلي بأن الفلسطينيين هم حالة طارئة على فلسطين ولا شئ يربطهم بها لأنها أرض الميعاد لليهود. فعلى الرغم من عمليات التجريف لبنيته التحتية التى قام بها الجيش الاسرائيلي، ومع كل ما جرى من قتل وتدمير، فإن موقف الشعب الفلسطيني في إقليم غزة َوالضفة الفلسطينية عكًسَ درجة عالية من الصمود والاصرار العنيد على عدم مغادرة الوطن الفلسطيني إلى أي وطن آخر، ورفضاً متواصلاً لأي محاولات لفرض التهجير سواء بالقوة أو بالاغراء.
ثالثاً : تفاقم حالة الانقسام داخل المجتمع الاسرائيلي نتيجة الاختلاف على الأولويات العسكرية والسياسية في الحرب على غزة.
رابعاً : لقد تسبب الاجرام الاسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين في ثورة الاجيال الشبابية والطلابية في أوساط المجتمع الأمريكي والغربي وفي باقي دول العالم رفضاً للإجرام الاسرائيلي وضغطاً على الحكومات والمؤسسات لاتخاذ مواقف مناهضة للسياسات الاسرائيلية اللاإنسانية تجاه الفلسطينيين. أجيال الشباب في أمريكا والعالم الغربي وطلاب الجامعات فيها على وجه الخصوص تتظاهر الآن بتصميم ونشاط وبشكل مستمر وملحوظ ضد الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وضد العدوان الاسرائيلي الإجرامي على المجتمع المدني الفلسطيني في إقليم غزة وفي الضفة الفلسطينية. وهكذا، فإن هذه الأجيال الشابة، والمقدر لها أن تقود مجتمعاتها في المستقبل المنظور، سوف تكون أكثر وعياً لمأساة الشعب الفلسطيني وللإجرام الذي تقوده سلطات الاحتلال الاسرائيلي ضد هذا الشعب. المستقبل إذا ًسوف يكون مع فلسطين و الفلسطينيين وقضيتهم وليس مع اسرائيل.
خامساً : التوجه الزائف لأمريكا ومن خلفها أوروبا للتصريح بأن منع تكرار ما حصل في 7 أكتوبر يستدعي ويتطلب تلبية بعض المطالب الفلسطينية، دون أن يؤدي ذلك إلى الاخلال بالمصالح الاسرائيلية. وقد تمت ترجمة هذا الموقف من خلال الاعلان عن ضرورة تطبيق حل الدولتين دون الايضاح عن ما يعنيه ذلك، أو ماهية ومواصفات الدولة الفلسطينية المقترحة وحدودِها، سوى الادعاء الكاذب أنها سوف ًتلَبيِّ وسوف تستجيب للمطالب والآمال والطموحات الوطنية الفلسطينية. وقد ترافقت هذه الدعوة مع مساعٍ أمريكية تستبق إنشاء دويلة فلسطينية من خلال العمل على فصل التواصل البرّي لإقليم غزة مع ُعمْقِهِ الفلسطيني والاستيلاء على الجانب الفلسطيني من معبر فيلادلفيا لقطع التواصل العربي البري مع إقليم غزة، وذلك من خلال قيام أمريكا، تحت حجة إيصال المساعدات الانسانية، ببناء ميناء الرصيف العائم الذي يفتح الطريق أمام تواصل إقليم غزة مع العالم الخارجي بحراً دون الحاجة للمرور بالاراضي الفلسطينية المحتلة، علماً أن التفتيش الأمني سوف يبقى قائماً وقد يتم بواسطة قوات دولية في الميناء المذكور أو في دولة أخرى مثل قبرص وكذلك الحال في معبر فيلادلفيا.
الحديث في الدولة الفلسطينية المقترحة وعنها حديث يجب أن يدخل في خانة المحرَّمات الفلسطينية. الدويلة الفلسطينية المقترحة من قبل أمريكا والتي يتسابق الغرب ومعظم الأنظمة العربية الآن إما على الاعتراف المسبق بها أو الدعوة إلى الاعتراف بها، وكأنها الاستجابة المنتظرة للآمال الوطنية الفلسطينية، هي في واقعها عنوان لدولة وليس دولة بالمعنى الحقيقي، والهدف الخفي منها هو أمر في غاية الخطورة كونه يهدف إلى مايلي : –
أولاً : بيع الفلسطينيين حلم الدولة عوضاً عن إعطائهم دولة حقيقية، وفي المقابل إعطاء الاسرائيليين دولة حقيقية خالية من أي مشاكل تتعلق بالحقوق الفلسطينية. والهدف هنا ينحصر بشكل أساسي في تنفيس الاحتقان الفلسطيني من خلال الشعار الكاذب بحل الدولتين.
ثانياً : حل الدولتين سوف يعني عملياً إلغاء صفة الاحتلال عن الأرض الفلسطينية وتقسيمها بين الاسرائيليين والفلسطينيين بشكل غير عادل، ويشمل هذا التقسيم التنازل الفلسطيني الرسمي والنهائي والقانوني عن القسم المخصص لدولة إسرائيل اليهودية مما يعني منع الفلسطينيين من المطالبة مستقبلاً بأية حقوق وطنية في باقي فلسطين ويجعل معظم أراضي فلسطين بالتالي وقفاً دائماً لإسرائيل كونها هي الشريك الأكبر والأقوى في حل الدولتين. الهدف من حل الدولتين إذاً هو إعطاء القسم الأكبر من فلسطين للدولة الاسرائيلية والاعتراف الفلسطيني بأنها أرض يهودية ولليهود.
ثالثاً : تجريم أي عمل فلسطيني مقاوم للإحتلال باعتباره عدواناً فلسطينياً على دولة اسرائيل المعترف بها فلسطينياً، مما قد يستوجب الإدانة الدولية وقد يستدعي العقاب بأشكاله المختلفة على دويلة فلسطين المقترحة باعتبارها هي الدولة المعتدية.
رابعاً : يعطي حل الدولتين الاسرائيليين الحق بأن تكون دولتهم لليهود فقط، مما قد يفتح المجال أمامهم لمطالبة الفلسطينيين المقيمين فيها بالتالي بالنزوح من أرض فلسطين التاريخية إلى دويلتهم الفلسطينية أو البقاء بتأشيرة إقامة باعتبارهم رعايا دولة أجنبية يمكن ترحيلهم قانونياً في أي وقت ولأي سبب إلى دويلتهم الفلسطينية.
حل الدولتين يهدف إذاً إلى حل مشاكل اسرائيل مع الفلسطينيين دون تكبيد الاسرائيليين أية خسارة بشرية أو خساره في الأرض، ولا يهدف في حقيقته إلى إعطاء الفلسطينيين حقوقهم الوطنية أو حتى بعضاً منها، بقدر ما يهدف إلى منعهم من المطالبة بحقوقهم الوطنية أو بإزالة الاحتلال عن وطنهم فلسطين، ومنع وتجريم أي أعمال مقاوَمة للإحتلال الاسرائيلي باعتبار ذلك إعتداءً على الدولة الاسرائيلية المعترف بها من قبل الدويلة الفلسطينية المزعومة.
حل الدوليتين هو في جوهره وأهدافه حل اسرائيلي للقضية الفلسطينية في ظل غياب القدرة الاسرائيلية على إبادة الشعب الفلسطيني أو تهجيره من وطنه فلسطين.
*مفكر عربي
15 . 05 . 2024