الرئيسية / ثقافة وادب / دجلة الخير والعشق العراقي

دجلة الخير والعشق العراقي

السيمر / الخميس 06 . 10 . 2016

صالح الطائي

نهر دجلة وشريكه الأبدي نهر الفرات كانا الثدي الأكرم الذي أرضع أولى الحضارات البشرية على وجه البسيطة؛ التي ولدت من بين أحضانهما المعطاء. وعبر التاريخ الإنساني، ارتبطت جميع الحضارات التي شربت لبن أثداء هذين النهرين بهما مصيريا إلى درجة العشق؛ الذي كانت معه عاجزة عن مفارقتهما أو مفارقة أحدهما، إذ حكمت الحياة على من فارقهما بالموت أو التشرذم والضياع. أما تلك التي صمدت على أفياء شواطئهما، فقد دافعت عن وجودها بحمايتهما وكرمهما وخيراتهما، ولكنها اضطرت أحيانا للتخلي عن مركز القيادة على أمل أن تعود من جديد كعنقاء يلدها رماد المعارك وهي أكثر شبابا وعنفوانا وقوة.
وعلى مر التاريخ تغنى أبناء تلك الحضارات وغيرهم بهما وغنوا لهما وأورثوا ذلك لأجيالهم بلا انقطاع. ولأنني اخترت واسط التي يحيط بها دجلة من الشرق والغرب والجنوب مقاما بعد خبال العراقيين في 2006 لكي لا تتلوث يدي أو روحي بما يجري، لذا سأكتب عن دجلة على أمل أن أعود إلى الفرات في مناسبة ثانية.
دجلة خالدة في موروثنا التاريخي وموروثنا الثقافي، وسأتحدث أولا عن الموروث الثقافي وأعني الشعري، فهناك عدد لا يحصى من الشعراء الذين تغنوا بدجلة عبر التاريخ الطويل، أو اتخذوها وسيلة للنجاة من خطر محيق، وسأبدا بالشاعر عدي العبادي التميمي (توفي: 35 ق.هـ/587 م)، وهو من دهاة الجاهلية، كان نصرانيا من أهل الحيرة، فصيحا، يحسن العربية والفارسية، والرمي بالنشاب. هو أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى، الذي جعله ترجمانا بينه وبين العرب، فسكن المدائن ولما مات كسرى وولي الحكم هرمز الرابع أعلى شأنه ووجهه رسولا إلى ملك الروم طيباريوس الثاني في القسطنطينية، فزار بلاد الشام، ثم تزوج هند بنت النعمان. وشى به أعداء له إلى النعمان الثالث بما أوغر صدره، فتوسل إليه بنهر دجلة ليطلق سراحه، بقوله:

واخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة تجبى إليه والخابور
ولكن النعمان لم يقنع، فسجنه وخنقه بنفسه في السجن.

وفي عصر الدولة العباسية جاء العباس بن الأحنف الحنفي اليمامي نجد إلى بغداد ونشأ بِها وشرب من ماء دجلتها، فقال متغنيا بها.

وجد الناس ساطع المسك من دجلة قد أوسع المسارب طيبا

وشبه البحتري ماءها باللجين، واللجين: الفضة، فقال:

وإذا دجلة مدت شاؤها وجرت جري اللجين المنسك ِ

وقد انتقل هذا الموروث من جيل لآخر لنجد في القرن العشرين فحولا من شعراء العراق يتغنون بدجلة، إذ قال المرحوم عبد المحسن الكاظمي:

ويحسبني بماء النيل أروى وبي ظمأ لدجلة والفرات

وقال محمد رضا الشبيبي :

قتلى بدجلة منها دجلة امتلأ ت والنهروان والأنقاض والدررُ

وقال المرحوم الدكتور مهدي البصير :

سلام على دجلة في البكور وان طاب لي كل اوقاتيه

وقال محمد مهدي الجواهري قصيدته الخالدة:

حييتُ سفحكِ عن بعدٍ فحَييني يادجلة الخير, يا أمَّ البساتين ِ
حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذ به لوذ الحمائِم بين الماءِ والطين
يادجلة الخير ِيا نبعاً أفارقه على الكراهةِ بين الحِينِ والحينِ
إني وردتُ عُيون الماءِ صافية نَبعاً فنبعاً فما كانت لتَرْويني
وأنت ياقارباً تَلوي الرياحُ بهِ ليَّ النسائِم أطراف الأفانينِ
ودِدتُ ذاك الشِراعَ الرخص لو كفني يُحاكُ منه غداة البيَن يَطويني
يادجلة َ الخيرِ: قد هانت مطامحُنا حتى لأدنى طِماح ِ غيرُ مضمونِ
أتضْمنينَ مقيلاً لي سواسية بين الحشائش أو بين الرياحين؟
خِلواً من الهمِّ إلا همَّ خافقةٍ بينَ الجوانح ِ أعنيها وتَعنيني
تَهزُّني فأجاريها فتدفعَني كالريح تُعجل في دفع الطواحينِ
يا دجلة الخير:ياأطياف ساحرةٍ يا خمرَ خابيةٍ في ظلَّ عُرجونِ
يا سكتة َالموت, يا إعصار زوبعةٍ يا خنجرَ الغدر, يا أغصان زيتونِ

وقال بدر شاكر السياب:

علموا دجلة الظلامات والغدر فعادت ولا تفي عهد جار

وقال المرحوم الشيخ أحمد الوائلي:

بغداد يا زهو الربيع على الربى بالعطر تعبق والسنا تتلفع
يا ألف ليلة ما تزال طيوفها سمرا على شطآن دجلة يمتع
يا لحن معبد والقيان عيونها وصل كما شاء الهوى وتمنع
بغداد يومـك لا يزال كأمسه صورٌ علـى طرفي نقيض تجمع
يطغى النعيـم بجانب وبجانب يطغـى الشقا فمرفّه ومضيع
في القصر اغنية على شفةِ الهوى والكوخ دمعٌ في المحاجر يلذع
ومن الطوى جنب البيادر صرّع وبجنب زق أبي نؤاس صرّع

ومن أهلها عرف الآخرون معنى عشقها وتغنوا به، فها هو أمير الشعراء الشاعر المصري الذي يقطن جوار النيل يتغني بدجلة قائلا:

يا شراعاً وراءَ دجلة َ يجري في دموعي تجنبَتكَ العَوادي
سِر على الماءِ كالمسيحِ رُويداً واجر في اليمِّ كالشعاع الهادي
وأْتِ قاعاً كرفرَفِ الخلدِ طِيباً أو كفردوسهِ بشاشة َ وادي
قفْ ، تمهَّل ، وخذ أمانا لقلبي من عيونِ المهَا وراءَ السَّوادِ
والنُّواسِيُّ والنَّدامَى ؛ أَمِنْهُمُ سامرلٌ يملأُ الدُّجى أو نادِ ؟
خطرتْ فوقه المهارة ُ تعدو في غُبارِ الآباءِ والأَجداد
أمَّة ٌ تنشىء الحياة َ ، وتبني كبِناءِ الأُبوَّة ِ الأَمجاد
تحتَ تاجٍ من القرابة والمُلـ ـكِ على فَرْقِ أَرْيحيٍّ جواد
ملك الشطِّ، والفراتيْنِ، والبطـ ـحاءِ، أَعظِمْ بِفَيْصَلٍ والبلاد

إن الجميل في دجلة أن اسمه كما قال الدكتور صدام فهد الأسدي في موضوعه المعنون “دجلة والفرات ودلالتهما في الشعر العراقي”: يجوز تأنيثه على اللفظ، وتذكيره على نية النهر، وربما دخلته (أل) فيقال: (الدجلة) وسمي بذلك لأنه غطى الأرض بمائه حين فاض.
والظاهر من المدونات التاريخية القديمة أن نهر دجلة العظيم ولد وهو يحمل اسمه معه في يوم مولده، فهو الاسم نفسه الذي عرف به عبر التاريخ، ولا توجد ـ على حد علمي ـ أي معلومة عن اسم آخر له، إذ أشار المرحوم الدكتور طه باقر في كتابه الموسوم “من تراثنا اللغوي القديم” إلى أن دقلا (Daqala) اسم مدينة ونهر ورد ذكرها في مدونات الملك الآشوري سنحاريب، ويشير الاسم إلى عائديتها إلى بلاد وقبيلة بيت ـ أووكاني (Bit- awukani).
وهذا لا يعني أن اسم دجلة مشتق من اللغة السومرية فهو موجود قبلها بالتأكيد بدلالة أن الاسم ورد بصيغ عديدة منها في السومرية نفسها بصيغة أدكنا(Idigna) وورد في اللغة الأكدية بصيغة إدكالات (Idiglat) وفي اللغات العبرية والآرامية والعربية بصيغة حداقل أو دقلا.
المدهش أن حازم علي كمال الدين، توصل في معجمه الموسوم “معجم مفردات المشترك السامي في اللغة العربية” إلى أن جميع تلك التسميات تعني في المشترك السامي (الأكدي، العبري، الآرامي، السرياني، العربي، الحبشي) معنى واحدا هو: النخلة أو نوعا من التمور!.
وهذا ترابط رمزي لأن النخل يرمز إلى دجلة، ودجلة يرمز إلى النخل، فهما توءم حياة العراق والعراقيين، أما الدقل فيأتي بمعنى: الخشبة الطويلة التي تُشَد في وسط السفينة يُمَد عليها الشِّراع، ويسميها البحارة: الصاري. والعلاقة بين الصاري والنهر علاقة متينة. ويأتي بمعنى: نوع من التمور له ميزة غريبة جدا وفريدة بشكل يكاد يرسم أوضح صورة لعلاقة العراقي بدجلة، فهذا النوع من التمور إذا زرع نخيله قرب دجلة، يعطي تمرا حلو المذاق لذيذ الطعم شهيا جميل المنظر، وإذا زرع نخله بعيدا عن دجلة يعطي نوعا من أردأ أنواع التمور المعروفة.
اللهم أحفظ لنا دجلتنا ودقلنا وشعبنا وأهلنا يا ربنا.

اترك تعليقاً