السيمر / الثلاثاء 06 . 06 . 2017
صالح الطائي
لا يُطلب من الشاعر أن يكون مدونا لأحداث التاريخ فللتاريخ رجاله المهتمون بمفرداته ودواخله وخفاياه، ولكن اصطفاف قوافي الشاعر الإنساني الذي يحمل نبل التاريخ وبصماته الخالدة يؤرشف عادة لحياة الإنسان بما يبدو تاريخا ولكن بِنَفَسٍ آخر، نفسٌ تدونه الإيقونات ليتحول إلى مثابات في دروب الحياة، تُذِّكر السائرين باتجاهاتهم خوف الميل إلى احد شطئان التيه أو مفازات الضياع.
لم يكن الشاعر يوما مطالبا أن يكون الفارس الحارس لبوابات ينابيع الحياة، ولا المقاتل دفاعا عن أذيال الحرائر، فالمقاتلون والفرسان والحراس يُعدون وفق مقاسات لا تتطلب منهم شفافية روح أو طيبة نفس أو نقاء وجدان، بينما يحتاج الشاعر إلى كل هذه الأشياء ولمسات من الترف الفكري والغنى اللفظي والرقة والجمال ليكون شاعرا، وقد يحتاج بعضا مما احتاجوا إليه!
بسبب هذا الشعور المتسامي يتحول الشاعر حتى من دون أن يعرف إلى إيقونة غواية يتبعها الغاوون لتهيم بهم إما في وديان الخبال حيث الظنينة والقبح والكراهية والتعصب والانغلاق والانطواء، أو إلى مدارج النور ومشارق الصباحات لتهيم في أمواج ونسمات الخيال وجموح العواطف حيث الأشياء الحقيقية لا تبدو أكثر من أشباح أسطورية تختبئ خلف جيوش الغواية تحتمي بها من وطأة البؤس الذي ينضوي عليه العالم الواقعي، عالم الحقيقة؛ الذي ترتسم على ملامحه صورة وجه الإنسان، هذا الكائن الذي لا يعرف الضحك إلا نفاقا. وحينما تنتكس عنجهية العبوس، ترتفع راية الدهشة لتعلن عن جيش الجمال الذي تتقدمه الفراشات في مسيره بحثا عن ضوء صباح بلا غصة أو وجع.
وحينما ينح المتخصصون كل نحو تخصصه، غالقا باقي الأبواب التي لا يجيد التعامل معها، يختلق الشاعر بيرقا حتى ولو من أسمال طفل فقير ليرفعه شاخصا لا يؤمن بالشخصنة ولا بالتخصص، فالشاعر فضاء تنبسط أمامه كل التخصصات، فيبدو وكأنه قد ألم بفحواها جميعها حينما أمسك بخيوط اللعبة وبدأ يوجه دُماه ويحركها كيفما يشاء، هي الفوضى كما قد يعتقد البعض، ولكنها فوضى تنبض بالجمال الأخاذ الذي يسهم في ترتيب أولويات الحياة فيصبح التمايز بين آهة المكبوت وآهة السعيد بالنغمة العذبة نفسها.
وعند مفترق الطرق حينما يندهش السائرون أو يرتعبون ويتخوفون أو ينكفئون وجلين، حينما يجدون أنفسهم وقد ألقت بهم القافلة أمام مفترق طرق بلا لوحات دلالة يجد الشاعر مصابيح تضيء له دجى الليل البهيم وكواكب تومض بإشعاع الهداية لترسم له أبعاد الشوارع التي تنتظره، فتطمئن نفسه لأنه يجد حينها نفسه واقفة على مسافة واحدة من جميع مسارات التقاطع.
من غواية الشعراء أنهم لا يطيلون الوقوف مثل غيرهم، فهم يقفون، يفكرون، يصممون، ثم يشرعون بالمسير، فثمة رؤى تغريهم بالمسير أبدا، لأن الشاعر يسأم الوقوف الطويل ويعده موتا بطيئا، ولذا تجد الشاعر الدكتور وليد جاسم الزبيدي يستغل وقوفه في المفترق ليبدع (إيقونات على مكتب الذاكرة) التي جاءت كلها تحمل تاريخ 2014 في إشارة إلى أنها نتاج وقفة تأمل. ألم أقل لكم أن الشعراء يملون الوقوف طويلا!
وفي مثل هذه الوقفات لا يتهيب الشاعر أن يكتب عن أبي القاسم الشابي أو عن الشيخ الدكتور أحمد الوائلي أو بدر شاكر السياب أو جبران خليل جبران أو جميل صدقي الزهاوي أو أن يكتب حتى عن القارئ عبد الباسط عبد الصمد أو مصطفى جواد أو كامل الدباغ أو فيروز بل أن يكتب حتى عن رامبو ونصير شمة ومؤيد البدري
فالإيقونات التي تحمل لونا واحدا والتي تبدو بحجم واحد لا تهتم بمظهرها بقدر اهتمامها بمحتواها، الإنسان جوهر لا مظهر، والإيقونة صورة إنسان، والإنسان أغنية يتجدد صداها عبر الدهور، هذا ما تخيلته وأنا أقرأ إيقونة أم كلثوم:
مذ عشقنا وانثنت في: أنت عمري
فتجلى الليل والأطلال .. أيكا فوق نهر
صوتها: كون وقيثار وشمس
أنها: سرُ غدٍ أجملُ أمسِ
كوكبا ما زال يشدو
آسرا روحي وفكري
وأخذني الإحساس نفسه وأنا اقرأ إيقونة فيروز:
يا جارة الوادي صدحتِ في صباح ومساء
أعطيتك الناي فغص اللحن
في جوف الرجاء
وإلى البلبل والسهل إلى الغيمات
للأوطان حس ونداء
إن شدوتِ الصبح يشدو
والعصافير ثريات السماء
إن الإيقونة لا تبوح سرا حينما تخنقها حشرجة بلعوم السياب بقدر ما تحاول عزف أنشودة المطر بلحن جديد، هو اللحن الذي تسمعه من إيقونة بدر شاكر السياب:
أنشدتَ حتى كاد يُغرقنا المطر
في منزل الأقنان ينتحب الوتر
من للشناشيل استفزت
آهة خرساء ينفثها الضجر
ولقد كتبتَ قصائد لحبيبة
ولمومس عمياء
يعزفها القدر
بعض إيقونات وليد الزبيدي تداعب مشاعرك لتجبرك على البكاء، هذا ما شعرت به وأنا اقرأ إيقونة السيد جواد العميدي:
يا قارئ الحب الحسيني
لسانُ لا يبارى
صوتك الحالم قد أيقظ أضغاث السهارى
دمعة كنتَ ونحن عينها
فبكيناك صغارا وكبارا
إن إيقونات الشاعر الدكتور وليد الزبيدي(إيقونات على مكتب الذاكرة) تجربة رائعة في دنيا الأدب العربي، وهي ذاتها عنوان المجموعة التي صدرت عن دار ديوان للنشر لتحمل الرقم (11) في سلسلة إصدارات الشاعر، ومع جمالها الأخاذ جاءت مقدمة الصديقة العزيزة الأديبة وفاء عبد الرزاق لتزيدها إشراقا وبهاء، فضلا عن شهادتين أخرتين واحدة بقلم الشاعر ركن الدين يونس والثانية بقلم الأستاذ محمد جودة العميدي.