الرئيسية / مقالات / 102 الدين والاهتمام بالشكل والجمود عـلى القوالب

102 الدين والاهتمام بالشكل والجمود عـلى القوالب

السيمر / الثلاثاء 13 . 06 . 2017

ضياء الشكرجي

هذه هي الحلقة الثانية بعد المئة من مختارات من مقالات كتبي في نقد الدين، حيث نكون مع مقالات مختارة من الكتاب الرابع «الدين أمام إشكالات العقل».

الاهتمام بالشكل والجمود عـلى القوالب
الرموز والشعارات اتخذت دائما في المجتمعات الإنسانية، ومنذ القدم، أهمية خاصة، سواء لدى الدول، أو الإيديولوجيات، أو الأحزاب، أو القوميات، أو القبائل، أو غيرها. وهكذا الأمر بالنسبة للأديان، فكلها اتخذت رموزا وشعارات، عـلى شكل رسم، أو عبارة، أو لون، أو راية. من هذه الرموز ما يرجع إلى عهد التأسيس، كالشهادتين بالنسبة للإسلام، ومنها ما اتُّخِذ من قبل أتباع الدين في وقت لاحق، إما قريب من زمن التأسيس، أو بعيد عنه. ومن الرسوم اتخذ اليهود الشمعدان السداسي، وفي وقت لاحق نجمة داوود، والمسيحيون الصليب، والمسلمون الهلال. ومع الوقت ظهر ما يقترب من الغلو بالاعتزاز بالرمز، أو لنقل بالشكل عموما، والتقديس له، أحيانا أكثر من تقديس المضمون والجوهر الذي يرمز إليه الشكل. وحيث إن حديثنا بشكل أساسي عن الإسلام، ولو إن هذا الكتاب يتناول قضية نقد الدين عموما، وتبرئة الله من الأديان وتنزيهه عنها، إلا أن الإسلام يتخذ موقعا خاصا في أولويات بحوث الكتاب. وهنا يتوجه النقد للمسلمين، أكثر مما هو موجه للإسلام نفسه. عـلى سبيل المثال اتُّخِذَت قواعد الرسم (الإملاء) الـتي استخدمها الخطّاطون الذين رسموا أو خطوا نسخ المصاحف المتقدمة زمنيا نوعا من القداسة، بحيث لا يجرؤ أحد حتى أن يصحح الأخطاء الـتي وقع فيها هؤلاء، وهم بشر غير معصومين، بحيث اتَّخذت طريقة الكلمات (داود) بسقوط الواو، و(هذا)، و(هذه)، و(ذلك)، و(هؤلاء)، و(الرحمن)، و(لكن) بسقوط الألف، و(أولئك) بزيادة الواو وسقوط الألف، و(إله) و(الرحمن) بسقوط الألف، كما هو مع لفظ الجلالة نفسه؛ اتَّخذت كل تلك الكتابات الخاطئة – نعم أقول الخاطئة – مسحة من قداسة، بحيث يُعَدّ كتابتها بالطريقة الصحيحة خروجا عـلى القرآن، بل خروجا عـلى اللغة العربية، بينما الصحيح أن تكتب (هاذا)، و(هاذه)، و(ذالك)، و(هاؤلاء)، و(هاكذا) و(الرحمان)، و(لاكن) و(ألائك) و(إلاه). لا بل انتقلت القداسة إلى الأخطاء اللغوية، لا في الرسم القرآني فقط، بل حتى الأخطاء النحوية. وهكذا نجد إن الحروف الـتي خُطَّت بها المصاحف، اتَّخذت هي الأخرى شكلا من القداسة، بحيث لا يجرؤ أحد أن ينشر مصحفا للقرآن بخط مُستَحدَث، غير الخطوط التقليدية كالثلث والنسخ والكوفي، بالرغم من أن هذه الخطوط كانت تمثل في حينها ثورة جريئة بمعنى الكلمة في الخط العربي، الذي كان مقتصرا عـلى الكوفي. ثم غدا الهلال رمزا مقدسا، وهو لم يُتَّخَذ رمزا إلا في وقت متأخر جدا، ليوضع عـلى المساجد، تقليدا للكنائس في وضعها الصليب رمزا دينيا لها، وعلى أعلام العديد من الدول الإسلامية، كما الصليب على العديد من الدول الأورپية. وهكذا أصبحت المئذنة والقبة رمزين مقدسين، بحيث لا يجرؤ أحد أن يبني مسجدا من غير قبة أو مئذنة، دون أن يعي هؤلاء إن كلا من هاذين العنصرين في بناء المساجد، كانت له ثمة وظيفة، انتفت بتطور أساليب البناء من جهة، وتطور التقنيات الصوتية من جهة أخرى. فالقبة كانت الوسيلة الوحيدة لبناء قاعات واسعة نسبيا من غير أعمدة، ذلك قبل ظهور الكونكريد المسلح، أما المئذنة فكانت ضرورة عملية للأذان من مكان مرتفع، لإيصال المؤذن صوته إلى مسافة بعيدة، من أجل إسماع المسلمين حول المسجد، لاسيما البعيدين عنه نسبيا، والإعلان عن دخول وقت الصلاة، كي يجتمعوا لصلاة الجماعة. بينما انتفت الحاجة للإعلان بوجود الساعة، وانتفت الحاجة لارتفاع مكان المؤذن من أجل إسماع صوته، بعدما ابتكر الإنسان مكبرات الصوت. مع هذا تجد المسلمين – وهكذا هم معظم أتباع كل الديانات – يُقدِّسون الشكل، أكثر بكثير من الجوهر، بحيث يقيم المسلمون في بلاد الغرب الدنيا ولا يقعدونها، من أجل المطالبة بالإذن لهم ببناء مساجد ذات مآذن. وهكذا نجد إن كثيرا من الشكليات اتخذت أهمية دينية وتقديسا، كلباس رجل الدين، وغطاء الرأس، لاسيما أثناء الصلاة، واللحية، والتختم، وغيرها، وفي الواقع كلها ليست من جوهر الدين، بل من شكلياته الـتي لا قيمة حقيقية، ولا قداسة لها. وأقول ذلك بمعايير ومفاهيم الدين نفسه، وليس بمعاييري ومفاهيمي كمؤمن لاديني، وكناقد للدين.
بل اتخذت الحروف المُقطَّعة في مستهل بعض سور القرآن أهمية، بحيث انتشرت أسماء بهذه الحروف المقطعة، كاسم (طاها)، ويكتب بحرفين (طه)، ولا يعي الآباء الذين يسمون أبناءهم بهذه الأسماء، إن (طاها) هذه مثلا ليست إلا الحرفان (ط) و(ه)، أو (طا) و(ها)، واللذين نسميهما اليوم (طاء) و(هاء) بالهمز، لأن هذه الحروف المنتهية اليوم بألف ممدودة وهمزة، كانت تُسمّى من غير الهمز، فيقال (با، تا، ثا، حا، خا، را، طا، ظا، فا، ها، يا) بدلا من (باء، تاء، ثاء، حاء، خاء، راء، طاء، ظاء، فاء، هاء، ياء)، كما نسميها اليوم، فكأننا نسمي أولادنا (طاء،هاء) و(ياء،سين)، الذي حُوِّل هو الآخر إلى اسم هو (ياسين)، ويكتبه البعض كحرفين (يس)، أي (ي.س). لكننا لم نجد من سمّى ابنه أَلِفلاممّيم (ألم)، أو صاد (ص)، أو قاف (ق)، أو نون (ن)، أو هاكافعينصاد أو هاءكافعينصاد (هكعيص). نعم يقال إن طه (طاها) أو (طاءهاء) ويس (ياسين) أو (ياءسين) هما اسمان من أسماء الرسول. وهذا اللَّبس عند المفسرين جاء نتيجة أنه من بعد البدء بهذه الحروف المقطعة، كان الخطاب موجها إلى النبي، مما دعاهم أن يعتقدوا أن الله يخاطب نبيه باسم (طه) بقول «طه (طا.ها)، ما أَنزَلنا عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشقى»، وباسم (يس) بقول «يس (يا.سين)، والقُرآنِ الحكيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ المُرسَلينَ»، بينما لم يقل أحد إن بداية سورة البقرة بـ«ألم (أَلِف.لام.مّيم)، ذلِكَ الكِتابُ لا رَيبَ فيهِ هُدًى لِّلمُتَّقينَ)، تعني أن من أسماء القرآن (ألم) أو (ألف.لام.ميم)».
وهذا كله ناتج عن منهج، أسميته فيما مضى بـ(القوالبية)، أي جمود البعض عـلى القوالب الجامدة، للشكل، دون الالتفات إلى الجوهر، مبررين ذلك بما يعدونه من التوقيفيات، أي ما توقفت صحته عليه، لوجود نصّ مُلزِم. فاعتُمِد عـلى سبيل المثال شكل السُّنة لا جوهرها، وهكذا بالنسبة لكثير من القضايا، فتم الجمود عـلى قراءات سبع، أو عشر، للقرآن، حسب ما ورد من روايات، أن كلمة ما قُرِئَت على هذا أو ذلك النحو، بينما الصحيح، هو استخلاص قاعدة، هي الـتي تحدد أي قراءة صحيحة ومقبولة، وأيها لا تكون كذلك، كقاعدة إمكان إدغام المتماثلين أو المتشابهين، وقاعدة إمكان تفكيك الإدغام، وقاعدة إمكان حذف إحدى التاءين المتتاليتين. وهذا أحد البحوث التي كنت أنوي إدراجها في مشروع كتاب أردت أن أسميه «قواعد عربية القرآن»، وربما أضمنه كتابي «سياحة تأملية في العربية – في ظلال علم اللغة»، الذي ينتظر في رحم الفكرة منذ أيام المتوسطة والإعدادية، أي ما يقارب الخمسة عقود، ليولد كتابا يوما ما.
وهذه القوالبية الجامدة انتقلت إلى ما سُمِّي بـ(أسماء الله الحسنى)، وحُدِّد عددها بتسعة وتسعين اسما، وحتى إنهم جعلوا (الضارّ) اسما من أسماء الله الحسنى، ناهيك عن (المنتقم) وغيرها. فلنتصور إن إنسانا ما قيل عنه أنه ضارٌّ أو مُضِرٌّ، فهل سيفهم السامع منا أننا نريد مدح ذلك الإنسان، أم سيفهم كل واحد بالبداهة أننا نريد ذمّه؟ ونفس المنعوت بـ(الضارّ) أو (المُضِرّ)، عندما يسمع منا توصيفه بهذه الصفة، هل سيفهم منا أننا نريد مدحه، بحيث سيفرح لذلك، ويشكرنا عليه، أم سيفهم منا قصد النيل منه وتسقيطه؟ فهؤلاء لم يميّزوا بين قدرة الله على النفع والإضرار، أو عدم التدخل لمنع ضرر ما، وبين جواز أن يكون أحد أسمائه (الحسنى؟) هو (الضارّ)، بينما صفة (القدير) أو (القادر) تتضمن ذلك المعنى، وتجزي عن تلك التوصيفات التي يتعالى الله عنها علوا كبيرا. ويبدو أنهم نسوا إضافة (القاتل) أو (الرامي)، إلى ما يعدونه أسماءه الحسنى، مستوحين ذلك من النص القرآني «فَلَم تَقتُلوهُم، وَلـاـكِنَّ اللهَ قَتَلَهُم، وَما رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلـاـكِنَّ اللهَ رَمى»، تنزه الله وتسامى عن ذلك سموا عظيما. وهكذا كانوا ربما سيسمون الله (الماكر) لقول القرآن «وَيَمكُرونَ وَيَمكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ الماكِرينَ»، و(الكائد) من قوله «إِنَّهُم يَكيدونَ كَيدًا وَّأَكيدُ كَيدًا». ناهيك عن الالتزام بعدد محدد من الأسماء، وإن كان بعض عقلاء المفسرين والكلاميين ذهبوا إلى عدم الالتزام بذلك، بل عُدّ كل ما يجوز وصف الله به، وما لا يخدش من جلاله وكماله من أسمائه الحسنى.

17/10/2012

اترك تعليقاً