الاحد 15 . 11 . 2015
أحمد الشرقاوي / مصر
الهجمات الإرهابية غير المسبوقة التي ضربت باريس الجمعة وخلفت 127 قتيلا و200 جريحا بينهم 80 في حالة الخطر الشديد وفق الأرقام المؤقتة الرسمية، وصفها الإعلام الغربي بـ 11 أيلول الفرنسية، فيما اعتبرها الرئيس فرانسوا هولاند “عمليات حربية” ضد بلاده، واتهم “داعش” بالوقوف ورائها قبل أن يكشف التحقيق عن الجهة المنفذة، ما يعني ضمنا أن فرنسا قررت إعلان حرب لا هوادة فيها ضد “داعش”..
توقيت الهجمات الذي لم يحظى باهتمام المحللين الفرنسيين، له أهميته البالغة لجهة فهم الأسباب، خصوصا وأن العمليات جاءت قبيل انعقاد قمة العشرين الأحد في تركيا، وهو ما أشار إليه الرئيس الفرنسي ضمنا بالقول، “إننا نعرف من قاموا بها، ومن أين جاؤوا”، ليعلن قصر “الإيليزي” رسميا عقب ذلك، أن الرئيس هولاند قرر عدم حضور قمة العشرين..
وكانت صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية قد أشارت في عددها الصادر صباح الجمعة، إلى معلومات تتحدث عن “استعدادات عسكرية تركية على الحدود للقيام بعمليات عسكرية برية في الأراضي السورية ضد مقاتلي “داعش”، وهو الأمر الذي ربطه المراقبون بقرار أوباما إرسال 50 مستشارا عسكريا ليقودوا عمليا الجيش التركي والجماعات الإرهابية “المعتدلة” لفرض منطقة آمنة في الشمال السوري بحكم الأمر الواقع، تكون مقرا رسميا لحكومة “الائتلاف” الإخونجي المؤقتة التي يرأسها ‘أحمد طعمة’ و20 من مرافقيه، غير أنه ولسوء حظها، منعتها “الجبهة الشامية” التي تسيطر على معبر “باب السلامة” من دخول الأراضي السورية صبيحة الجمعة بذريعة عدم التنسيق والحرص على سلامة أعضائها..
وهي خطوة استباقية كانت تحضر لها تركيا للقول في اجتماع فيينا أن هناك حكومة سورية مؤقتة تقوم بأعمالها في شمال سورية، زودتها الإدارة الأمريكية بهبة قدرها 100 مليون دولار لإدارة شؤون المنطقة، وأنها هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري طبقا لقرار مجموعة أصدقاء سورية الذي اتخذته سابقا 130 دولة، وكان يفترض أن تدافع السعودية وقطر وتركيا وفرنسا وأمريكا عن هذا المشروع التخريبي تحت عنوان “خطة بشأن مستقبل سورية” في لقاء فيينا 2، في انقلاب واضح على إعلان فيينا واحد.
وتؤكد معلومات روسية، أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان ينوي أن يطرح في قمة (G20) التي ستنعقد في إسطنبول يومي 15 و16 من الجاري خطة تركيا بشأن “مستقبل سوريا”، وهذا يعني، أنه في حالة موافقة القمة على الخطة التركية، سيكون على بشار الأسد الاستقالة، حسب تأكيد وسائل الإعلام التركية نفسها التي تناولت المقاربة الجديدة للحل في سورية من وجهة نظر تحالف (أمريكا، فرنسا، تركيا، السعودية وقطر)، مؤكدة أن العمليات العسكرية التركية يتوقع أن تنطلق في الفاتح من الشهر القادم وفق الأجندة المتفق عليها مع الحلفاء..
وفي هذا السياق، كانت صحيفة (Yeni Safak) المقربة من الحكومة التركية قد أشارت إلى أن تركيا ستقدم إلى قمة العشرين، “مذكرة بشأن سوريا”، تتضمن صيغة تهدئة (وقف إطلاق النار)، وستقترح في هذه المذكرة رحيل الأسد مبكرا وإنشاء “منطقة آمنة” لسكان شمال سوريا لمدة 10 سنوات، وسيسعى تحالف أمريكا للضغط على روسيا التي خلط دخولها الحرب على الإرهاب في سورية كل الأوراق، بهدف تحديد مجال عملها وعدم الاقتراب من المنطقة الآمنة في الشمال، وأنه في حال رفضت، فسيتم تصعيد الأزمة، الأمر الذي ستكون له عواقب وخيمة.
هذا المعطى البالغ الأهمية والخطورة، يؤكد ما ذهبنا إليه في مقالتنا السابقة حول “استراتيجية أوباما المعدلة لسورية” من شقين، بحيث تركز في الشق الأول على ضرورة وقف إطلاق النار لحرمان روسيا من تحقيق نصر استراتيجي على الإرهاب، يترجم هزيمة مذلة لأمريكا ومن معها، ويكشف زيف ادعاءاتها وخديعتها وأهدافها اللا أخلاقية الخبيثة التي تسعى لتحقيقها من خلال توظيف الإرهاب.. وتربط في الشق الثاني بين رحيل الأسد كشرط لمحاربة الإرهاب الذي يجب أن يقتصر على “داعش” وإلى حد ما على بعض قيادات “النصرة” الرافضة لعملية التأهيل، لأن الأدوات الإقليمية ترفض اعتبار بقية متفرعات “القاعدة” تنظيمات إرهابية، كالسعودية مثلا التي ترفض رفضا قاطعا إدراج “أحرار الشام” ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، وفق ما أكده وزير خارجية بريطانيا ‘فيليب هاموند’ الجمعة..
وبالتالي، ما وقع في فرنسا يذكرنا بالفعل بنفس السيناريو الذي حدث إبان تفجيرات نيويورك في الحادي عشر من أيلول 2001، وأعلن عقبه الرئيس بوش الصغير الحرب على الإرهاب في أفغانستان والعراق، وهو ما يفسر ذهاب عديد المحللين لتشبيه “عمليات باريس” بعمليات نيويورك، فيما ذهب البعض للحديث عن 11 أيلول أوروبي لما أصبح يمثله خطر الإرهاب على القارة العجوز، في محاولة لدفع الشعوب الأوروبية تحت وطأة الخوف من الإرهاب لدعم حكوماتها للانخراط في استراتيجية موحدة لمحاربة الإرهاب الذي اختير له هذه المرة عنوان “داعش”، خصوصا بعد معارضة البرلمان البريطاني الموافقة على قرار ‘كامرون’ المشاركة في الحرب على الإرهاب إلى جانب أمريكا وفرنسا في سورية.
هذا في ما يعتبر أسلوب العمليات الحربية التي هزت باريس (Modus Operandi)، بما تميز من دقة في التخطيط وحرفية في التنفيذ نسخة طبق الأصل من أسلوب “القاعدة” الذي يعتمد الهيكلية الهرمية المنظمة، بحيث بتم التخطيط للهجمات من الخارج، فيما تقوم مجموعة خلايا نائمة منتشرة في أوروبا بالعمليات التحضيرية من جمع للمعلومات وتحديد للأهداف ودراسة سبل اختراق الإجراءات الأمنية وتوفير المأوى واللوجستيك للعناصر (الخلايا) التنفيذية، بالإضافة لعمليات التنسيق والتوقيت والتفجير لتشتيت جهود القوى الأمنية، وقد كان لافتا إعلان السلطات الألمانية صبيحة السبت اعتقال أحد العناصر التي شاركت في عمليات باريس بألمانيا، ما يشير إلى أسلوب القاعدة بامتياز وليس “داعش” التي اتهمها الرئيس الفرنسي لنية في نفس يعقوب..
وما يعزز هذا المعطى، هو توجيه عميل الاستخبارات الأمريكية الإرهابي “أيمن الظواهري” قبل أيام للمنتسبين لتنظيمه باستهداف الصليبيين في عقر دارهم بأمريكا وأوروبا وروسيا، وبالتالي، ما الذي جعل الرئيس الفرنسي يسارع إلى اتهام “داعش” بالوقوف وراء العمليات العسكرية في باريس وليس “القاعدة”؟.. هذا علما أن أسلوب “داعش” كما أكدته الأحداث في أوروبا يعتمد أسلوب “الذئاب المنفردة” وليس الخلايا المنظمة والعابرة للحدود الذي يميز أسلوب إدارة المخابرات الأطلسية لعمليات “القاعدة”..
وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول الطريقة غبر المسبوقة التي تم بها اختراق المخابرات وأجهزة الأمن الفرنسية لتنفيذ العمليات في 6 مواقع مختلفة من باريس، ناهيك عن الطريقة التي وصل بها السلاح والمتفجرات للعناصر الإرهابية، والتي عادة ما تكون باستعمال الحقيبة الديبلوماسية وغض طرف المخابرات المحلية، وفي هذا الصدد، سبق للإعلام الفرنسي أن كشف نقلا عن ديبلوماسي سعودي قوله، إن الغرب لا يستطيع محاربتنا لأن لنا خلايا نائمة في كل دول العالم.. بل أكثر من ذلك، لقد سبق للرئيس أوباما نفسه أن عبر للإعلام عن خشيته مما أسماه بـ”القنبلة النووية السعودية”، في إشارة منه للسلطة المعنوية التي لدى السعودية على التكفيريين بسبب رعايتها للأماكن المقدسة..
هذا لا يعني أننا نتهم “السعودية” بالوقوف وراء عمليات باريس، التي لا يمكن أن تنجح إلا في إطار غرفة عمليات مخابراتية منظمة شاركت فيها أكثر من جهة، من الذين يستثمرون في الإرهاب وداعميه ومموليه لتحقيق أهداف أمريكا الانتهازية، كما لا يمكن استبعاد تركيا من المنظومة التي تشكل العقل المدبر، خصوصا وقد سبق وأشارت تقارير استخباراتية غربية وروسية إلى دخول حوالي 4.000 عنصر مندس من “داعش” مع موجة اللاجئين السوريين والعراقيين التي أطلقها السلطان أردوغان للضغط على أوروبا من أجل الموافقة على مشروع بلاده بإقامة منطقة عازلة في سورية تكون ملاذا آمنا للاجئين، ما يؤكد أننا أمام عملية معقدة تم التخطيط لها بدقة وحرفية عالية من قبل جهات استخباراتية لها مصلحة في إسقاط سورية وإفشال روسيا.
وكانت المعلومات تتحدث عشية انعقاد مؤتمر فيينا 2، عن قرار أمريكي بإفشال لقاء فيينا، خصوصا بعد أن قسمت واشنطن المشاركين إلى مجموعة تتخذ القرارات لم تستدعى إليها روسيا وإيران، ومجموعة استشارية تشارك في النقاشات دون أن يكون لها حق الاعتراض، مع رفض مطالب روسيا بوضع قائمة لتصنيف المعارضين وعزلهم عن قائمة الإرهابيين، الأمر الذي اعتبر انقلابا على بيانا فيينا 1، تماما كما تم إفشال جنيف 2 من قبل.
وهو ما دفع بموسكو للقول، إن تشكيل لجان فرعية حول سورية من قبل أمريكا في فيينا خطوة فاشلة لن يكتب لها النجاح، معلنة رفضها القاطع لتقسيم المشاركين في المفاوضات إلى أساسيين يتخذون القرارات بشأن مستقبل سورية وفرعيين متفرجين.
وعليه، من المبكر إبداء الحماسة لما قاله الرئيس الفرنسي وبعض المسؤولين في الغرب عقب عمليات باريس الحربية، من أن العالم مطالب بالتعاون وتكثيف الجهود في إطار حلف دولي لمحاربة الإرهاب كما كانت تطالب روسيا وإيران، لأن هناك شكوكا موضوعية حول محاولة أمريكية أطلسية لإجهاض مبادرة روسيا ومنعها من التفرد بتحقيق انتصار حاسم على الإرهاب في سورية بمعية حلفائها..
لا نريد أن نستبق التطورات ونحكم على النوايا، لكن المؤكد، حتى وإن خلصت النوايا هذه المرة بسبب ما أصبح يمثله الإرهاب من تهديد على مستوى العالم ككل، هو أنه وفي حال التوافق بين القوى الدولية على اقتراح روسيا وإيران بتشكيل حلف دولي لمحاربة الإرهاب، فمن شأن ذلك أن يجنب أمريكا وحلفائها هزيمة مذلة في سورية والعراق، ويجعلهم شركاء في النصر، لكن شريطة أن يتخلوا عن أوهامهم في سورية والعراق، ويعودوا لرشدهم ويلتزموا باحترام شرعة الأمم والقانون الدولي..
وهذا يعني، أن أجندة فيينا 2 ستتغير بالكامل، ولن يكون هناك من حديث سوى عن محاربة الإرهاب.. لكن، لا زلنا نشك في ذلك، لأن لا شيئ يحدث في الغرب صدفة، وعمليات باريس لم تكن صدفة، والحرب على الإرهاب لها عنوان معروف للعالم أجمع هو السياسات الأمريكية الإمبريالية وانغماس أدواتها الإقليمية في تنفيذها، ونقصد على وجه الخصوص (السعودية – قطر – تركيا) و”إسرائيل” من الباطن، وآخر هم هؤلاء هي أرواح الأبرياء ومصير الدول ومستقبل الشعوب، فما يهمهم أولا وأخيرا هي مصالحهم مهما كانت الوسيلة التي تبررها الغاية..
نقول هذا لأن الجميع يقول أنه يحارب “داعش” من أمريكا إلى “السعودية” مرورا بتركيا وفرنسا وغيرها.. لكن إرهاب “داعش” يبدو أنه موجه حصرا لخدمة أهداف أمريكا الانتهازية، سواء ضرب الأعداء أو الحلفاء للتعمية..
والحل يكمن في إدراك الشعوب الغربية لهذه الحقيقة السوداء، لأن من شأن ذلك أن يغير السياسات في أوروبا بشكل جذري، ويفشل المؤامرات الصهيو – أمريكية التي تهدف إلى ممارسة التوحش تحت شعارات إنسانية خادعة.
والتهويل من حجم كارثة باريس لا يجعلها أكثر أهمية من الكوارث الوهابية التي عانت منها سورية والعراق ولبنان ومصر وليبيا وتونس وغيرها خلال سنوات، وللمفارقة، كان العالم الغربي والعربي يتهم الرئيس الأسد بأنه هو من جلب الإرهاب لبلاده، فهل يسمح لنا اليوم بالقول، أن الرئيس هولاند بتدخله غير الشرعي في سورية هو الذي جلب الإرهاب لبلاده؟..
هذا ما تؤكده المعطيات.. لأن كل الخيوط تؤدي إلى سورية التي أصبحت مركز الكون اليوم، ومنه يحدد مصير العالم، ومن يعتقد أن بإمكانه تحقيق أهدافه وتسوية حساباته مع أعدائه بالإرهاب فهو واهم فاشل، ومجرم بحق الإنسانية جمعاء.
بانوراما الشرق الاوسط