السيمر / الجمعة 11 . 12 . 2015
ناصر قنديل / لبنان
بقي الموقف التركي ممّا يجري في سورية موضع جدل بين نخب عربية وعالمية متابعة كثيرة، لجهة الأهداف والخلفيات. إذ رُبط سواء من خلال الأدبيات التركية التي رافقت تبريره، أو من خلال الضجيج الإعلامي المرافق لما جرى ويجري في سورية، بالأحداث التي شكّلت سورية مسرحها، لجهة ما بدا أنه انقسام سوريّ ــــ سوريّ تتخذ فيه تركيا جانب فريق من الفريقَيْن. وصار الخلاف بين المتابعين حول تصنيف الفريقين: ثورة ونظام، أم معارضة وحكومة، أم «أخوان مسلمين» وعلمانيون يمسكون بالدولة، أم مجموعة من المتآمرين وفي مقابلهم حكم وطني، أم متطرفون يتوسلون الإرهاب ويرفعون راية مشروع حرب أهلية لتقسيم سورية، وفي مقابلهم مشروع الوحدة الوطنية للتراب السوري الذي يجسده الجيش السوري وتدافع عنه الدولة السورية.
بعد هذا التصنيف ومن خلفه، كانت تأتي التحليلات والأوصاف التي تطلق على الدور التركي. فمرة هو مساندة للتغيير الديمقراطي في سورية أو نصرة لمعارضة مشروعة، أو بالمقابل هو تدخل أجنبي سافر لنصرة عملية تخريب الكيان الوطني السوري أو حماية للتطرّف والإرهاب بهدف زعزعة قوة الدولة السورية تمهيداً للتقسيم. وبناء على التوصيف الممنوح لهذا الدور التركي، يصير الانحياز إليه أو يُدان، وتُضاف الخلفيات التحليلية إلى مبررات هذا الدور وأسبابه ومنطلقاته. فهو يصير تنفيذاً لخطة لحلف الأطلسي تستهدف وحدة سورية وموقعها في المنطقة، أو تحقيقاً لأحلام عثمانية، أو بالمقابل يصير دفاعاً عن قيم الديمقراطية، أو مواجهة لأطماع المشروع الإيراني.
يأتي التدخل التركي في العراق في شروط وظروف مختلفة كلياً. فهنا لا نقف على صراع داخلي ظاهر، يشكل مدخلاً لتموضع تركيا ويقدّم الغطاء لمداخلتها، فلا فرصة للقول إن هناك معارضة وحكومة، ولا ثورة وشعب، ولا نصرة لإرهابيين، ولا دعماً لمتطرفين، ولا تنفيذاً لخطة أطلسية، ولا اقتتالاً بين المكوّنات الأهلية وانتصار بعضها على بعض. ببساطة شديدة وعلناً، تركيا الدولة العسكرية تتدخل لتموضع قواتها العسكرية في العراق الجار وضمن جغرافيته الإقليمية، عنوةً ولو بادّعاء الحديث عن تفاهمات وإعطاء علم وخبر. وتقول رغم الرفض الرسمي العراقي، لن نسحب قواتنا. هي تركيا والعراق مباشرة ووجهاً لوجه، بلا توسّط لعبة المعارضة والنظام والثورة والشعب والتقسيم والوحدة. وببساطة مشابهة هي تركيا التي تزعم مرة أنها تدخل العراق ضمن معادلات الحرب على الإرهاب، ببساطة الإثباتات الدامغة ذاتها التي تفضح علاقتها بهذا الإرهاب.
الحكومة التركية هنا لا تحتاج إلى وجود «الأخوان المسلمين»، ولا التركمان، وليست بحاجة إلى مشهد فصائل مسلحة عراقية تدعمها، وحيث العنوان الكردي يبرّر خشيتها في الشريط الحدودي مع سورية، يحضر العنوان الكردي في العراق كحليف، ولا يخرج بين العراقيين من يبرّر التموضع العسكري التركي في العراق إلا رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني الذي يحطّ رحاله سريعاً في أنقرة للتشاور، وتقديم التبريرات والذرائع لما يفعله الجيش التركي. وبعدما يتكرر الكلام عن مهام تدريبية للقوات التركية، يخرج رئيس الحكومة التركية داود أوغلو ليقول بكل وقاحة إن قواته موجودة داخل العراق لضمان استقرار المنطقة، ويخرج الرئيس التركي رجب أردوغان، ليقول بكل صفاقة إن وجود قواته لن يكون موضع نقاش. وعلى رغم وصول رئيس الاستخبارات التركية إلى بغداد، ببساطة يعلم كل متابع أن القضية لا تحتاج إلى توضيحات، فالصوت المرتفع للحكومة العراقية لم يأت بمجرد وقوع الحدث، بل هو تتويج لسلسلة من الاحتجاجات والمراجعات بالطرق والأقنية الودّية من دون نتيجة، وبعد فشل وساطات ومساعٍ بين الحكومتين بطلب من الحكومة العراقية من دون أن تعطي تركيا أذناً صاغية.
حكومة أنقرة هنا تقول مباشرة، إنها تحرّك قواتها لدخول أرض ليست أرض بلادها، وخارج نطاق حدود سيادتها الوطنية، من دون أن تكون في حالة حرب مع الدولة المجاورة المعنية، ومن دون أن يكون هناك تهديد راهن يأتيها عبر هذه الحدود. وبعدما رفضت علناً كل المطالبات التي وردتها للمشاركة بقوّة برّية في سياق الحرب ضدّ «داعش»، مع العلم أن التموضع التركي الراهن يتم على بعد أمتار من سيطرة «داعش» في الموصل.
إن الوقائع المتصلة بنوعية القوات التركية وحجمها، والخطاب المرافق لفرض بقائها، مهما كان موقف العراق، تثبت الطبيعة الاستراتيجية لهذه الخطوة وتسمح بفهم الحركة التركية السياسية والعسكرية إزاء سورية. وبالبساطة ذاتها، نستطيع أن نكتشف أننا أمام إمساك تركي بمثلث جغرافي يربط سورية والعراق وتركيا، ويربط أكراد سورية بأكراد العراق وأكراد تركيا. مثلث يشبه مزارع شبعا على حدود المثلث السوري ـ اللبناني ـ الفلسطيني، والإمساك «الإسرائيلي» به. كما يشبه السعيَ التركي إلى إقامة منطقة عازلة في شمال سورية، قيامَ «إسرائيل» بإنشاء حزام أمنيّ أو شريط حدودي عبر ميليشيات عميلة على حدود لبنان الجنوبية لسنوات، وسعيها إلى إقامة مثلها ومجاهرتها بذلك بالتعاون في جنوب سورية مع «جبهة النصرة»، التي تعاونت تركيا معها للغرض نفسه شمالاً، وهو إقامة شريط حدودي أو حزام أمنيّ مشابه.
إن ترجمة مشروع تخريب الإقليم أمنياً والعبث بالجغرافيا السياسية لدوله، واعتماد استراتيجية زرع المخالب داخل الحدود الوطنية لدوله، جزء من تطلعات تركيا العثمانية الجديدة، بعد فشل التمدّد السلمي عبر النفوذ الاقتصادي، بفرض النفوذ العسكري، ولا مانع غداً من تمدّد تركي من منطقة إغدير على الحدود مع أرمينيا وإيران لنصب مخلب مشابه للمخلب الذي يمتد اليوم بين سيزر التركية والموصل العراقية والقامشلي السورية. فالأمر ليس بالذريعة التي تتغيّر طبقاً للظروف، بل بالسياسة القائمة على العبث بالجغرافيا السياسية والقانون الدولي والسيادة الوطنية للدول، من قبل حكومة لن يثنيها عن هذا العبث المستند إلى غرور البلطجة والزعرنة، سوى الردع الاستراتيجي، الذي يستدعي تحركاً عراقياً عاجلاً بالتنسيق مع روسيا وسورية وإيران. فقد توغّل المشروع العثماني وتوحّش وتواقح.
البناء