السيمر / الأربعاء 17 . 10 . 2018
د. لبيب قمحاوي / الأردن
يعاني الأردن الآن مما يسمى باللغة العامية “فـَلِّة حكم” أساسها تسخير الدولة الأردنية ومؤسساتها ومسؤوليها ومواردها لخدمة الفساد الكبير وكأنها إقطاعية موقوفة على خدمة ذلك الفساد ، بالإضافة إلى إبتعاد الحكومة ومؤسسات الدولة عن نبض الشارع وحاجات المواطن ، وإعطائها الأولية في الاهتمام لمتطلبات الحكم وإرضاء الحاكم أولاً .
إن “فَلَّة الحكم” التي يعاني منها الأردن الآن تُعَبِّر عن نفسها أكثر ما يكون في عزوف الحُكْم نفسه عن الانخراط في مشاكل وقضايا الوطن المختلفة والتي تفاقمت في الحقبة الأخيرة كنتيجة حتمية لذلك العزوف الذي إبتدأ منذ عقدين من الزمن وما زال يتفاقم . وهذا العزوف أساسه توجه الحُكْم نحو الإستعانة بالأقل كفاءة ولكن الأكثر استعداداً للقبول بمتطلبات الحكم أو للقبول بالفساد الكبير حتى ولو على مضض أو لخدمة متطلبات ذلك الفساد. وقد عكس هذا نفسه بالنتيجة على كفاءة مؤسسات الدولة من جهة وعلى سيادة القانون من جهة أخرى . وإبتدأ الإستهتار بمؤسسات الدولة يتزايد ويعكس نفسه في ضعف أداء تلك المؤسسات وفي تآكل كفاءة الموظف وعدم قيامه بالواجبات المناطة به . وقد ترافق ذلك بالضرورة مع تفشي الفساد في أوساط تلك المؤسسات وأصبحت الرشوة هي الوسيلة الأهم لإنجاز الأعمال أو لتجاوز القانون . كل ذلك والحكم في وادٍ آخر بعيداً عن مشاكل الوطن وعن ما يجري داخله ، وكل إهتماماته محصورة بقضاياه الخاصة التي تحظى بإهتمامه الرئيسي . وقد أدى تفاقم هذه الحالة إلى تفشي الرشوة والتسيب والإستهتار داخل تلك المؤسسات .
الأردن المشهود له تاريخياً بكونه دولة ذات نظام حكم كامل التعريف ، ومشهور بأدائه وكفاءته ، تَحَوُّل تدريجياً في العقدين الأخيرين إلى دولة قيد السقوط أو الانهيار تعاني من غياب الحكم المؤثر والمؤسسية التي ترتبط بسيادة القانون وحكم الدستور ، كونه أصبح مرتعاً للفساد ومحطة للجريمة المنظمة والفاسدين الذين يسعون إلى إستعمال الدولة ومؤسساتها ومواردها كمركز لنشاطاتهم .
وقد يجادل البعض بأن هذا الوضع ينطبق ، وإن بدرجات متفاوته ، على العديد من الدول العربية . وقد يكون في هذا جزءاً كبيراً من الصحة ، ولكن عوامل السقوط وأشكال السقوط وكيفية السقوط قد تتفاوت بين دولة وأخرى ، وان كان القاسم المشترك بينها جميعاً هو السقوط نفسه وليس آلية وكيفية وأسباب ذلك السقوط .
السقوط الأردني ليس مُحَصِّلَة أو نتيجة للسقوط العربي إذ أن له أسبابه المحلية الأردنية حتى وان جاء في نتائجه منسجماً مع مسيرة السقوط العربي بشكل عام .
يجابه الأردن الآن مشكلتين قد تكونا وراء كل المشاكل التي يعيشها . وهاتين المشكلتين هما وجود الفساد الكبير أولاً والإصرار على بقائه والإستمرار فيه ثانياً ، دون أي إعتبار لمصلحة الأردن ومستقبله ومستقبل أبنائه . إذ أن وجود الفساد شيء والاصرار على استمراره شئ آخر سوف يؤدي بالنتيجة إلى ازدياد عدم قدرة الدولة الأردنية على تلبية احتياجات مواطنيها وبالتالي إنهيار قدرتها على الاستمرار .
لقد قامت السلطة الحاكمة بتحويل الدولة الأردنية ومؤسساتها ومواردها لخدمة الفساد الكبير وإلى حَدّ تَجَاوَزَ القانون بل وسَخـَّره لخدمة ذلك الفساد . وأصبح مستقبل أي مسؤول في البلد رهناً بقدرته على خدمة ذلك الفساد في عملية ممنهجة لنهب البلد ومواردها أولاً بأول .
والتساؤل هنا يدور حول المنطق الذي يستعمله الحُكْم في تبرير مساره الذي أصبح يؤشر على تفاقم الخراب والانهيار الواضح في مؤسسات الدولة وسيادة القانون ربما ببعض الاستـثـنـاآت المتعلقة بالأجهزة الأمنية . ولكن لمصلحة مَنْ يصبح هذا المسار قَدَرْ الأردن وخياره الوحيد بغض النظر عن العواقب ؟ كيف يمكن تفسير هذا المنطق أو حتى القبول به ؟
صحيح أن هنالك بعض القرارات والاجراآت التي تقوم بها الحكومة الحالية في اتجاه اصلاح المسار أو تصويب قرارات سابقة خاطئة أو جائرة ، ولكن مثل هذه القرارات والاجراآت هي في القشور وليس في الجوهر . وفي الوقت الذي يتوجب فيه تشجيع الحكومة على المضي في هذا المسار ، الا أن هذا لا يكفي ، ولا يداوي الأمراض التي يعيشها الوطن أو الآلام التي يشعر بها المواطن ، ولا تشكل بديلاً ولا يجب أن تشكل بديلاً لعملية الاصلاح الحقيقي وفرض سيادة القانون المدني ومحاربة الفساد الكبير ، كما لا يجوز أن يَستعملها البعض كمدخل للمطالبة بوقف المطالب الشعبية للإصلاح الحقيقي.
هنالك وعي شعبي عام ومتزايد ، حتى بين أوساط الموالين للحكم تقليدياً ، لما يتهدد الأردن من أخطار تجعل من مستقبل الدولة الأردنية أمراً تحيط به الشكوك . والأمر المثير لغضب الأردنيين هو أن هذه الأخطار هي نتيجة سياسات وممارسات داخلية وليست نتيجة ضغوط أو سياسات مفروضه على الأردن من الخارج كما يَدّعي البعض ، مما يعني أن الخراب هو أمر داخلي لا يمكن القاء اللوم فيه أو في تبعاته على أحد من الخارج . وقد دفع هذا الوضع بالعديد من الأردنيين إلى إبداء غضبهم وسخطهم على أكوام المسؤولين الفاسدين مالياً وسياسياً وعلى المتاجرين بمناصبهم لارضاء المسؤول الأكبر وهكذا . وقد ترجم هذا الوضع نفسه في إزدياد وتيرة الاحتجاجات والبيانات والتظاهرات والاضرابات التي تعصف بالأردن الآن وتعكس غضب الأردنيين من مختلف المشارب ورفضهم لما يجري .
لا يوجد في الأردن حالة فـَلَتان شعبي جائر أو ظالم كما يَدَّعي بعض المسؤولين، كما لا يوجد حالة تطاول على النظام أو مؤسسات الدولة أو القوانين السارية ، بل يوجد حالة وعي شعبي متزايد لما يعصف بالأردن من فساد وسوء إدارة الأمر الذي وَلَّدَ حالة متفاقمة من الإحتقان أخذت تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة وإن كانت في مجموعها حتى الآن سِلْمِيـَّة . الجديد هو في إزدياد قسوة وشدة هذا التعبير السلمي عن الغضب الذي إخترق العديد من السقوف التي كانت تاريخياً من المُحَرَّمات . وهذا الإختراق قد يكمن أساسه في الكثير مما يتم تداوله عن علاقة بعضاً من أولي الشأن في قضايا الفساد التي يتم تداولها أو الإعلان عنها بين الحين والآخر . وقد ساعد فشل المعنيين في اثبات عدم تورط أولى الشأن في مثل تلك القضايا في تأجيج الشكوك العامة والغضب الشعبي . وفي عهد الملك حسين مثلاً كان هنالك حظراً غير معلن على أفراد العائلة المالكة يمنعهم من ممارسة الأعمال التجارية ، خصوصاً تلك المرتبطة بالدولة أو بالمشاريع العامة ، وذلك درءاً للشبهات ومنعاً للإشاعات والأقاويل .
وعلى أية حال ، فإن ما يسمى بحالة الفلتان تلك قد إبتدأت على أيدي مسؤولين فاسدين في الدولة ضربوا بالقوانين والأعراف عرض الحائط عَلَناً ودون إكتراث، وفتحوا الباب بالتالي أمام باقي المواطنين للتعدي على هيبة الدولة أو مخالفة القوانين بعد أن رؤوا وشاهدوا أولئك المسؤولين ينهبون مئات الملايين من المال العام دون أن يحاسبهم أحد ، بل على العكس تتم مكافئتهم بإستمرار على فسادهم ، أو يتم تولِيَتِهم أهم المناصب . وهؤلاء الفاسدين عادة ما يكونوا واجهة لفساد أكبر يوفر لهم الدعم والحماية مما يُمَكِّنَهم من الإستمرار في نشاطاتهم الفاسدة وفي تسخير الدولة لتمويل ذلك الفساد .
لقد ساهم إستمرار هذا المسار وتفاقمه في تأجيج رفض الأردنيين للجهود الحكومية الرامية إلى تعزيز موارد الدولة بما في ذلك الضريبة بأشكالها المختلفة ، كون تلك الإيرادات ، سوف تذهب في إعتقاد معظم الأردنيين ، لتمويل الفساد الكبير المُصِرّْ على الإستمرار على الرغم من معاناتهم . فمصير تلك الإيرادات في نظرهم إما السرقة المباشرة أو تمويل عجز الدولة الناتج عن سرقات غير مباشرة في المجالات العامة المختلفة وفي مؤسسات الدولة الأردنية .
لقد عزز هذا النهج شعور العديد من المواطنين الأردنيين بضعف الدولة ومؤسساتها مما عزز من قناعة العديد منهم بعدم قدرة الدولة على حمايتهم وحماية مصالحهم ، وشَجَّع آخرين على أخذ زمام الأمور بأيديهم وفرض ارادتهم على الآخرين خارج إطار القانون . وهذا الواقع شجع البعض منهم على النظر في إتجاهات أخرى أهمها العشيرة لكسب الدعم أو الحماية في ظل إحساس عام بغياب دولة القانون والعدل . وهكذا ، ابتدأت عملية تفكيك المجتمع الأردني وإعادته إلى مكوناته الأصلية في نهج لا يخلو من مرارة الفشل كونه يعيد الأمور إلى وضعها الأصلي الذي سبق تطور الدولة الأردنية وتبلور المجتمع الأردني الحديث .
وضع عجيب لا يتطلب أي إجتهاد في التحليل كون التطورات تشير إلى النتائج المحتومة . المعادلة الآن دقيقة وتتطلب حكمة كبيرة في التعامل مع المعطيات ولكن ضمن موقف حازم من استمرار الفساد الكبير وضعف الدولة ومؤسساتها ولامبالاة الحُكْم بمعاناة الأردنيين .
- مفكر عربي