السيمر / فيينا / الاثنين 29 . 04 . 2019
رواء الجصاني
… يستمر الاستذكار، وتنهمر الذكريات ينابيع محبة، ومسارات وفاء، وهذه المرة عن طبيب متخصص، وسياسي مخضرم، ولو كان شاباً الى اليوم!. هو مهند البراك، المناضل الوطني، والشيوعي منذ اواخر الستينات الماضية، حين تعارفنا اولاً في نشاطات اتحاد الطلبة العراقي العام، ولتبدء المسيرة المشتركة في دروب العمل السياسي، متعدد الاوجه.
والرجل ابن عائلة وطنية جليلة، بغدادية الجذور على ما أعرف، قدمت ما قدمت، من تضحيات على طريق العراق السعيد، وطناً وشعباً. وراح أبنها – مهند – على ذلك الدرب، أختيارا ذاتيا، لا أضطرارا موضوعيا، وهذا ما يضيف ميّزات أخرى للمشتغلين في الشأن العام، والسياسي منه بشكل أخص، والذين عادة ما يتحملون أكثر من غيرهم، متاعب والتزامات، ودون مقابل طبعا..
مع اوائل السبعينات، عملنا، مهند وأنا في اللجنة القيادية لاتحاد الطلبة العراقي العام، العريق، في ظروف السرية والمجازفات، وكذلك العلنية، أو شبه العلنية بتعبير أدق. وقد تكلفَ بمهام سكرتارية الاتحاد لعدة سنوات، وتكفلتُ – في حينها- بمهام العلاقات الوطنية والعربية، ثم الأعلامية في تلكم السكرتارية. وهكذا راحت المسؤوليات المتداخلة تستمر، والصداقة الشخصية الثنائية، والعامة، تتوثق مع عصبة دؤوبة من الزملاء والرفاق الطامحين لتحقيق الآمال الوطنية، وكل حسب قدرته، وعطائه، وخلـدَّ العديد منهم شهداء ميامين.
تعددت اجتماعاتنا، ولقاءاتنا لأعوام ثرية بالتجربة والتاريخ والمتحققات، وكذلك في مجال متابعات العمل التنظيمي الحزبي الشيوعي، والطلابي الديمقراطي، بأشكال وأوجه مختلفة، ومما أتذكره مرورا هنا، استقبالنا المشترك، مطالع السبعينات، لوفد سكرتارية اتحاد الطلاب العالمي خلال زيارته بغداد، وذلك في بيتنا بمنطقة الداوودي. وكذلك اشرافنا المشترك، في الفترة ذاتها، على اجتماع اللجنة التنفيذية لاتحادنا الطلابي في كردستان، اوائل السبعينات الماضية، وقد استضافنا ليلتها الشهيد حبيب المالح في بيتهم بعين كاوا. وغير ذينك المثالين كثير كثير، وحتى وانا في الخدمة العسكرية الالزامية لعام كامل (خريف 1970 الى خريف عام 1971) بعد تخرجي في معهد الهندسة العالي بجامعة بغداد.
وفي الفترة اياها، ضمتنا ايضا هيئات حزبية مختلفة، وصولاً الى عضوية اللجنة المحلية المعنية بتنظيم عموم طلاب بغداد، في الثانويات والمعاهد والكليات (لجنة حيدر). وقد زاد ذلك من وثوق العلاقة مع مهند، ولتروح اجتماعية وعائلية وخاصة مع شقيقتيه: الشهيدة الباسلة، شذى، والناشطة الدؤوب، سوسن، بل وعموم أسرتينا، ولسنوات، ودون انقطاع حتى اواخر السبعينات، بعد هجمة البعث اللئيمة الغادرة الثانية. (1)
.. ثم نفترق اضطرارا، فيلتحق مهند بأولى تشكيلات الانصار الشيوعية المسلحة في كردستان العراق، مطالع الثمانينات، وليشتهر هناك في العديد من مهماته بأسم (دكتور صادق) ولنحو ثمانية اعوام. بينما رحتُ مكلفا بمهام سياسية وديمقراطية في براغ، ونبقى نتواصل عبر الاصدقاء وغيرهم.. ثم نلتقي من جديد، ولأكثر من مرة، منذ أواخر الثمانينات، في برلين وبراغ، بعد تغير الاوضاع، وانتهاء تجربة الكفاح المسلح، ونزوح مهند الى المانيا، حيث يستقر فبها الى اليوم: طبيبا وسياسيا وكاتبا، وتبقى العلاقة قائمة بأشكال مناسبة وبقدر ما سمحت وتسمح به الظروف.
ومن صفات الرجل الشخصية التي كنت شاهدا عليها: حرصه الحريص في اتمام المتطلبات التنظيمية، ومثابرته على المطالعة والتزود المعرفي، وجديته (الأكثر من اللازم احيانا!). واستدرك فأقول: ولكن كل ذلك ترافق مع حيويته الاجتماعية، وتواضعه الانساني، وجلساته الأنيسة، ونشاطه الشبابي (وحتى الفني عند تطلب الامر!) (2).. وكم كنت اغبطه على قدرته في الجمع بين نشاطه التنظيمي الحزبي والسياسى، والتفوق في دراسته المجهدة، حتى تخرج من كلية الطب بجامعة بغداد. بجانب صلابته في ظروف كان بعضها خطرا لحدود بعيدة، وفي الجعبة والذاكرة شؤون غير قليلة عن ذلك، ولكن ليس كل ما يعرف يقال، فللمجالس والمهام امانات!.
ان كل ما تقدم ليس سوى وقفات سريعة وحسب، في محطات رجل آمن بما أقتنع به في مسارات الحياة، الشاقة، ولكم كان بوسعه – لو شاء- ان يركن بكل يسر الى اختصاصه المهني، وحياته الاجتماعية، ولكن ذلك لم يكن في حسبان مهند، ومثله الالاف من المناضلين الذين أختاروا العطاء الوطني، وحتى التضحيات بالأنفس، عربونا لما أرادوه من حياة حرة كريمة للشعب والوطن…
—————————————————— بــراغ / اواسط آذار 2019
(*) تحاول هذه التوثيقات التي تأتي في حلقات متتابعة، ان تلقي اضواء غير متداولة، أو خلاصات وأنطباعات شخصية، تراكمت على مدى اعوام، بل وعقود عديدة، وبشكل رئيس عن شخصيات عراقية لم تأخذ حقها في التأرخة المناسبة، بحسب مزاعم الكاتب.. وكانت الحلقة الاولى عن علي جواد الراعي، والثانية عن وليد حميد شلتاغ، والثالثة عن حميد مجيد موسى والرابعة عن خالد العلي، والخامسة عن عبد الحميد برتـو، والسادسة عن موفق فتوحي، والسابعة عن عبد الاله النعيمي، والثامنة عن شيرزاد القاضي، والتاسعة عن ابراهيم خلف المشهداني، والعاشرة عن عدنان الاعسم، الحادية عشرة عن جبار عبد الرضا سعيد، والثانية عشرة عن فيصل لعيبــي، والثالثة عشرة عن محمد عنوز، والرابعة عشرة عن هادي رجب الحافظ،، والخامسة عشرة عن صادق الصايغ، والسادسة عشرة عن صلاح زنكنه، والسابعة عشرة عن عباس الكاظم، والثامنة عشرة عن هادي راضي، والتاسعة عشرة عن ناظم الجواهري، والعشرون عن ليث الحمداني… وجميعها كُتبت دون معرفة اصحابها، ولم يكن لهم اي اطلاع على ما أحتوته من تفاصيل، ونشرت كلها في العديد من وسائل الاعلام..
(1) ذات مساء في اواخر السبعينات- مطلع الثمانينات يطرق الفقيد الجليل عبد الرحمن احمد البراك، والد مهند، باب بيتنا في بغداد، وكانت والدتي (نبيهة) وحدها في الحديقة، وليسلم عليها فقط، باكياً، مستذكراً زمالته وصداقته مع اخيها جعفر الجواهري، شهيد وثبة كانون المجيدة عام 1948..
(2) من يصدق – مثلا- ان مهند البراك وقف وحده ليغني على المسرح في احدى فعاليات مهرجان الشبيبة والطلبة العالمي ببرلين صيف عام 1973 انشودة : (عاش أتحادي، رغم الاعادي. ماشي بطريقه، متفاني من أجل بلادي)!.