الرئيسية / مقالات / ملحمة كلكامش/مقاربات سياحة تأريخية في مفهوم “الخلود”

ملحمة كلكامش/مقاربات سياحة تأريخية في مفهوم “الخلود”

السيمر / الثلاثاء 12 . 01 . 2016

عبد الجبار نوري

شعار المقالة /العراقي الحقيقي ليس بأصله وفصله ، بل هو كلُ من أحب العراق شعباً وأرضاً وتأريخاً

ملحمة كلكامش/هي ملحمة سومرية مكتوبة بخطٍ مسماري ، على 12 لوحاً طينياً ، أكتشفت لأول مرّة عام 1853 ، وموجودة اليوم في المتحف البريطاني ، مكتوبة باللغة الأكادية ، مُذيّلة بتوقيع شخص أسمهُ ” شين نيقي ” ، ويعتقد على أنّهُ كاتب الملحمة ، والتي تعتبر أقدم قصّة سياحية كتبها الأنسان قبل أربعة آلاف سنة ، وأن ملحمة كلكامش أو الصراع مع الموت للحصول على الخلود هي أجمل نص شعري تمّ أكتشافهُ في وادي الرافدين ، ولأول مرّة في تأريخ العالم نجد تجربة عميقة بهذا المستوى البطولي باسلوبٍ شعري وترجمها إلى الأنكليزية جورج سميث سنة 1872 وبعدهُ ترُجمتْ إلى عدة لغات ( الفرنسية والألمانية والأيطالية والأسبانية والعربية والتركية والفارسية .
وفي دراسة للدكتور علي القاسمي في كتابه الموسوم ب(عودة جلجامش) يرى أنّ ملحمة جلجامش تصدت لثلاث قضايا : {الحياة- الحب – الموت} ولنبدأ من النهاية ، لآنّ النهاية ليست أقل شأناًمن البداية / أنتهى .
أنّ موت أنكيدو جعل صديقهُ جلجامش يتيه في بيداء الحزن والوحدة والأحباط الممزوجة باليأس والأمل ، فعايش جلجامش صراعاته وأرهاصاته الداخلية في تفكيره الحزين في البحث عن أجابة شافية للسؤال المحير الكثير الجدل : لماذا مات صديقه الحبيب ” انكيدو” ؟ وما هو الموت ؟ فتفكيرهُ الحزين هذا دفعه إلى البحث عن الأجابة المقنعة في الكيفية التي يمكن للأنسان أنْ يتخلص بها من الموت ليبقى مخلداً كالآلهة ، فهو يثرثر مع هواجسه بصمتٍ رهيب : لو كان الأنسان قد توصّل إلى ذلك لما مات صديقهُ ” أنكيدو ” ، ولما أرتعب خوفاً من الموت المرتقب ، ولهذا كله ينطلق جلجامش في رحلة الأهوال والمخاطر للحصول على نبتة الحياة السحرية في أغوار البحار والمحيطات ، يقطع جلجامش فعلاً أصقاع الأهوال والبراري ويغوص في أعماق البحار ويحصل – بعد هذا العناء الخارق – على نبتة الحياة السحرية وهي نبتة الخلود التي تكمن سرها في قرارة ” اتونابشتم ” تلك الشخصية الأسطورية الخالدة ” وعندما يجد جلجامش ضالته أتونابشتم في معرفة سرخلوده ، يبدأ الأخير بسرد قصة الطوفان العظيم الذي حدث بأمرٍ من الآلهة وقد نجى اتونابشتم وزوجته فقط من الطوفان ، وقررت الآلهة منحهم الخلود ، ودلهُ أتونابشتم على سر الخلود في العشبة الموجودة في قعر البحار، فغاص جلجامش البحار ووجد العشبة السحرية ، ولكنهُ يفقدها وهو في طريقه إلى الوطن فقد أبتلعتها الأفعى عندما كان نائما ً ، وعندما أفاق لم ير سوى أفعى تنساب إلى جحرها بنشاط متجدد مخلفة وراءها جلدها القديم ، وهنا يعتصر الأسى قلبهُ الحزين والدموع تنهمر من عينيه ، بعد عذابات هذه السياحة التأريخية المضنية والمحفوفة بالمخاطر والوحدة وقتال عنيف ورهيب مع الوحوش و الطبيعة الوعرة ووحوشها الفتاكة ، وأخيراً توصل إلى قناعة عقلانية وهي : { لا خلود لأحدٍ من البشر ، قررأطفاء تلك الحرائق المتأججة في أعماقه بصمود وصبر الرجال أن يغتنم الحياة الآفلة ، ويتمتع بالصبح ما دام فيه ، وهنا تكمن العقدة المفصلية الفلسفية بأن الأسطورة عالجت وتناولت الهموم والأفكار التي تؤرق الأنسان ، والتي هي الخلاصة من القدر المحتوم ( الموت والفناء ) والتي أصبحت الفلسفة السوسيولوجية الأجتماعية وعقدة الكثير في أيجاد مخرج منطقي عقلاني لجواب السؤال لماذا الموت ؟ فكانت أسطورة ملحمة جلجامش ( الكود ) الذي فكّ الغاز رموز النهاية المأساوية للبشر ، وفتحت فضاءات رحبة في الأجابة المقنعة ، أذ لابد من ترك المقاعد للأجيال التالية حسب قانون الحياة لرفد المجتمع بدماء شابة جديدة .
وبرهن جلجامش أنّ الخلود ليس بالضرورة أنْ يحتكرها ” أتونابشتم ” بل ترك الأنسان ” الذكر الحسن” بأن يقدم الحب والسلام والبناء والأعمارللمجتمع ، لذلك قرر جلجامش الرجوع إلى الوركاء وبناء مدينة { أوروك } ، ونشر الحرية والمساواة وحكم بالعدل ، بحيث جعل الأنسان السومري والأكدي محترماً بل أعلى حتى من الألهة والقديسين ، وهذا ما يقوله لنا ” جلجامش ” في الملحمة التي كُتِبتْ في حدود 2700 ق. م وبقيت حيّة إلى هذا اليوم { أليس هذا هو الخلود} —-

مقاربات ومضامين فكرية :
1-أن الأسلوب الأدبي الفذ الذي حمل القضايا والهموم الأنسانية والمتمثلة في التحرر والخلاص من الهيمنة الخارجية ، وأنّ أرادة الأنسان تبرز وتسطع في الملحمة وكأنها شمس تطرد وتحارب الظلام ، وترسخ فكرة الأصرار والتصميم على هدم أسوار الخوف والأنطلاق إلى فضاءات رحبة ، فالملحمة تعتبر رائدة في مد جسور الديمقراطية ومباديء الحرية والتمدن إلى العصرنة والحداثوية الحالية .
2- وأنّ أرادة ” جلجامش ” الأنسان تتفوّق على حواجز الآلهة الوثنية ، وتتخطاها وحققت أنتصارات عليها وبشكل متواصل متجاوزة ومتحدية أياها حتى وصل إلى ( الخلود) بالعمل الصالح والسيرة الحسنة وخدمة المجتمع بمفهوم عقلاني فيها البطل ” أنسان ” لا آلهة ، ولعلها الرائدة في ترسيخ الأعتقاد بنفس المفهوم الدنيوي لنيل ( الخلود) بالدار الآخرة التي هي الجنة الموعودة للصالحين .
3- وللبحث في مقاربات السياحة التأريخية عند الفرد العراقي ( كلكامش) السومري القديم ، والحالي العراقي الضائع نجد: أنّ كلاً منهما يبحث عن ضالته ( الخلود في الفردوس المفقود ) الأول تكمن عذاباته في ” أفعى ” الأسطورة ، والثاني العراقي الجديد قد فقد القدرة على التمييز خلال أرهاصاته وصراعاته السايكولوجية والسوسيولوجية ومعاناته من سياطات الدكتاتورية والعوز والجلد الذاتي قد أقترب من كلكامش في البحث عن الفردوس المفقود أو الوطن البديل في أصقاع المنافي ، مع وضوح الرؤيا عند الأول وضبابيته عند الثاني المنهزم والمشتت فكرا ومعنويةً وهو يجوب المدن لندن باريس بحر أيجه في مغامرات أنتحارية مسبقه في زوارق مطاطية وصهاريج مقفلة لعله يجد الوطن البديل في غابات الثلوج الموحشة في حلمه الكابوسي المزيّف في البحث عن الفردوس المفقود وبالتالي لم يجد لا فردوس ولا خلود ، وكانت (مقاربة) في بداية الرحلة التأريخية بين الأثنين و(مفارقة ) سعيدة عند الأول ومأ ساوية عند الثاني .
4- أن ملحمة جلجامش تعاملت مع حواس من عالمنا الدنيوي مثل الأنسان والطبيعة والحب والمغامرة والصداقة والحرب وتمكنت من مزجها ببراعة متناهية لتكون خلفية لموضوع الملحمة الرئيسي الذي هو ( حقيقة الموت المطلقة ) وأن الكفاح الشديد والمضني لبطل الملحمة من أجل تغيير مصيره المحتوم عن طريق البحث عن سر الخلود ، الذي أنتهى بالفشل بيد أنه لم يستسلم ووجد الخلود في رحلة الرجوع بنى مدينة أورك وأرسى فيها الحرية والمساواة والعدالة وبذلك خلد نفسه بمقتضي مفهوم الحداثة والعصرنة المؤطرة بالتمدن والحضارة في فهم قيمة الأنسان كأثمن رأسمال ، ففي الحداثة والعصرنة التي نحياها كثيرون من القادة والعلماء خُلدوا على مر العصورلأنّهم أحدثوا تغييراً جوهرياً أيجابياُ في خدمة المجتمع البشري والتي أعتبرت نقلة نوعية في حياة الكائن البشري إلى الأفضل مثل : أديسون مخترع الكهرباء ، وأنشتاين صاحب النظرية النسبية ، ونلسن مانديلا صاحب الثورة البيضاء ، والقس لوثر صاحب الثورة الدينية التصحيحية ، وليم مورتون 1819 طبيب أسنان يعتبر أول من أكتشف البنج عام 1846في العمليات الجراحية —- و ووو.
5- وفرضت الملحمة ( أستمراريتها )- كملحمة سومرية عراقية نفتخر بها – على مر العصور ، ولا تزال حيّة ومتداولة بين شعوب المنطقة بقصة الطوفات التي وردت في الكتب المقدسة التوراة القديم والأنجيل والقرآن بحكاية ” نوح”، بل يعتبر البعض أنهُ مشابهاً أن لم يكن مطابقاً لشخصية ” نوح ” في الأديان اليهودية والمسيحية والأسلام .
6- طالما كان مفهوم الخلود في الملحمة هي فلسفة وجود الأنسان ، فهو للبناء والأنتاج وخدمة البشرية لا للأكل والشرب ( كما قال الأمام علي : “أنا لست كالبهيمة همها علفها ” وبهذه ( الأنسنة ) خُلِدَ جلجامش ، ولاحظ الباحثون أنّ تأثيراتها وجدت في ملحمة هوميروس ( الألياذة والأوديسا ) وهناك من قارب بين ( أكيليس ) بطل الألياذة ورفيقهُ ( باتروكليس ) بالبطل جلجامش ورفيقهُ ( أنكيدو ).

ملاحظه / المقالة بحثية أدبية

( بعض الهوامش والمصادر )
** ملحمة كلكامش في الثقافة الغربية القديمة والمعاصرة /ادمون كوريا /باحث سوري . ** د/ علي القاسمي – عودة جلجامس
** أسطورة الخلق السومرية . ** الطوفان والكتب المقدسة . ** ملاحم وأساطير / أنيس فريحه – دار النهار – بيروت 1979

اترك تعليقاً